أحاول قدر ما أستطيع تجنب العاطفة في غير مجالها، ذلك عبر استبعاد ثنائيات مثل (تفاؤل/ تشاؤم) و(محبة/ كراهية)، فربما الفشل في التفرقة بين مجالي العواطف والتفكير العلمي هو أس الداء في مجتمعاتنا الشرقية، فالعاطفة إما أن تطفئ نور العقل، أو بأقل القليل تلون العالم أمامه بألوان زاهية أو قاتمة، وقد تضخم من حجم بعض من معالم الواقع إذا ما توافقت مع نوعية العاطفة، أو تقلل من وزنها أو حتى تعمي العيون عنها إذا لم تكن على الهوى. . بالطبع من قبيل الادعاء غير القابل للتحقق أن نتمكن من التخلص نهائياً من العاطفة، فأقصى الأمل هو الوصول بتداخلاتها إلى الحد الأدني عند الدراسات الموضوعية، مقابل أهميتها المحورية في حياة الإنسان حين يدخل بذاته إلى صلب القضية كعامل من بين العوامل موضوع البحث، فالإنسان إذا ما تجرد من العاطفة فيما يختص بالإنسانيات يتحول إلى آلة صماء لا خير فيها أو منها.
كنموذج ليكف يمكن للعاطفة أن تفسد العقل أو تبطل عمله، ما قمت به شخصياً من تكرار شرح "نظرية الفوضى الخلاقة" في العديد من مقالاتي، استناداً إلى الشرح العلمي الوافي والمتوفر في المصادر العلمية وعلى الشبكة العنكبوتية، تلك النظرية العلمية التي لا تقبل الجدل أو التشكيك إلا عبر تجارب معملية تثبت العكس، وتنطبق على العالم الفيزيائي والحيوي باسم "الانتظام الذاتي Auto organization"، وتسمى في المجال السياسي "الفوضى الخلاقة Creative chaos "، وقد نقتنع بتطبيقها السياسي أو لا نقتنع، لكنها لا تعني بأي حال التخريب والتدمير. . لكن المذهل أن المتثاقفين المصريين والعرب مصممون على اعتبارها تهديداً بتخريب الدول والمجتمعات العربية، هم عندما طرقت النظرية مسامع الشارع العربي للمرة الأولى على يد وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، لم يستقبلوها بعقولهم لفهمها وتقييمها، ليأتي بعد ذلك الرفض أو القبول، سواء التام أو الجزئي، فأجهزة الاستقبال العربية مفتوحة دوماً على موجه العاطفة، فالمفهوم أو الخطة قادمة ممن نحن متأكدون من أنهم "أعداء العروبة والإسلام"، وبالتالي فليس من مبرر لإعمال العقل لنتفحص طبيعة ما يقدم لنا، ولنسارع بالتعلق بالشق الأول من المصطلح "الفوضى"، الذي ترجحه لدينا عواطفنا المحتقنة بالكراهية والتوجس، ولنتجاهل الشق الآخر "الخلاقة"، الذي تضفي عليه عواطفنا لوناً قاتماً، أو معنى مضاداً لمعناه في القواميس اللغوية، ليصير لدينا كما لو كان يعني "التخريب" أو "التدمير". . عبثاً أن تحاول إفهام هؤلاء، مادام العاطفة هي التي تتقدم، فيما يتوارى العقل أو يروح في سبات أبدي!!
لنأت إلى محاولة لتناول واقعنا على موجة العقل وحدها، بعد أن نغلق على تردد العاطفة أو هكذا نزعم. . بالعقل نتخلص من آفة المقاربة وفق ثنائية (مع/ ضد) بصورتها المطلقة والفجة التي تفوح منها رائحة العاطفة، وإن ارتدت في بعض الأحيان مسوح المنطق والعقلانية. . بدون التخلص من هذه الثنائية يصعب على الأصدقاء والقراء استيعاب ما لم أقصِّر في توضيحه من أن التغيير الجوهري في موقفي الآن مما نسميه "ثورة الشباب" سواء المصري أو السوري ينصب على نتائج الثورة وهوية القوى الفاعلة فيها وأهدافهم غير النبيلة المناقضة لشعارات الثورة، وعلى انعدام الرؤية وتهافتها لدى القوى المدنية، وليس الانقلاب على مبررات قيام الثورة أو أهدافها الأصيلة المتمثلة في "عيش. حرية. كرامة إنسانية"، ورفض استمرار الحياة في ظل أنظمة مثل نظام مبارك أو نظام البعث الأسدي، وهذا يبقيني في صف "الثورة من حيث المبدأ"، حيث الرفض لما كان ومازال قائماً، لكن هذا لا يعني المكابرة بالاستمرار في ذات الطريق وبذات المقومات والعناصر التي أدت - ولا نقول توشك أن تؤدي – بنا إلى كارثة!!
أيضاً يقينا تنحية العاطفة من الانزلاق إلى المعاداة العاطفية وليس الاختلاف الفكري مع جماعة الإخوان المسلمين، فنغالط في تقييم وتوصيف دورهم في الثورة، فتشيع مقولة "سرقتهم للثورة". . الإخوان المسلمون لم يخطفوا الثورة، فهم الذين حولوها من مجرد حركة احتجاج إلى ثورة، بعد أن وصلت لذروة جعلتها تصلح لأن تتحول على أيديهم إلى فوضى شاملة تكسر قوى وزارة الداخلية، وترهب الجيش وتجبره على الإحجام عن التدخل العنيف في الحالة المصرية، وتدفع جيش الأسد البعثي المتجرد بالأساس والتربية الأيديولوجية من أي إنسانية إلى ارتكاب مذابح مماثلة لنظام القذافي المجنون.
تفوق وزن أداء الإخوان المسلمين يجعلها ثورتهم بحق، حتى لو لم يكونوا هم من أشعل شرارتها، فهم بالتأكيد الوقود الذي أعطاها زخمها وطاقتها. . هذا ما جعل المجلس العسكري المصري يميل تجاههم استرضاء، وجعل أحزاب وشخصيات يفترض فيها الليبرالية مثل د. وحيد عبد المجيد ود. عمرو حمزاوي تعمل تحت جناحهم طوال الوقت أو بعضه. . أي محاولات الآن لتغيير معادلة الأوزان النسبية لقوى الثورة لن تجدي، إلا إذا تغيرت موازين القوى في الشارع المصري، وهو ما يحتاج تحقيقه إن تيسر لسنوات وعقود أو ربما قرون، فلا يجب أن نعيد خداع أنفسنا بالجري وراء وهم تمنيناه بعواطفنا سابقاً وصدقته عقولنا، وهو ضعف شعبية الظلاميين بالشارع مع ما تبدى في الفترة الوجيزة الماضية من سوء أداء البرلمان الذي يسيطرون عليه، فقد قدم السلفيون مثلاً قبيل الانتخابات البرلمانية أنفسهم للمجتمع المصري في أبشع صورة، وكنا نقول دعهم يفضحون أنفسهم بأنفسهم، لنفاجأ باكتساحهم الانتخابات. . شعوبنا مهيأة تماماً لتسليم عنقها لهم بلا قيد ولا شرط، فهم رجال الله ونوابه على الأرض، وأمامنا لتغيير تلك الحالة مشوار طويل أشك في إمكانية البدء قريباً في أولى خطواته.
الأمل هو أن يتمكن شباب الأجيال القادمة من التطهر من ميراث أجيالنا التي نشأت في مستنقعات التخلف والانغلاق لقرون يصعب حصرها، فكان أن ضمر العقل وتعملقت العاطفة، لتقودنا للتصادم مع العالم الذي نكرهه فنتصوره يكرهنا، وأن يتمكنوا من الالتحاق بالعصر ومفاهيمه وقيمه، ويتيسر لهم مفارقة ثقافتنا وقيمنا وتقاليدنا بقطيعة تامة ونهائية. . أقصى ما نستطيع نحن فعله من أجلهم الآن أن نرحمهم من حكمتنا البالية، ومن ميراث عواطفنا التي تحكمنا وتقودهم للضياع.
في البيئة التي تتسيدها العاطفة ويتراجع العقل والعقلانية لنا أن نتوقع أن يكون لدينا رجال مفعمين بالحماسة الوطنية أو الدينية، والأخيرة متوافرة لدينا، ونرصدها الآن بصورتها الأكثر فجاجة فيمن يسمون أنفسهم "أبناء أبو إسماعيل"، الذين أعمتهم عاطفتهم الجياشة نحوه عن ارتكابه لجريمة الكذب والتزوير، رغم أنهم أهل دين وتقوى وقيم دينية تعتبر الكذب من الكبائر. . في مقابل ندرة أصحاب الرؤى العقلانية الرصينة، الذين يعدون في مجتمع كالمجتمع المصري وكأنهم الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.
وبين هؤلاء وأولئك نجد ربما غالبية ضائعة، لا هي صاحبة عاطفة وحماسة، ولا هي أهل لعقلانية لم يؤسس نظامنا التعليمي أساساً لمقومات امتلاك مهاراتها، هذه الطائفة من الفاترين الضائعين هي التي يخرج علينا منها من نوصفهم كمتلاعبين ومتأرجحين ومتسلقين وانتهازيين وما شابه من صفات تتنوع، لكنها كلها تشير إلى المصدر الذي خرج منه كل هؤلاء الذين لا يتحمسون لموقف، ولا يعتنقون مبدأ أو خطاً فكرياً تعرفه بهم وتعرفهم به، فنجدنا نردد في بعض الأحيان مقولات لا تصح إلا في مثل مجتمعاتنا، كمقولة أن "محترفات الدعارة الجنسية أشرف بما لا يقاس من محترفي الدعارة السياسية"!!
أستطيع مثلاً أن أحترم أداء أمثال أ. عصام سلطان نائب رئيس حزب "الوسط" المصري، فرغم أن كلمة "الوسط" هنا قد تعني "اللا موقف" على ضوء الاستقطاب الشديد حول القضايا المصيرية، إلا أن الرجل هدفه محدد بالنسبة له على الأقل، ويلعبها معارضة يريدها أن تبدو كما لو كانت من قبيل الاستنارة، أو من قبيل ذلك الادعاء المسمى "وسطية"، رغم أنها في النهاية تصب لصالح التخديم على الإخوان ومشروعهم للهيمنة على المجتمع المصري، لكن ماذا عن أداء أمثال د. عمرو حمزواي ولا نعدم الكثيرين مثله، ذلك الأداء الذي يشي بضياع في ضباب يلمع بأضواء ليبرالية، ولا يشير إلا للبحث عن التواجد والنجومية بأي طريق وكل طريق، لتكون النتيجة في النهاية أن يصير هذا الأداء عبئاً على التيار الذي يدعي الانتماء إليه، بحيث تحسب مواقفه عليه وليس له. . كم سيكون رائعاً أن يخلع مثلاً الحظاظة ويستقيم أداؤه وفق المنهج الليبرالي، أو أن يتمسك بالحظاظة في يده ويتبرأ علانية من الليبرالية وأهلها!!
فبدون حاجة لشهادة زوجته السابقة التي تطالعنا بها وسائل الإعلام: "مطلقة حمزاوي: كان يعمل مع جمال مبارك. . وطموحه للسلطة يدفعه لأي شئ حتي التحالف مع الإخوان."، فإن الأمر واضح كما قلنا، فسلوكه يشير إلى بحثه عن التواجد بأي ثمن وأي طريقة، ماتفرقش معاه أساساً.
هكذا أجدني مضطراً أن أعلنها صريحة، أن ما يدفع مثلي لإعلان الهزيمة والاستنجاد بالعسكر ليس فقط القدرات الظلامية للظلاميين، ولكن أيضاً تفاهة وارتزاق فريق ادعاء الليبرالية والعلمانية، وربما صح ببعض التجاوز القول أن تيار دعاة المدنية في مصر هو تيار من لا تيار ولا فكر ولا مبادئ له، وتائه في الساحة يبحث عن أي انتماء يضمه. . هو فريق يفتقد لكل من العقل والعاطفة.
كيف نهذب من عواطفنا ونقصر توظيفها على مجالاتها، وكيف ننمي مهاراتنا العقلية لتكون معيناً لنا حيث وحين نحتاج العقل لتدبر أمورنا وتفهم عالمنا؟. . ذلك هو السؤال!!