أوّلا :
فى عام 1992 وصل الصراع العسكرى بين الارهابيين السنيين الوهابيين ونظام حسنى مبارك الى ذروته ، ووصلت ضحاياه الى المئات من المصريين الأبرياء بالاضافة الى إغتيال صديقى الراحل فرج فودة بعد صدور فتوى تكفير تدعو لاغتياله وإغتيالى وكنا قد أعلنّا عن ( حزب المستقبل ) . كان لا بد من تعضيد النظام ضد التطرف الارهابى السّنى ، وأسهمت مع مجموعة من المناضلين المصريين فى تكوين ( الجبهة الشعبية لمواجهة الارهاب) ، وكنت المقرر الفكرى لها ، وكنّا فى هذا الوقت طوق النجاة لنظام حسنى مبارك ، فكان يرسلنا الى ( جبهة الصراع العسكرى ) فى الصعيد لنقف مع ضحايا الهجمات الارهابية من الأقباط وغيرهم ، فى وقت إنفض فيه عن النظام منافقوه من المثقفين والكتّاب ورجال الدين. وبعضهم أصبح يغازل تيار التطرف ليحجز له مكانا فى الاتوبيس القادم . كان لنا فى هذا الوقت نفوذ وقتى بسبب حاجة النظام لنا ، لم نستخدمه إلّا لإيصال رؤيتنا الاصلاحية ، فاجتمعنا بوزراء الداخلية والاعلام والتعليم وغيرهم . ولأننا نعرف مقدما إنهم بمجرد خروجهم من الأزمة سيلفظوننا بل ربما يعيدوننا الى السجون وسيرة الاضطهاد فقد حرصنا على ترديد النصح للنظام بترك سياسة ( الاستدعاء والاستغناء ) أى أن يستدعوننا عند الحاجة ثم يستغنون عنا بعدها . كنا نريد أن يستمر التعاون بيننا فى سبيل الاصلاح . لم يحدث هذا بالطبع ، إذ بمجرد أن إستعاد نظام مبارك سيطرته وانتصر على الارهابيين التفت الينا مكشّرا عن أنيابه ، وعاد الاضطهاد لى بالذات بعد فترة شهر عسل قصيرة ، والشيوخ الذين كانوا يغازلون التطرف وينفضّون عن النظام إستعادوا مكانتهم وعادوا يستخدمون ( أمن الدولة) ضدى ...! كما كان .
ولكن على أية حال وصلت الى مسامع النظام كتاباتنا ، وتأكدت بنفسى من وصولها الى غرف صنع السياسة وقتها، وقد إهتمت (الهيئة العامة للكتاب) حين كان قائما عليها الراحل د .سمير سرحان بمواجهة التطرف ، فنشروا فى بعض إصدارتهم بعض مقالاتى ،وكان منها هذا المقال الذى نشرته من قبل جريدة الأحرار بتاريخ 3/8/1992 تحت عنوان (إنقاذ ما يمكن إنقاذه)،وأضافت (الهيئة العامة للكتاب) حين نشرته عنوانا جانبيا يقول( مسئولية الدولة فى نشر التطرف والارهاب وضرورة التغيير ) . قراءة هذا المقال بعد عشرين عاما أثارت الحسرة فى نفسى . كان مبارك يعرف كيفية الاصلاح ، ولكنه استمر فى الفساد والانحدار ..الى أن وصل أخيرا الى المحكمة ذليلا محمولا على سرير يستجدى العطف والشفقة . إنّ المستبد ليس عدوا لوطنه فقط بل هو أيضا عدو لنفسه .
ثانيا : المقال :
(إنقاذ ما يمكن إنقاذه :
( مسئولية الدولة في نشر التطرف والإرهاب وضرورة التغيير)
* كانوا يحكون في بلاد الفرس القديمة أن أربعة من السحرة اجتمعوا حول عظام حيوان ميت فاتفقوا على إعادته للحياة ونجحوا, وفوجئوا بأنه أصبح أسدا مفترسا, ونظر إليهم الأسد بعد أن عاد للحياة, وقال :هؤلاء أعادوني للحياة ويمكنهم أن يسلبوها مني , فأسرع بافتراسهم .. وتلك القصة الرمزية تكاد تنطق على حال الدولة المصرية وعلاقتها بالتطرف والإرهاب , لقد بعث السادات تيار التطرف من مرقده ليستخدمه ضد خصومه من اليسار والأقباط, ولكن سرعان ما افترسه التطرف وقتله , ولم تستوعب الدولة المصرية الدرس, فاتخذت مع التطرف سياسة التردد والمهادنة ومسك العصا من المنتصف على أمل أن تسيطر على تيار التطرف وتجعله يجلس على ركبتها، فاستيقظت الدولة من احلامها وإذا بها هىّ التي تجلس على حجر التطرف يتلاعب بها كيف شاء, وحين أدركت الدولة هذه الحقيقة أسرعت بحشد قواتها لتضرب معاقل التطرف المسلح وتسير في المعالجة الأمنية إلى النهاية, وأسرعت بالتوازي لتصدر قانون الإرهاب وتضع قيودا أخرى على هامش الحرية الضيق الذي يتنفس الناس من خلاله بصعوبة, والدولة لا تدري أنها بذلك تدق آخر مسمار في نعش وجودها , لأن المعالجة الأمنية وصدور قانون آخر يطلق يد الدولة البوليسية في العمل مع اشتداد الأزمة الاقتصادية وارتفاع الاسعار وكل ذلك مما يجهز المناخ الملائم لانتصار التطرف وانضمام أفواج الساخطين إلى رحابه, وفي النهاية لن يدفع الثمن إلا المخلصون لهذا الوطن أما فئران السفينة الذين يتسببون في غرقها فهم عادة أول من يهرب منها قبل الغرق .. !!
* إن مواجهة التطرف بالعنف لا يجدي لأن الفكر لا يواجهه إلا الفكر، بل على العكس فإن عنف الدولة يساعد على انضمام كثير من المحايدين إلى تيار التطرف, بل إن عنف الدولة لا يلبث أن يذهب بهيبتها – على خلاف ما يتوقع بعضنا – لأن الذي يدخل السجن لأول مرة يحث بالرهبة والخوف , ثم لا يلبث أن يعتاد الحياة داخله , فإذا دخله للمرة الثانية أحس بأنه يعود لبيته , وحين يخرج منه ربما يشتاق إليه خصوصا في زماننا الرديء , ثم إن استعمال الدولة للعنف يدفعها لمزيد وهكذا ختى تصل إلى نقطة اللاعودة و بعدها تنهار حتى تجد نفسها في مواجهة شعب بأكمله, وحينئذً ينهار النظام كما حدث مع شاه إيران وثورة الخميني ..
* لقد أصبح واضحا عجز الدولة أمام أزمة التطرف بعد أن أسهمت في انتشاره خلال جهاز الإعلام وجهاز الشرطة على وجه الخصوص . أسهم جهاز الإعلام في تلميع الجناح المدني للتطرف من خلال البعض الذين سيطروا على أجهزة الإعلام والمساجد الحكومية والأهلية وبنوا بين السطور بذور التطرف على شكل أحاديث كاذبة منسوبة للنبي عليه السلام يتم من خلالها تكفير المسلم واتهامه بالردة وتعريض حياته للخطر، ثم لا بأس بان تتعمق الفرقة بين عنصري الأمة من مسلمين وأقباط ويترسب في الأذهان أن القبطي مواطن من الدرجة الثانية يجوز استحلال دمه وماله وشرفه .. !!
وفي نفس الوقت أسهمت الشرطة في إضافة المزيد من الأنصار إلى الجناح العسكري للتطرف , من خلال تجاوزات في معاملة المواطنين في أقسام الشرطة أتاحت للبعض أن يشوه سيرة الأغلبية العظمى من الشرطة، ثم دخول الشرطة وهىّ عنوان هيبة الدولة في صراع مع المتطرفين تخلله كر و فر و اعتقال و افراج و مطاردات ومساومات ومباحثات وتنازلات , وأدى ذلك إلى ضياع هيبة الدولة بقدر ما أدى إلى تضخم الجناح العسكري للتطرف حتى اصبح يغتال من يشاء من المشاهير ويتحكم فيمن يشاء من القرى والمراكز في القاهرة والصعيد على السواء .. وضاعت أصواتنا هباءا في وجوب أن تكون الشرطة هىّ خط الدفاع الأخير لأن العنف لا يجدي في مواجهة الفكر .
* إن اجهزة الدولة التي ساعدت على تفاقم المشكلة لا نأمل أن يتم الحل على يديها. ولأن الأمر يعنينا نحن أكثر لأنه حاضرنا ومستقبل أولادنا فإننا ندعو الدولة لترك سياسة الاحتواء ومحاولة السيطرة على تيار التطرف إلى انتهاج سياسة جديدة لا تخاذل فيها ولا تردد, لأن الخطر يحيق الآن بمصر وحاضرها ومستقبلها, وليس مجرد نظام حاكم ..
إن كاتب هذه السطور قد لاقى الاضطهاد وعرف الفصل من العمل والتشريد لأنه أراد أن يبريء الاسلام من تراث التطرف الفكري وسبق الجميع في التنبيه على خطورة أن تستعين الدولة بالبعض الذين يدافعون عن فكر التطرف في مواجهة المتطرفين والآن أصبح واضحاً خطورة ذلك الجناح المدني للتطرف الذي يصدر الفتاوى بالقتل ثم يتحدث عن سماحة الإسلام بعد أن يغسل يده من دماء القتلى .. و لا أمل في قيام حركة فكرية دينية في وجود هؤلاء البعض التي يمنع بها مجرد الاقتراب من مناقشة جذور التطرف الدينية ومخالفتها لصحيح الإسلام ..
وندخل بذلك على المطلب الأساسى وهو اتساع هامش الديموقراطية ليشمل السماح للإخوان المسلمين وغيرهم بتكوين أحزاب دون شروط مسبقة , وأن يكون الحكم في ذلك ليس لجنة الأحزاب وإنما للشعب المصري الذي نضج فكرياً وحضارياً بحيث يعرف أين تقع مصلحته , ثم يتم السماح بإصدار الصحف لأي مصري لينشغل الجميع بالحوار فلا يكون هناك متسع للعمل السري وإسالة الدماء , والذي يختار بعد ذلك العمل السري يتكفل به القانون العادي, بعد إلغاء القوانين سيئة السمعة ومن بينها قانون الإرهاب المقترح ..
ومن الطبيعي أن يقترن ذلك بسرعة الاصلاح الاقتصادي وتقليص سيطرة البيروقراطية على الانتاج والاستثمار والخدمات وإعطاء الفاعلية لأجهزة الرقابة في مطاردة الفساد, وفي جو من الحرية والديموقراطية يستطيع الشارع المصري أن يتحمل الآثار الجانبية للإصلاح الاقتصادي, ويشعر المواطن بمسئوليته الشخصية عن وطنه ومستقبله فيتخلى عن السلبية, وإذا نجحنا في اجتذاب الأغلبية الصامتة إلى التفاعل مع مصلحة البلد فإننا نكون بذلك قد حرمنا تيار التطرف من المجال البشري الذي يسعى للسيطرة عليه, ونكون قد ضمنا النجاة بمصر وحاضرها ومستقبلها . ) .
أخيرا
انتهى المقال ..ولكن لم تنته علامات التعجب ..والحسرة ..