نُخبة السُلطة

سعد الدين ابراهيم في السبت ٠٧ - أبريل - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

منذ خمسين عاماً، نشر عالم الاجتماع الأمريكى سى رايت ميلز «C. Wright Mills» كتاباً بعنوان «نُخبة السُلطة» «The Power Elite» أحدث ضجة واسعة فى الدوائر الأكاديمية والسياسية. وكانت رسالة الكتاب هو أنه رغم ادعاءات الديمقراطية، والمُساواة فى الفُرص فى النظام الأمريكى، إلا أنه بالتحليل الموضوعى، للبيانات المتوفرة خلال النصف الأول من القرن العشرين، فإن الولايات المتحدة كانت تحكمها نُخبة تنحدر من حوالى مائتى عائلة، يشغل أبناؤها المناصب الحاكمة فى البيت الأبيض، والكونجرس، ووزارتى الدفاع، والخارجية، وأكبر مائة شركة أمريكية. وكان ميلز هو الذى صك مُصطلح «المُركب العسكرى الصناعى» «Military Industrial Complex». وسواء جاءت الانتخابات بالحزب الديمقراطى أو الحزب الجمهورى إلى البيت الأبيض، فإن نفس نُخبة السُلطة المذكورة أعلاه، هى التى تتخذ القرارات المصيرية الكُبرى، فى مسائل الحرب والسلام، وتُخصيص الموارد، وتوزيع المغانم.

وبالفعل، حذر الرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور، فى آخر خطاب له فى البيت الأبيض (يناير ١٩٦١) من سطوة «المُركب العسكرى الصناعى» على حاضر ومُستقبل بنى وطنه من الأمريكيين. وهو ما ألهم جيل الشباب الأمريكى فى ستينيات وسبعينات القرن الماضى للثورة الحرب فى فيتنام، وعلى التفرقة العُنصرية، والتمييز النوعى بين الرجال والنساء، واستنزاف الموارد الطبيعية، والإضرار بالبيئة لحساب الشركات الكُبرى. وكان رئيس أهم تلك الشركات فى حينه، وهى شركة «جنرال موتورز»، قد صرّح فى صلف شديد، بأن «ما هو فى صالح جنرال موتورز هو نفسه المصلحة الوطنية» «whatever is good for General Motors is good for America». وكنت قد ذكرت ذلك فى أحد تعليقاتى على الانتفاضات الشبابية المُقارنة.

ويقول سى رايت ميلز إنه فى حالة «نُخبة السُلطة» الأمريكية، تتداخل شبكة العلاقات القرابية والسياسية والاقتصادية، من خلال الاختلاط المُكثف، منذ الطفولة المُبكرة، والالتحاق بنفس المدارس. والأهم من ذلك الالتحاق بنفس الجامعات - خاصة ثالوث جامعات هارفارد «Harvard»، وييل (Yale)، وبرنستون «Princeton». وقد تخرج من هذه الجامعات الثلاث وحدها أكثر من نصف الرؤساء الأمريكيين، عِلماً بأن أمريكا بها أربعة آلاف جامعة.

ويستبعد سى رايت ميلز «نظرية المؤامرة» «Conspiracy Theory» فى تفسير تناغم قرارات النُخبة السياسية مع مصالحها، ولكن تسويقها على أنها لخدمة «المصالح الوطنية»، للولايات المتحدة. وبدلاً من ذلك، يقول عالم الاجتماع، إن أفراد تلك النُخبة، بحكم وضعهم الطبقى المُشترك، وعضويتهم فى نفس الأندية، والتحاقهم بنفس الجامعات، فهم يُفكرون عموماً بنفس الطريقة، ويتخذون نفس القرارات بنفس الطريقة، دون الحاجة إلى اجتماعات سرية فى غُرف مُغلقة مليئة بدخان السجائر. كذلك لا تمنعهم الخلفية الطبقية والقرابية المُشتركة من التنافس، وأحياناً بشراسة، سواء فى الدراسة، أو الرياضة، أو السياسة.

إذا كان ذلك هو الحال فى نُخبة السُلطة فى أمريكا، فلماذا الانزعاج من وجود نُخبة سُلطة مُشابهة فى مصر فى عهد مُبارك؟

ربما تكون أهم الفوارق بيننا وبينهم هى أن أمريكا ينطبق عليها مفهوم «المجتمع المفتوح». من ذلك أن المعلومات والبيانات التى استند عليها عالم الاجتماع سى رايت ميلز، كانت مُتاحة علناً. وكل ما فعله هو أنه نظمها، وقام بتحليلها، ونشرها فى كتاب، تم تداوله، والحوار حوله.

أما فى حالتنا المصرية، فإن نفس الأمر يحتاج إلى تنقيب. وإذا جَرُؤ الباحث على نشر تحليله، فإن ذلك قد ينطوى له ولمؤسسة البعثة على عواقب وخيمة على الأقل. كان هذا هو الحال إلى أن قامت ثورات الربيع العربى، عام ٢٠١١.

وآية ذلك أن هذا الكاتب «سعد الدين إبراهيم» حينما نشر مقالاً بعنوان «الجملوكيات العربية: مُساهمة العرب لعلم السياسة فى القرن الحادى والعشرين»، يوم ٣٠/٦/٢٠٠٠، وكان يُطلق صفارة إنذار عن توريث السُلطة، صدرت أوامر بالقبض عليه وعلى سبعة وعشرين من العاملين معه فى مركز ابن خلدون. وحوكم الجميع وصدرت عليهم أحكام بالسجن لعدة سنوات، من محكمة أمن الدولة العُليا. صحيح أنه بعد ثلاث سنوات، صدر حُكم بالبراءة من محكمة أعلى، ولكن الرسالة كانت واضحة، لا تقبل الشك أو المزاح: وهى أن من يتعرض «للذات المُباركية»، لا بد أن تحل عليه لعنة النظام.

ومن مُفارقات القدر، أنه بعد عشر سنوات من التنكيل بالخلدونيين «نسبة إلى مركز ابن خلدون» بواسطة نُخبة السُلطة المُباركية، قامت ثورة مجيدة، ولاحقت أعضاء نفس النُخبة. ومعظمهم الآن فى نفس السجن، بل فى نفس العنبر، الذى سُجن فيه الخلدونيون - من حبيب العادلى وزير الداخلية الذى قام بتلفيق قضية ابن خلدون، لآل مُبارك الذين أصدروا إليه أوامر التنكيل بالخلدونيين فاللهم لا شماتة، فهى عدالة السماء. فالله يُمهل ولا يُهمل.

ونقول ذلك لنُخبة السُلطة الجديدة، المُمثلة بالإخوان المسلمين، وحزبهم السياسى «الحُرية والعدالة»، لكى يتعظوا. فكما كان «الحزب الوطنى» فى عهد مُبارك لا «حزباً» ولا «وطنياً»، وإنما شلة من الأقارب والأصدقاء، فكذلك يبدو حزبهم «الحُرية والعدالة». فلا «حُرية» ولا «عدالة» فيه، بدليل أنه لما حاول أحد أعضائه، وهو د. عبدالمنعم أبوالفتوح، مُمارسة حُريته فى الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، فقد زمجر كهنة الحزب، مُمثلين «بمكتب الإرشاد»، وفصلوا الرجل من عضوية الجماعة، رغم أن الرجل كان يُمارس حقاً إنسانياً أساسياً، نص عليه الإعلان العالمى لحقوق الإنسان الصادر عام ١٩٤٨، فى مادته الثانية، وهو حق «التعبير». كما أنه كان يُمارس حقاً سياسياً أصيلاً، نصّت عليه الدساتير المصرية - من أولها ١٩٢٣، إلى آخرها ١٩٧١، وهو حق الترشح لأى منصب سياسى مُنتخب. وتنطوى مُعاقبة الإخوان للدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح على عدم مُراعاة «العدالة» فى التعامل الداخلى مع أبناء الحزب. فقد اتخذت الجماعة قرار فصل أبوالفتوح، دون تحقيق أو مُحاكمة داخل الحزب.

ولكن النموذج الأكثر صراخاً على انعدام «العدالة» من حزب الحُرية والعدالة، هو ما أقدمت عليه الأغلبية البرلمانية للحزب من اختيار نفسها لعضوية الجمعية التأسيسية التى ستضع الدستور الدائم للبلاد. وفضلاً عن تجاهل أدنى قواعد الإنصاف والمواءمة السياسية، فإن ما فعلته تلك الأغلبية الإخوانية ينم عن جشع بلا حدود.

فاللهم أنقذ مصر وشعبها من شر الجشعين.

اجمالي القراءات 10236