كتاب (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ).
الباب الأول : (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الاطار النظرى )
الفصل الأول : ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر اسلاميا وقرآنيا )
رابعا : دور الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى قوة الدولة الاسلامية
(5) الأغلبية الصامتة نذير هلاك للمجتمع
المترفون وهلاك المجتمع : قراءة للأحداث المعاصرة
1 ـ بالظلم والاستبداد والفساد السياسى والاجتماعى مع تحكم الأديان الأرضية تتركز الثروة والسلطة فى أيدى أقلية مترفة فى مقابل أغلبية مقهورة فقيرة صامتة تناضل من أجل الحصول على الضرورى من متطلبات الحياة ، وطبقة وسطى هزيلة تحاول أن توازن بين دورها التنويرى ولقمة العيش . وجود هذه الطبقة المترفة يعنى أن ثرواتهم زادت عن الحد فتحول الأغنياء الأثرياء الى الترف . الغنى الثرى العادى منشغل بتنمية ثروته بالمنافسة الشريفة وغير الشريفة ، أما الثرى المترف فهو منشغل بكيفية الانفاق من ثروته فى الفساد والمجون ، بينما ثروته تتزايد بنسب فلكية دون أن يتعب لأنه بنفوذه وأعوانه ينهب ثروة الشعب بالأمر المباشر . العادة أنه كلما زاد تركّز الثروة لدى المترفين قلّ عددهم ، وفى المقابل تناقص عدد الطبقة الوسطى التى تقود المجتمع ثقافيا وفكريا وأخلاقيا ، وتضخّم عدد الفقراء والمعدمين مما يؤهّل المجتمع للتدمير بسبب وجود واستمرار هذه الطبقة المترفة الحاكمة ، وهذا التدمير قد يأتى من الداخل أومن الخارج .
2 ـ يأتى التدمير من الخارج بتعرض الدولة المستبدة لغزو خارجى من قوة طامعة خارجية تنتهز عزلة المستبد وأعوانه المترفين عن المجتمع وقهرهم للمجتمع وكراهية الناس لهم وعدم استعداد جند المستبد للتضحية بأنفسهم دفاعا عن مستبد ظالم لهم ولأهاليهم ولا يأبه حتى بجنده. والمترفون من قادة العسكر هم على سنّة سيدهم المستبد فى الفساد والتجبر وفى معاملة الجند كالرقيق والعبيد . وفى عصرنا لا يمكن للمستبد أن ينتصر على جيش آخر إلّا إذا كان الجيش الأخر مملوكا لمستبد مثله ، عندها ينهزم الجيشان.!! المستبد لا ينتصر إلا على شعبه المسالم الأعزل المنزوع السلاح . ولكن هذا لا يدوم لأنّ المستبد لو نجا من الغزو الخارجى فلن ينجو من عاصفة التمرد الداخلى والثورة الشعبية عليه .
3 ـ يحدث الانفجار الداخلى عندما تصل الأغلبية الصامتة الفقيرة الى النقطة الحرجة التى تتخير فيها بين نوعين من الموت : الموت جوعا أو الموت على أيدى جند المستبد ، وحين تصل أعراض الجوع والتذمر لجند المستبد الذين يبذلون دماءهم فى سبيله ، ومن أجله يقتلون أهاليهم المساكين .إنّ النّهم فى السلب والنهب من خصال المستبد الفاسد ليستأثر بالثروة كما يستأثر بالسلطة . وهو لا يعطى منها إلّا لأتباعه الذين يشبهونه فى الطمع والجشع وعدم الشبع . وبالتالى كلما زادت ثروات المستبد وأعوانه كان هذا على حساب بقية الشعب من الطبقتين المتوسطة والفقيرة، وبازدياد النهب لثروة الشعب تتضاءل ثروة الطبقة المتوسطة ويتحول معظمها الى طبقة الفقراء ، بينما يزداد الفقراء عددا وفقرا ويزداد المعدمون جوعا ، وبدخول الطبقة الوسطى بفكرها ووعيها وثقافتها الى عالم الفقر والفقراء فإنها تسهم فى وعى الفقراء وتنفث فيهم روح التمرد .
4 ـ معاناة الفقر والجوع وحدها لا تؤدى الى ثورة الفقراء والجوعى. ربما تؤدى الى هبّة وانتفاضة وقتية يمكن إجهاضها والسيطرة عليها ، ولكن لا يمكن أن تؤدى المعاناة فقط الى ثورة مستمرة إلّا فى حالتين : الأولى : أذا وصلت المعاناة الى حد الجوع الحقيقى والخيار بين الموت جوعا أو الموت قتلا فى الثورة الدموية ، والثانية : إذا زاد الوعى لدى الفقراء بحقوقهم المسلوبة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وضرورة القيام بالثورة ، أى إذا تخلص الفقراء من ثقافة العبيد .
5 ـ ثقافة العبيد تتحول الى ثقافة سامة إذا وجدت لها مسوغا دينيا ، بالاعتقاد بأن إرادة الله هى التى سلّطت عليهم الظالم بسبب ذنوبهم ، وأن الاعتراض على الظالم والظلم هو اعتراض على المشيئة الالهية ، وأن إنتقاد الظلم هو إعتراض على القدر الالهى. إنها الجبرية التى برع فيها الأمويون وكل المستبدين ، والتى وقف ضدها أحرار المسلمين الذين أسموهم ( القدرية ) لأن أولئك الأحرار قالوا ( لا قدر والأمر أنف ) ،أى إن الظلم ليس بقدر الله ولكن رغم أنوف الناس ،أى بقهر الناس . ، هذه هى ( القدرية ) أو مذهب الارادة الانسانية الحرة الذى يوجب مقاومة الظلم لأنه فعل بشرى وليس إرادة الاهية ،ولأن 9الله جل وعلا لا يريد ظلما للعالمين وقد حرّم الظلم وفرض مقاومته واعتبره كفرا فى السلوك ، وإذا تم تسويغه بمبرر دينى أصبح أيضا كفرا فى العقيدة. ولكن عمل فقهاء الدين السّنى بالذات على تقعيد الاستكانة والرضى بالظلم ، وصنعوا الأحاديث التى توجب السمع والطاعة للحاكم حتى لو ( كان عبدا حبشيا ) وأن طاعة سلطان غشوم خير من فتنة تدوم ، وانه لا يجوز الخروج على الحاكم مهما فعل . لو إعتنق المجتمع ثقافة العبيد واعتبر البؤس الذى يعيش فيه قدرالاهيا لا فكاك منه ، وأنه من سنن الحياة فلا يمكن أن يثور . سيثور إذا تم تنويره وتحريره من ثقافة العبيد التى ينشرها خدم المستبد من رجال الدين والاعلام .
6 ـ والعادة أن يظلّ المستبد فى السلطة الى الموت أو العزل . ليس هناك تداول سلطة وحاكم سابق يعود الى صفوف الشعب كما يحدث فى الدول الديمقراطية. فى عصرنا شاخ المستبدون العرب فى مقاعدهم ، ومن مات منهم على عرشه ورثه ولى العهد متمسكا بنفس الفساد والاستبداد والنخبة المترفة وسلب ونهب وإفقار الشعب . جاء فى مناخ الاستبداد العتيد هذا جيل جديد تعامل مع الانترنت ووسائل الاتصالات التى حطّمت السور الحديدى الذى يصنعه المستبد حول شعبه . رأى الجيل الجديد أنه صاحب الحاضر والمستقبل وأنه لا يصحّ أن يترك حاضره ومستقبله لنخبة مترفة فاسدة شاخت فى الفساد والاستبداد ولا تلد إلّا فاجرا كفّارا . من ناحية أخرى تاح فضاء الانترنت لهذا الشباب التواصل أ أتاح الانترنت لهذا الشباب التواصل ومطالعة الكتابات الاصلاحية وعرف تعدد الآراء ، وأتيح له أن يكشف عوار السلطة وجهل شيوخها ومثقفيها وخبرائها وأرباب الاعلام والعلم فيها ، وكشف الانترنت بعض مظاهر الفساد . بالمعرفة والاستنارة وبالتواصل أمكن للشباب حشد أنفسهم فى العالم الافتراضى ، ثم تطور الحشد ليصبح واقعا فى الشارع والعالم الحقيقى الواقعى. وبهذا الوعى بدأ تحرك الشباب للمطالبة سلميا بحقوق الشعب المهدرة ، وقابلها المستبد بقواته المسلحة من الأمن و الجيش ، واشتعلت المواجهة بين شباب أعزل يحلم بمستقبله ونخبة فاسدة تحتمى بقواتها المسلحة تقاوم من أجل بقائها جاثمة فوق جثة الشعب . ولم يتم حسم الحرب بعد . النتيجة النهائية تتوقف على إنضمام الأغلبية الصامتة . إن وقفت بشجاعة مع الثورة حسمت المعركة لصالحها ولصالح دولتها وحاضرها ومستقبلها . إن استمرت فى سلبيتها وأجّلت الصدام الحتمى الى مرحلة لاحقة ستكون الكارثة التى ربما تؤدى لحرب أهلية وحمامات دم ،أى إلى الهلاك الجزئى أو الكلى . كل هذا بسبب استمرار الأغلبية الصامتة فى سكوتها عن نصرة حقوقها. هى تساند الظالم بهذا السكوت . بل أحيانا تخرج عن صمتها لتؤيد الظالم . لا تدرى أنها تحفر قبرها بيديها ، وأن هذا القبر سيكون بمساحة الوطن كله ؟!. تعالوا بنا للقرآن الكريم نبحث عن التوصيف والعلاج .
ثانيا : ردّ على بعض أعداء القرآن
سبق فى مقال أن رددت على بعض من يتهم القرآن بالتناقض ،إذ كيف ينهى عن الفسق ثم يأتى الأمر بالفسق فى قوله جل وعلا فى تدمير الأمم الظالمة : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) ( الاسراء 16 ) . وقلت فى الرد الآتى وهو داخل فى موضوعنا عن الاهلاك :
1 ـ القرآن يفسر بعضه بعضا ، والمنهج القرآنى فى فهم القرآن أن نتتبع الموضوع المراد بحثه بتجميع كل الايات المتصلة بالموضوع فى سياقها العام والخاص ، ونضعها معا لنتعرف على حقائق القرآن فى هذا الموضوع ، أما الذين فى قلوبهم زيغ ومرض فانهم ينتقون من الايات ما يحقق هواهم متجاهلين السياق ، ولذلك يكون القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الضالين إلا ضلالا : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا ) ( الاسراء 82 ). كما يجب أن تتوفر فى الباحث القرنى بالاضافة للموضوعية والحيادية ـ ان يتمتع بفهم علوم اللغة العربية وأسرارها البلاغية . وذلك الداعية للتنصير يفتقد الموضوعية ويفتقد العلم بعلوم اللغة العربية.
2 ـ هناك فى البلاغة العربية و القرآنية ما يعرف بالايجاز بالحذف ، حين يكون المحذوف مفهوما من السياق ، مثلا يقول جل وعلا فى قصة وسورة يوسف : (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) ( يوسف 82 ) المحذوف هنا كلمة (اهل ) أى واسأل اهل القرية ، و ( اصحاب ) أى أصحاب العير التى اقبلنا فيها. وهناك إيجاز بالحذف فى الاية الكريمة (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا )هو بحذف كلمة ( العدل أو القسط ) أى (أمرنا مترفيها بالعدل والقسط ) . وهذا مفهوم لأن الله جل وعلا لا يأمر إلا بالعدل والقسط ، يقول جل وعلا (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل 90 ). ) ( الاسراء 82). وأرجو ان ترجع الى مقالنا (الاسلام دين العدل والقسط ) لمزيد من التوضيح. وعليه فإن قوله جل وعلا (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) ( الأعراف 28) يفسر قوله جل وعلا : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) ( الاسراء 16 )، فالله جل وعلا يأمر بالعدل والاحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى . وما جاء محذوفا بالايجاز فى (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ) شرحته مئات الايات التى تحض على العدل و التقوى وتنهى عن الاثم والعدوان والظلم. هذا فى السياق العام فى الأمر بالعدل والنهى عن الظلم .
3 ـ أما فى السياق الخاص ، فهو موضوع الآية نفسه ، وهو إهلاك القرى(اى المجتمعات) الظالمة .
وحين تقوم بتجميع الايات الخاصة بالاهلاك للظالمين تفهم أن هناك شروطا لكى يتم إهلاك قرية ، وأن هذه الشروط قد تم إيجازها باختصار معجز فى آية (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) ) ( الاسراء 16 ). ونوجز القول هنا على النحو التالى :
3 / 1 : بعد أن قصّ الله جل وعلا قصص بعض الأنبياء السابقين واهلاك تلك الأمم ـ فى سورة الشعراء قال جل وعلا يضع القاعدة فى الاهلاك : (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ) ( الشعراء 203 : 204 ). أى لا بد من وجود منذرين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، يأمرون بالعدل وينهون عن الظلم . وعليه فقوله جل وعلا :(وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ) أى جاء الأمر لهم عن طريق الأنبياء والرسل أو غيرهم ممن يسير على نهجهم . ومن الاعجاز أن الله جل وعلا هنا لم يقل ( وما أهلكنا من قرية إلا ولها أنبياء منذرون ) لأن هذا يعنى عدم وجود اهلاك بعد خاتم المرسلين ، ولكنه قال جل وعلا (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ) لأن كلمة منذر تشمل الأنبياء و الرسل و كل ناصح أمين لقومه.
3 / 2 : ويقول جل وعلا فى سورة هود بعد أن قصّ قصص بعض الأنبياء السابقين وأممهم التى أهلكها الله جل وعلا : (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ) (هود 116 : 117 ). أى لو كان فيهم ناصحون وأطاعوا أوامر الناصحين ما أهلكهم الله جل وعلا لأن الله جل وعلا لا يهلك إلا القرية الظالمة، ولا يمكن أن يهلك قرية صالحة.والواضح هنا أن السبب فى الاهلاك هو سيطرة المترفين المتحكمين فى الثروة والسلطة ، وواضح أن البقية يتبعونهم خوفا او رغبا ، لذا يقول جل وعلا: ( وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ ).وهذا يشرح لنا ما جاء عن المترفين الذين يؤمرون بالعدل فيزدادون عصيانا فيحق عليهم القول ويتم اهلاكهم وتدميرهم : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) ) ( الاسراء 16 ).
3 / 3 : ويرسم رب العزة فى كتابه العزيز صورة رمزية للقرية الظالمة بعد تدميرها واهلاك اهلها ، إذ يبقى دليلا على الترف الهائل والفقر الهائل معلمان تذكاريان : قصر فخم مشيد ( كان يسكن فيه شخص واحد ) وئئر معطلة ،أى مرافق معطلة مع أنه كان يعيش عليها كل أو معظم الشعب ، ولكن كل ما يكسبه الشعب ينهبه المترفون ويقيمون به قصورا فى نفس الوقت الذى تعطش فيه الحقول و تتلوث فيه المياه وتتكدس الزبالة ، يقول جل وعلا :( فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ )( الحج 45 ). وفى مصر الآن حيث يتحكم المترفون تجد كل المرافق والمياه النقية تصل الى قصور المترفين وحمامات سباحتهم وحدائقهم الغنّاء فى الساحل الشمالى و البحر الأحمر وسيناء ، مع أنهم لا يجدون الوقت الكافى للاقامة فى كل تلك القصور ،بل حتى مجرد التعرف على اجنحتها و زخارفها . هذا ، بينما يعانى سكان العشوائيات و الأحياء الشعبية فى القاهرة والمدن و القرى من اختلاط المياه بالصرف الصحى ، وتلوثها وانقطاعها وانقطاع الكهرباء، وأزمات الخبز والتموين والمواصلات والاسكان والحاجيات الأساسية..الخ .. فالقرآن الكريم يضع ملامح القرية الظالمة لتنطبق على أى عصر يسيطر فيه المترفون . وقد حدث هذا الاهلاك كثيرا فى تاريخ المسلمين فى العصرين العباسى والمملوكى ، وحدث فى عصرنا الراهن فى لبنان والعراق ، وهناك قرى ( دول ) مرشحة للانفجار من الداخل أو من الخارج ، أهمها مصر والسودان والسعودية وايران وما تبقى من فلسطين .)
هذا ما قلته فى مقال ( سؤال وجواب عن القرآن الكريم ) بتاريخ أول أغسطس 2010 ، قبيل ثورة اللوتس المصرية ، وهو واحد من عشرات التحذيرات من إهلاك قادم ، ومن تحريض الأغلبية الصامتة لتدافع عن حقوقها المهضومة. ونعطى من القرآن الكريم تفصيلات إضافية لموضوع الاهلاك ثم كيفية النجاة منه .
ثالثا : أسباب الاهلاك للمجتمعات والدول
1 ـ تفشى الظلم : يقول جلّ وعلا:( وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ )( القصص : 59 )، ويقول :( ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ )( الانعام 131)، أى لا يمكن أن يهلك الله جلّ وعلا قرية إلّا إذا كانت ظالمة وكان أهلها غافلين عن الحق والعدل . أى لايمكن لقرية ( أى مجتمع ودولة ) تطبق العدل أن تتعرض للهلاك . الهلاك هو مصير القرية الظالمة فقط . الله جل وعلا يصف المجتع المعرّض للهلاك بأنه قرية ظالمة غافلة ، وهذا وصف يشمل كل القرية أو المجتمع . وقلنا أن الظالمين نوعان : نوع فعّال مقترف للظلم ( المستبد وأتباعه المترفون ) ونوع يقع عليه الظلم ويرضى به مستكينا للظلم ، وهؤلاء وأولئك يجمعهم الغفلة عن العدل والحق وعن المصير الأسود الذى ينحدرون اليه جميعا.
هذا الهلاك تكرر من قبل وسيتكرر ، يقول جلّ وعلا:( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ )( الحج 48 )، أى إن الله جلّ وعلا يمهل ولا يهمل ، وهو جلّ وعلا للظالمين بالمرصاد قديما :( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ) (الفجر 6 : 14 ) وبعد نزول القرآن يتوعّد رب العزّة من يكذّب بحديث الله فى القرآن بأنه سيستدرجهم من حيث لا يعلمون:(فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) (القلم 44 : 45 ) وأنه سيعطيهم النعم ابتلاء وأختبارا فيرسبون فى الاختبار إذ يحسبون النعم تفضيلا لهم عن غيرهم وخيرا خاصا بها فيزدادون بالنعمة كفرا وإثما : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ )( آل عمران 178 ). وهذا ما حدث ويحدث فى تاريخ المسلمين الماضى والمعاصر. الله جل وعلا يصف المجتع المعرّض للهلاك بأنه قرية ظالمة غافلة ، وهذا وصف يشمل كل القرية أو المجتمع .
2 ـ رفض الظالمين الحق الذى يأتى به المنذرون : الحق يعنى العدل ، والعدل هنا يعنى أرجاع الحقوق الى أصحابها والمساواة بين الأفراد وتكافؤ الفرص أمام الجميع . يرفض الظالمون الاصلاح ،بل يضطهدون المنذرين الذين ينذرونهم بالهلاك إن لم يبادروا بالاصلاح. يقول جلّ وعلا (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ)(الشعراء 203 : 204 ).
3 ـ والمترفون لهم حججهم التى يحتجّون بها ضد العدل وضد الدين الحقّ .
3/ 1 : فهم يرفضون الاصلاح والعدل تمسكا بالأوضاع الاجتماعية القائمة التى أتاحت لهم التمكين فى السلطة ، فبهذه ( الثوابت ) التى أصبحت بمرور الزمن دينا أرضيا أصبح لهم الجاه والثروة ، وهم بما وجدوا عليه آباءهم مستمسكون ، وهم للحق رافضون . هكذا قالت قريش المشركة فى مواجهة القرآن ودعوته للقسط : ( بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ )، وهو نفس القول الذى قاله المشركون قبل قريش ، وسيقوله المشركون الظالمون بعد قريش ، لذا جعلها الله جل وعلا قاعدة عامة تنطبق على كل زمان ومكان ؛ أن يتمسك الكافرون المترفون بما وجدوا عليه آباءهم فى مواجهة الحق والعدل ، تقول الآية التالية : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ )(الزخرف 22 : 23 ).وفى عصرنا ينبح فقهاء السلطان بالثوابت و ( إجماع الأمة ) و ( الاقتداء بالسلف الصالح ) و يحلو لهم القول ب :( اجمعت الأمة على كذا وكذا ) مع أن هذه الأمة لم تجمع إلّا على التفرق والاختلاف فى كل شىء ، من سنّة وشيعة وصوفية ، ثم مذاهب سنية وفرق شيعية وطرق صوفية ، وداخل كل فرقة وطائفة ومذهب عشرات التقسيمات وآلاف الاختلافات .
3/ 2 : والملأ المستكبر المترف يعتقد أنه طالما أوتى المال والأولاد والجاه فى الدنيا فسيكون بنفس النعيم فى الاخرة ، ولن يتعرّض للتعذيب يوم القيامة ، وبالتالى فلا حاجة للاصلاح فقد ضمن لهم دينهم الأرضى الجنة بالشفاعات، لذا جعلها رب العزة قاعدة عامة تنطبق فى كل زمان ومكان ، فحين يتحكم المترفون ودينهم الأرضى فى مجتمع ما فلا بد أن يكفروا بالدين الحق ودعوته الاصلاحية :( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ )( سبأ 34 : 35 )
3/ 3: وهذا الملأ المستكبر المترف يرى أنه أفضل من الأنبياء والمرسلين والمنذرين ، ويستنكف أن يكونوا أتباعا لبشر مثلهم : ( وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ )( المؤمنون 33 : 34). وجعلها رب العزّة جلّ وعلا قاعدة عامة حين يتحكّم المجرمون فى قرية ما، أن يتأففوا من الوعظ ، بل ويزعمون أنهم أولى بالرسالة الالهية من الرسل ، وأن يمكروا بالمصلحين ، وهم لا يعرفون أن الهلاك ينتظرهم ،أى أنهم يمكرون بأنفسهم وما يشعرون ، وسينالون الهلاك فى الدنيا والعذاب بالآخرة : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ )( الانعام 123 : 124 ). ولذا يأمر الله جل وعلا بالسير فى الأرض للتفتيش على آثار الأمم السابقة البائدة لنتعظ بما جرى لها :( فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )( الحج 45 : 46 )
أخيرا
لتحاشى هذا الهلاك القادم ولتفعيل الأغلبية الصامتة حتى لا تكون عاملا فى الهلاك وضع رب العزة سبل الاصلاح . ونتوقف معها فى المقال القادم .