الباب الأول : (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الاطار النظرى )
الفصل الأول : ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر اسلاميا وقرآنيا )
خامسا : غياب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يعنى هلاك الدولة
( 7 ) الاهلاك الجزئى أو التعذيب للمسلمين بعد نزول القرآن الكريم
أولا :تحذيرات متفرقة لنا بالاهلاك الجزئى أو التعذيب بعد نزول القرآن الكريم
1 ـ القصص القرآنى عن اهلاك الأمم السابقة وقوانين الاهلاك لم تأت عبثا ـ تعالى الله جل وعلا ـ ولكن جاءت فى تحذيرنا ، نحن الأمم التى عاصرت نزول القرآن والأمم التى أتت وستأتى بعد نزول القرآن الى قيام الساعة . هذه الأمم تشترك فى سمة عامة وهى العالمية ، لم يعد العالم كما كان سابقا جزرا سكانية متباعدة منعزلة ، بل بدأ العالم يترابط منذ عصر الرسالة القرآنية الخاتمة ، وإزداد ترابطه بالكشوف الجغرافية والتقدم العلمى المضطرد الذى كشف مجاهل الكرة الأرضية بل إمتد يكتشف مجاهل المحيطات والفضاء الخارجى . هذه المرحلة من التطور البشرى تنذر مع نزول الرسالة الخاتمة باقتراب الساعة.
وهذا يعنى أن هذه المرحلة من تاريخ بنى آدم تعنى نوعين من الهلاك :
1 / 1 : الهلاك الجزئى بالتعذيب ، وقد بدأت بوادره بهلاك قوم فرعون وأصبحوا أئمة للهالكين من بعدهم الى قيام الساعة ، وهذا يعنى هلاكا لقوم تتحقق فيهم شروط الاهلاك دون قوم آخرين ، ربما يجاورونهم . وهو اهلاك بالتعذيب الذى لا يعنى فناء الجميع ، بل بعضهم . وهوإمّا بالكوارث وإما بالحروب الأهلية كما جاء فى قوله جلّ وعلا (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) ( الانعام 65 )، فقوله جلّ وعلا: (عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) يعنى الكوارث الطبيعية ، منها ما لا دخل للإنسان به مثل الزلازل والبراكين ، ومنها ما ينتج عن فساد الانسان وعبثه:( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )(الروم 41 )،أما قوله جلّ وعلا :(أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) فيعنى الحروب الأهلية الناتجة عن انقسام الأمة الى طوائف متحاربة. لكن لم يعد واردا ذلك الاهلاك العام للجميع والأتى بالتدخل الالهى المباشر الذى كان يحدث لقوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود .
1/ 2 : جاء بديلا له قيام الساعة بتدمير العالم وهلاك عام لآخر جيل بشرى ، وما يلى ذلك من خلق عالم جديد يشهد بعث البشر ولقاء الله جل وعلا يوم الحساب : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( ابراهيم 48 ) وفى التحذير من هذا اليوم الذى اقترب بنزول القرآن يقول جل وعلا : (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) ( ابراهيم 49 : 52 )
2 ـ بالاضافة الى ذلك التحذير من اقتراب الساعة ونزول القرآن الكريم بيان تحذير وبلاغ إنذار فقد تكرر ضرب الأمثلة لنا ، ومنها قوله جل وعلا :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) .
يلاحظ هنا حقيقتان : الأولى إنطباق الآية على مسلمى عصرنا ، خصوصا فى دول المسلمين البترولية، فقد أوتيت نعمة مادية وهى الثروة فبدلتها كفرا ، وأوتيت نعمة معنوية هى القرآن فبدلتها أيضا كفرا وتمسكا بأديان أرضية . ولا شك أن الايات الكريمة كانت تنطبق أيضا على عصور ( إسلامية ) مضت ، من العصر العباسى الى العصر العثمانى . والحقيقة الثانية أن العقاب لهم بالهلاك بالدمار والبوار ، وبقيام الساعة : (وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ ). ويأتى العلاج وسبيل الانقاذ فى الآية التالية :( قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلالٌ ) ( ابراهيم 28 : 31 )، إذا آمنوا وأقاموا الصلاة وأنفقوا فى سبيل الله قبل مجىء اليوم الآخر فقد نجوا وأفلحوا. وهو علاج ليس مكلفا لقوم أنعم الله جل وعلا عليهم بالنعم ، أى بدلا من الكفر بالنعم المادية يكون الانفاق منها فى سبيل الله ، وليس فى سبيل الشيطان والصّد عن سبيل الله جلّ وعلا، وبدلا من الكفر بنعمة القرآن الكريم يكون الايمان والعمل الصالح وإقامة الصلاة سلوكا قويما وتقوى لله جل وعلا .
وننبّه بأن القرآن موصوف بأنه نعمة الله جل وعلا : يقول جلّ وعلا لخاتم المرسلين عليهم جميعا السلام يأمره بالتحديث بالقرآن : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )( الضحى 11) ، فليس له حديث سوى القرآن نعمة ربه جلّ وعلا . وفى مواجهة اتهامهم له بأنه كاهن ومجنون يأمره ربه جلّ وعلا بالتذكير بالقرآن نعمة الرحمن : ( فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ )(الطور 29 )، ويقسم له ربّه جلّ وعلا أنه ليس مجنونا بسبب هذه النعمة :(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ)( القلم 1 : 2). وردّا على إعراضهم فما عليه إلّا تبليغ نعمة الله :(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) ثم يقول عن مشركى قريش الذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها : ( يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ ) (النحل 82 : 83) . ويقول جلّ وعلا لنا : ( وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ )،(231 البقرة )(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً ) ( المائدة 3). وبهذا نفهم معنيين لكلمة النعمة فى قوله جلّ وعلا :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا ).
3 ـ وطريقة الاهلاك لقوم لوط تنتظر من يسير على سنّتهم ، يقول جل وعلا عنهم :( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) (هود82 : 83). قوله جل وعلا ( وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ) تحذير مباشر لمدمنى الشذوذ من المسلمين وغيرهم من العصر العباسى الى قيام الساعة . والايدز كعقاب للشذوذ الجنسى فى عصرنا دليل على ذلك .
4 ـ ونزلت سور تحكى قصص الأمم المهلكة وما حدث مع أنبيائهم . جاء هذا فى سور الاعراف وهود والشعراء والأنبياء ، وكان القصص يشير الى اليوم الآخر ليربط أمامنا ما حدث من اهلاك فى الماضى . وفى سورة الحاقة مثلا ـ وهى من قصار السور ، تبدأ بالاشارة الى هلاك السابقين من طوفان نوح وعاد وثمود الى فرعون ، ثم ما ينتظرنا يوم القيامة:( الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) .
بعدها يأتى الحديث عن القيامة وأحداثها :(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ (15) وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18). ويستمر الحديث الى أن تنتهى السورة بالحديث عن القرآن الكريم البيان النهائى والبلاغ النهائى للبشر قبل قيام الساعة :( فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم ( 52).
ثانيا : ونتوقف هنا مع إستعراض لسورة القمرمثالا فى تحذير البشر قبيل قيام الساعة .
1 ـ فى رؤية أفقية للسورة فهى تبدأ باقتراب الساعة وإعراض المشركين عنها برغم التحذيرات التى تأتى اليهم ، وموقفهم يوم البعث والنشور والحشر الى لقاء الله جل وعلا . ثم لفتة سريعة الى إهلاك الأمم السابقة من قوم نوح الى قوم فرعون ، مع إختتام الحديث عن كل قوم بتذكيرنا وتحذيرنا بالقرآن الميسّر للذكر والعظة . وبعدها يأتى لنا الخطاب المباشر بمصيرنا يوم القيامة.
2 ـ فى إفتتاح السورة يقول جل وعلا :( بسماللهالرحمنالرحيم اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) .. هنا يأتى التعبير بصيغة الماضى عن أمر سيقع فى المستقبل وهو إنشقاق القمر ، والتعبير بالماضى عن أحداث القيامة المستقبلية يعنى تحقق الوقوع ، كما يشير الى اختلاف الزمن الأرضى لدينا عن الزمن البرزخى وما فوقه ، فقرار قيام الساعة تم إتخاذه ، وأتى به الأمر ، ونحن سائرون فى زمننا الأرضى المتحرك حتى نقابل هذا الأمر،وبهذا نفهم قوله تعالى عن قيام الساعة وصدور الأمر بها فعلا مع نزول خاتم الرسالات السماوية للبشر :( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ )( النحل 1 : 2 ). وبهذا فقد صدر الأمر الالهى بانشقاق القمر مع اقتراب موعد الساعة:(اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ). وإنشقاق القمر يقع ضمن انشقاق السماوات وتفجير الأرض ،أى زوال النظام الالهى الذى يمسك الأرض والنجوم والمجرات والسماوات : (فَإِذَا انشَقَّتْ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ) ( الرحمن 37) ( إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )( الانشقاق 1 : 5 ). وبتدمير العالم وتفجيره تقع الواقعة ويأتى اليوم الآخر بحضور رب العزة والملائكة وتمام تحكمه وزوال حرية البشر التى كانت لهم ، ويتم عرضهم وحسابهم : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ )( الحاقة 13 : 18 ).
3 ـ هذا الهول القادم والذى يخبر به رب العزّة ويحذّر منه يقابله المشركون باتهام القرآن بالسحر والتكذيب واتباع الهوى برغم ما حفل به القرآن من أنباء السابقين والحكم والمواعظ ، يقول جل وعلا :(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) . وتكرر هذا فى قوله جل وعلا فى مفتتح سورة الأنبياء : ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ )(الأنبياء1 : 6 ). فقد اقترب يوم الحساب والناس فى غفلة معرضون لاهون يستمعون القرآن وهم يلعبون . هذا ، مع أن الجيل الذى سيشهد وقوع الساعة سيشهد رعبا لامثيل له بحيث تذهل الأم المرضعة عن رضيعها ، ويتم إجهاض الحوامل ، ويكون الناس سكارى من الهول وليس من شرب الخمر. الله جل وعلا يحذّر منه مقدما ويعتبره عذابا فى حدّ ذاته:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ )(الحج 1 : 2 )
4 ـ يكون الحال أكبر هولا عند البعث ومسير الناس وحشرهم الى لقاء الرحمن ، يقول جل وعلا فى سورة القمر :( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِي إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) . يبدأ البعث بانفجار تصحو فيه كل نفس من نومها أو موتها وتخرج من قبرها البرزخى بعد تدمير هذه الأرض ، ثم بانفجار آخر يتم حشرهم فى جماعات وتجميعهم ، يقول جل وعلا عن الانفجار الأول الذى يتم به البعث ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنْ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ)، أى يخرجون من قبورهم البرزخية كأن تلك القبور كانت حبلى بهم وقد تناسلوا منها ، ويتعجبون ويتساءلون عمّن بعثهم من نومهم :( قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا )، ويأتيهم الرّد بأنه تحقيق لوعد الرحمن الذى كانوا به يكذّبون : ( هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ )، ثم يأتى الانفجار التالى الذى يقذف بهم الى ساحة الحشر والتجميع والعرض أمام الرحمن :(إِنْ كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ )( يس 51 ـ ). آيات سورة القمر تصف حالهم عند الانفجار الخاص بالبعث ، حيث يخرجون خاشعة أبصارهم فى ذلّ شديد (خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ ) لا يستطيعون عصيان الداعى : ( مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي ) يتحسّرون من هذا اليوم الذى ينتظرهم (يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ).
يخرجون من قبورهم كأنهم جراد منتشر: (يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ ). الحديث هنا عن أنفس وليس عن أجساد فقد فنيت الأجساد البشرية فى الأرض الفانية ، وقبل فناء الأرض فإنها تسلّم للأرض التالية الباقية الخالدة البطاقة الخاصة بكل فرد فينا:(وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )(الانشقاق 3 : 5). بالبعث تخرج النفوس من القبور طائرة كأنها الجراد المنتشر :( يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ). أو كالفراش الطائر المبثوث فى كل ناحية : ( يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ )( القارعة 4 ). يخرجون جماعات واشتاتا ليروا أعمالهم قبل أن ترتدى كل نفس عملها:( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) ( الزلزلة6) . يخرجون أفواجا مثل أفواج المشركين حين يذهبون الى موالد الأولياء ولكن مع ذلّة وإنكسار :( يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)( المعارج 43 : 44 ).
5 ـ بعده يأتى المحور التالى من السورة يذكر قصص بعض الأنبياء السابقين وما حدث لأقوامهم من هلاك . يبدأ بقوم نوح:( كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) ثمالتذكير والتحذير وبيان تيسير القرآن للذكر والدعوة لمن يتذكّر:( وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
وقوم عاد:( كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) ثم التذكير والتحذير وبيان تيسير القرآن للذكر والدعوة لمن يتذكّر: ( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
ثمقوم ثمود :( كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنْ الْكَذَّابُ الأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) ثم التذكير والتحذير وبيان تيسير القرآن للذكر والدعوة لمن يتذكّر(فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
الى قوم لوط: ( كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) ثم التذكير والتحذير وبيان تيسير القرآن للذكر والدعوة لمن يتذكّر(فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40). ثم الى قوم فرعون ( وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42).
6 ـ بعدها يتوجه رب العزة لنا بالخطاب : فهل كفّار عصرنا خير من الكفّار السابقين ؟ أم لنا حصانة الاهية مكتوبة ومسجّلة :( أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) ؟ ولو إغتررنا بقوتنا فالهزيمة مآلنا ولن نستطيع الفرار من الله جلّ وعلا :( أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45).وأمامنا الساعة تنتظرنا ونحن نسير اليها قدما ، وهى أفظع وأشد مرارة:( بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46). ثم يوم القيامة سيكون المجرمون فى عذاب هائل خالد :(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) . ولقد خلق الله جلّ وعلا هذا الكون بأرضه وسماواته وما بينهما من نجوم ومجرات وأفلاك بتنظيم مبدع وتقدير يجعل له نهاية مرتبطة ببدايته ، وتأتى الساعة بأسرع من سرعة الضوء: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) .ثم يعود رب العزّة للتذكير بهلاك السابقين لعلنا نتذكر:(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) ، وأن كل ما فعلوه مكتوب ومسطّر سواء صغر أم كبر : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53). ويأتى ختم السورة بالبشرى لأصحاب الجنة ، وهم المتقون الذين ينعمون بالقرب من الرحمن جل وعلا : ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55).
ودائما وأبدا : صدق الله العظيم .!!