(6 )تحذير من إهلاك قائم وإهلاك قادم

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٢ - أبريل - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر  ).

الباب الأول : (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الاطار النظرى  )

الفصل الأول : (  الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر اسلاميا وقرآنيا  )

رابعا : دور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى قوة الدولة الاسلامية 

 (6 )تحذير من إهلاك قائم وإهلاك قادم   

  العرب والمسلمون على شفا الاهلاك: 

1 ـ وجود واستمرار أقلية مترفة وأغلبية فقيرة معدمة صامتة مقهورة يعنى قرية ظالمة . عندما ترفض القرية الظالمة الاصلاح وتطارد المصلحين  فالهلاك على الأبواب .هذا موجز ما جاء فى القرآن ، وهو ينطبق على كل زمان ومكان ، يقول جل وعلا فى قاعدة إهلاك القرى الظالمة فى تاريخ البشر:( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) ثم يقول فى سريان هذه القاعدة فى تاريخ البشرقبل نزول القرآن :( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا )، ولأن الظلم هو العملة السائدة فى تاريخ البشر الى يوم القيامة فإن إهلاك ( القرى الظالمة ) مستمر الى يوم القيامة بعد نزول القرآن طالما يوجد منذرون وطالما يتم إضطهاد المنذرين ،يقول جلّ وعلا فى قانون آخر للاهلاك يسرى فى المستقبل:( وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ). جاء هذا فى سورة الاسراء: ( 16 ، 17 ، 58 )

2 ـ يتحقق هذا الآن فيما يعرف بالعالم الاسلامى . فكل دولة فيه هى قرية ظالمة ، ولكن كان ينقصها وجود المنذرين فى القرون السابقة . ثم ظهر أهل القرآن منذرين من أكثر من ثلاثين عاما يدعون المسلمين الى الاصلاح السلمى بالقرآن بتطبيق حقائق الاسلام المهجورة فى الحرية الدينية والعدل والسلام والديمقراطية وحقوق الانسان . وصلت دعوة أهل القرآن الى الآفاق ، وأسهم فى نشرها خصومهم ،إما بأخبار اضطهادهم ودفاع المنظمات الحقوقية عنهم وإمّا بالهجوم عليهم ولفت الأنظار اليهم . بوجود الظلم وبوجود أهل القرآن منذرين إكتملت ملامح القرية الظالمة المرشحة للهلاك طبقا لقوله جلّ وعلا : (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) ( القصص 59 )( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ )( الشعراء 208 : 209 ) .

3 ـ بل وبدأ الهلاك الفعلى بزوال دولة الصومال وتفككها ، ثم التدمير الجزئى فى السودان والعراق وليبيا وأفغانستان ، وهو قائم فى سوريا الآن  ، وهناك إحتمال قوى بهلاك قادم لدول أو( قرى ظالمة ) أخرى فى الجزيرة العربية  ومصر  وشمال أفريقيا وباكستان . ولا يزال أهل القرآن فى دعوتهم ـ بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر  ـ ماضين ، ولكن لا يزال أهل القرى فى غفلتهم سادرين . خصوصا الأغلبية الصامتة ، الصامتة عن نصرة الحق ، والصامتة عن مواجهة الباطل والظلم .

4 ـ وممّا يعجّل بالهلاك قيام المترفين الحكام بتلميع جهلة الوعأظ من السلفيين العاديين ليكونوا أئمة الدعوة للدين الأرضى السائد ، فأفسدوا أفئدة الأغلبية الصامتة ، وأرضعوهم ثقافة العبيد والرضى بالظلم والصبر عليه ، ودخلوا بهم فى نفق الدين الأرضى وخرافاته وثقافته السمعية ، وأصبح وعّاظ الدين الأرضى نجوم الاعلام وقادة التوجيه فى المساجد وعلى الانترنت والقنوات الفضائية ، وأضاف هذا قوة للسلفيين الآخرين من الإخوان المسلمين ، وأصبح لهؤلاء وأولئك نفوذ فى الشارع أسفر عن وصول الاخوان والسلفيين الى أعتاب السلطة فى مصر وفى ليبيا وتونس . خلق هذا مشكلة عويصة راهنة . فالثورة قام بها الشباب ليس للوصول للحكم ولكن للتغيير الى حكم ديمقراطى حقوقى ، ولكن قفز عليها أئمة الأغلبية الصامتة من الإخوان والسلفيين . وأصبح الاختيار صعبا بين استبداد قائم يقاوم فى سبيل البقاء واستبداد قادم يعدّ العدّة لدولة دينية مستبدة ، تكون أسوأ من الاستبداد العادى . تجارب مصر وليبيا وتونس جعل المساندة الغربية للربيع العربى تتراجع خوف وثوب الاخوان على الحكم ، ولهذا تدفع سوريا الثمن تدميرا وإهلاكا دون مساندة من الغرب . ونفس المصير من التدمير ينتظر بقية القرى الظالمة العربية ، إن ثار أهلها إختطف السلفيون من السّنة أو الشيعة الحكم ،  وإن سكتوا إلتهمهم الظالم قضمة قضمة .  

5 ـ أى لا حلّ إلا بالوقوف ضد المستبد القائم والمستبد القادم معا . وإلا فالهلاك الجزئى قائم والهلاك الكلى قادم . أى لا بد من مواجهة الاستبداد بكل أنواعه ، ولا بد من وتكاتف الشباب الثائر ضد العدوّين معا . وهذا ما يناضل فى سبيله أهل القرآن ، فهم ضد الدولة الدينية واستبدادها شيعية كانت أو سنية ، وهم ضد المستبد العلمانى . وأهل القرآن ضحايا للإثنين معا ، والعادة أن المستبد القائم والمستبد القادم ينسيان خلافاتهما ويتحدان فى مواجهة أهل القرآن ، والأغلبية الصامتة بثقافتها السمعية تصدّق بل وتؤمن بكل ما يقال لها من أكاذيب ، فإذا قال الاعلام الرسمى والاعلام الشعبى ورجال الدين والوعّاظ أن أهل القرآن كفرة فهم عند الأغلبية الصامتة كفرة . ويتأسّس حاجز صلب بين دعوة الحق للمنذرين ( بكسر الذال ) والمنذرين ( بفتح الذال ) . ويظل المنذرون يعظون بدون تقصير ولكن بلا تأثير ، ويظل الظالمون فى غيّهم بلا نكير إلى أن يحلّ المصير ويأتى الهلاك للغنى والفقير والجاهل والمستنير . الأمل فى الشباب فى أن يواجهوا ذلك التعتيم على أهل القرآن وذلك التشويه لهم ، وذلك بمجرد نشر الفكر القرآنى ودعوة السلفيين والشيعة لمناقشته .

أهل القرآن ـ ومن خلال رؤية قرآنية موضوعية وفهم لتراث المسلمين وتاريخهم ـ لا يمارسون جلد الذات ، بل يوضحون تناقض المسلمين مع الاسلام ثم يضعون العلاج . فى هذا المبحث مثلا نوضح هنا الرؤية القرآنية التى يتناقض معها المسلمون فى موضوع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ثم نضع العلاج القرآنى على المستوى النظرى والمستوى التطبيقى . وهذه هى وظيفة المنذرين الذين يتصدّون لاصلاح القرية الظالمة قبل وحتى لا يحيق بها الهلاك . ولأن الإنذار يعنى التخويف والتحذير فإننا نعلن هذا التحذير.   

تحذير قبيل الهاوية :

1 ـ ليس هذا شماتة ، فلا يشمت فى وطنه وقومه من عانى فى سبيل إصلاح وطنه وقومه ، ولكنها صيحة تحذير قبل الهاوية، والهاوية هى حرب أهلية تفتح أفواهها لتلتهم الظالمين من مترفين وصامتين . إن الله جل وعلا يقول : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ( الأنعام 65 : 67 ). ليس هذا خطابا محددا بقريش حين كذّبت بالقرآن وجاءها التهديد من الرحمن بل هو تهديد يتخطى الزمان والمكان ، وهو إنذار لكل من كذّّب بآيات الله فى القرآن ، وعاند وصدّ عن سبيل الله جل وعلا. التهديد هنا بقدرة الخالق جل وعلا على أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ، مثل الأوبئة والتلوث والفساد فى البر والبحر بما كسبت أيديهم ، أو أن تقع بينهم الحروب وحمامات الدم ، ويذيق بعضهم بأس بعض. هذا ما جاء فى قوله جل وعلا : (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ .). ولم يفقهها الملأ الأموى الحاكم فى قريش ، ولم يفقها أتباعهم وأنصارهم من قريش ، وهم قوم النبى وأهله ، فتقول الآية التالية:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ). أى كذّبوا بالقرآن ـ وهو الحق ـ والردّ على تكذيبهم يأتى من الله جل وعلا . وهذا الرّد من جزئين :

2 ـ الجزءالأول هو: (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ )، أى أمر الاهى لخاتم المرسلين أن يعلن لهم أنه ليس مسئولا عنهم ، وتكرر هذا كثيرا فى القرآن الكريم ،ومنه قوله جل وعلا له عليه السلام: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)(الغاشية21: 26 ) . أى هو مجرد (مُذَكِّرٌ ) أو ( مبلّغ ) أو ( نذير ) ، ليس عليه سوى البلاغ ،فلا إكراه فى الدين ، وليس له السيطرة على أحد ( لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ). ومرجعهم الى الله جل وعلا وحده ، وهو الذى يتولى حسابهم وعذابهم : (إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ)، ومرجعهم الى الله جل وعلا وحده ، وهو الذى يتولى بعثهم وحسابهم (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ).أى ليس للنبى من الأمر شىء:(آل عمران : 128 )  بل لله جل وعلا الأمر كله، لذا قال له ربه جل وعلا:(وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) ( هود 121 : 123 ).

3 ـ الجزء الثانى من الرّد هو قوله جل وعلا مهددا مرة أخرى من يكذّب بكلام رب العالمين :( لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).أى يحمل لهم المستقبل أنباء سيئة آتية جزاء تكذيبهم. لم يكن كل قوم النبى مكذبين ، فقوله جل وعلا (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ) يتحدث عن الأغلبية المسيطرة،أى الأمويين . وتتميز سورة الأنفال بأن معظم حديثها ينصبّ على قريش ، من آمن منهم ومن كفر ، فقد نزلت تعقّب على الانتصار فى معركة بدر على قريش الكافرة. وبعد الحديث عن مشركى قريش جاء التحذير للقرشيين المهاجرين هائلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)(الأنفال 20 : 28). نقول أنه خطاب موجّه فى الأساس للصحابة المهاجرين بدليل قوله جل وعلا لهم يذكّرهم بالاضطهاد السابق : (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). والمستفاد منه أن هناك من القرشيين المهاجرين المشاركين فى بدر ،أو ( البدريين ) من جاء فى حقه هذا التقريع لأفعال بدرت منه ، منها معصية الرسول والتولى عنه ومتابعة الكافرين المعاندين من قومهم القرشيين الذين كانوا يتندرون على النبى بقولهم (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ )، بل أكثر من ذلك هو تحذيرهم من خيانة الله جل وعلا والرسول  مع علمهم بما يفعلون :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ). والمستفاد بكل أسف إن هذه القلة المؤمنة من البدريين القرشيين لم تسلم من التكذيب ، وإلا ما قال رب العزة فيهم هذا الكلام .

محل الاستشهاد هنا هو أن منهم من بلغ به التكذيب درجة أن يقول فيهم رب العزة : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )، أى فهناك منهم من هو عريق فى الظلم ، وهناك منهم من يسمع ويطيع لأولئك الظالمين ، والله جل وعلا يحذّر مقدما من طاعة أولئك الظالمين حتى لا يأتى العذاب ليشمل الجميع . ونعيد قراءة هذا التحذير الخطير: (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وبعده يذكّرهم باضطهاد قومهم لهم : ( وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) ثم يحذرهم من الخيانة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) . الذى أنزل هذا التحذير هو ربّ العزة الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. وهو جل وعلا يتحدث عن غيب وسرائر السابقين زمنا فى الاسلام من المهاجرين القرشيين . وهذا الغيب وتلك السرائر التى فضحها رب العزة تتناقض مع الشكل السطحى والمظهر الخارجى لأولئك السابقين زمنا فى الاسلام ، وهذا يؤكد صدق قوله جل وعلا للنبى وهو فى مكة عن أغلبية قومه:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ ).

4 ـ والذى حذّر منه رب العزة مقدما وهو قوله جل وعلا :(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) وقع فيه القرشيون بعد موت خاتم المرسلين ، وانتهاء القرآن نزولا ، وبعد أن اجتمعت قريش معا وتزعمت العرب . عندها توحّد المهاجرون الذين نزلت فيهم الآيات السابقة من سورة الأنفال مع الأمويين وبقية القرشيين الذين دخلوا فى الاسلام بعد طول عداء وحروب وخصام . أى إن من تحدثت عنهم سورة الأنفال وتحاربوا مع بعضهم انتهى بهم الأمر لأن يتحدوا مع بعضهم ، وأن يهمّشوا الأنصار الذين (آووا ونصروا ) والذين مدحهم رب العزة فى نهاية سورة الأنفال نفسها . خالف القرشيون المهاجرون وصية رب العزة بالانصار وتحذير رب العزة من التحالف مع الكفار ( الأنفال 72 75 ). وأتيح للأمويين تصدر الموقف بعد موت خاتم النبيين ، مما سهّل عليهم قيادة المسلمين الى الفتوحات العربية باستغلال إسم الاسلام ، وتلك جريمة كبرى فى حق شريعة الاسلام لأنها اعتداء على شعوب لم تبدأ المسلمين بالاعتداء ، ولأنها سلب ونهب واسترقاق وسبى واستعمار واحتلال لأمم لم تقدم سيئة للعرب أو المسلمين . ولأن الأمويين كانوا هم القادة فى هذا الظلم ـ من وراء ستار فى عهد أبى بكر وعمر وعثمان ـ وعلنا بعد أن أقاموا دولتهم ـ فقد تسببوا فى الحرب الأهلية الى قتلت قادة المهاجرين ، فمات أبو بكر بالسّم ، ومات عمر بالاغتيال ، وقتل الثوار الأعراب عثمان ، وقتلوا عليا ، وفى الحرب الأهلية فى معركة الجمل قتل الزبير وطلحة ـ وهما من رءوس الفتنة . وقتل معهم عشرة آلاف من الجانبين كل منهما يهتف ( الله أكبر ) ، ثم تكررت المذابح فى صفين والنهروان ، وتطورت فى حروب مستمرة بين الخوارج ومعاوية ، ثم فى عهد ابنه يزيد حدثت المآسى الثلاث : كربلاء واقتحام المدينة واستباحة دماء الأنصار وأعراضهم ، ثم حصار الكعبة وضربها بالمجانيق . أى خلال جيل الصحابة قام المهاجرون السابقون زمنا ومعهم الأمويون بمذابح لأمم لم تبدأهم بعدوان ، فيما بين فارس الى شمال افريقيا ، فيما يعرف بالفتوحات . ولما اختلفوا على تقسيم الغنائم والمسروقات اقتتلوا فيما بينهم وقتلوا قادتهم وقتلوا أنفسهم ,اذاق بعضهم بأس بعض. وحق فيهم تحذير رب العزّة فى المدينة بعد معركة بدر : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ). وتحقق فيهم ما نبّأ به من قبلها رب العزة حين فضح مكنون الأغلبية من قوم النبى فقال جلّ وعلا:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ)، وجاء تفسير النبأ (لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ) فى الحروب الأهلية التى خاضها الصحابة يقتلون أنفسهم بأنفسهم ، وتحقق ما حذّر منه رب العزة:(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ).

5 ـ ولكن لم يتحقق فيهم وفينا قوله جل وعلا:(انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) . فلم يفقهوا الآيات القرآنية ..ولم نفقهها نحن أيضا . لذا بدأ ما يعرف بالفتنة الكبرى بمقتل عثمان وما تلاه من حروب اهلية ولا يزال المسلمون يعيشون نفس المشهد ، فاقتتالهم فيما بينهم مستمر مستقر ، بل وتأسست على هامش هذه (الفتنة الكبرى ) دين السّنة ودين الشيعة ، ولا يزال الشيعة يعيشون ملاحم الفتنة الكبرى بدءا من بيعة السقيفة الى مذبحة كربلاء . ولا يزال العداء مستحكما بين السّنة والشيعة حول كبار الصحابة ، يقدّس الشيعة عليا وذريته ويلعنون أبا بكر وعمر وعثمان والزبير وطلحة والسيدة عائشة ومعاوية وأبا هريرة ويزيد ..الخ ، بينما يقدس دين السّنة كل الصحابة ويجعلهم دواتا معصومة من الخطا ، أو (عدول ) و أنهم كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم . ويجعلون مكانة (على ) بنفس ترتيبه فى الخلافة ،أى الأفضلية لأبى بكر ثم عمر ثم عثمان ثم على. وهذا يسبب لشيعة آلاما نفسية وربما فسيولوجية أيضا.

الفتنة الكبرى لا زلنا نعيشها الآن بكل حذافيرها فى صراع السّنة والشيعة فى إيران والعراق وسوريا والخليج والجزيرة العربية ، وفى قفز السنيين للسلطة فى مصر وتونس وليبيا ، وفى محاولتهم الوصول للحكم على أنقاض الاستبداد القائم فى شمال أفريقيا وموريتانيا والسودان وباكستان ، وبعد تدمير الصومال وأفغانستان . وفى مواجهة هذه الفتنة الكبرى نحذّر ونعظ قبل أن يتحول الهلاك الجزئى الى هلاك كلّى وحروب أهلية لا تبقى ولا تذر. نحن نحذّر من فتنة أو حرب أهلية لا تصيبن الذين ظلموا منا خاصة .

موعدنا مع مزيد من تحذيرات القرآن فى المقال القادم .

اجمالي القراءات 16067