(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)
القرآن الكريم لغة الحياة ، وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول ، صدق الله العظيم "
أولا :
1 ـ يقول سبحانه وتعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ )( الأنبياء 35). هى آية واحدة موجزة ، ولكنها جمعت ثلاث حقائق يقينيةيتعين على كل فرد من البشر مواجهتها، وهى حتمية الموت ، وحتمية الابتلاء بالمصائب ، ثم حتمية البعث والحشر والحساب والجنة والنار ، أى حتمية الرجوع الى الله جل وعلا لمواجهة الحساب على الحرية التى منحها رب العزة للبشر. قبل الموت هناك حتميات ثلاث : الميلاد والرزق والابتلاء بالمصائب . وكل هذه الحتميات الأربع لا حساب عليها ولا مساءلة ولا مؤاخذة ، فلن يحاسبك ربك جل وعلا لماذا خلقك غنيا أو فقيرا ؟ أو لماذا خلقك وسيما أو طويلا أو أبيض أو أسود ؟ أو لماذا كنت ابن فلان وفلانة ، أو لماذا صدمتك السيارة أو لماذا خسرت كل أموالك أو لماذا حلّ بك المرض ، أو لماذا حضرتك الوفاة وجاءك الموت . لسنا محاسبين على هذه الحتميات فلا شأن لنا فى حدوثها فينا . ولكننا سنحاسب على حريتنا فى التصرف حيالها فيما نملك التصرف فيه. وحتى عند الإكراه والاضطرار وعند النسيان والخطأ غير المقصود وعند عدم التعمد يغفر لنا الغفور الرحيم ، فهو جل وعلا لا يؤاخذنا إلّا بما نتعمده ونقصده ونفعله باختيارنا الحرّ..وبإختيارنا الحرّ هذا نتعامل مع الحتميات التى تكتنفنا . ومنها تعاملنا مع الابتلاء بالخير وبالشّر . وابتلاء الخير أشد من ابتلاء الشر ،لأن المصيبة حين تنزل قد تجعل الإنسان يصبر ويقترب من الله متضرعا ، ولكن ابتلاء الخير فى الأغلب يفشل فيه الكثيرون ، إذ تصيبهم النعمة بالغرور والبطر وكفران النعمة .
ثانيا :
1 ـ وتاريخ الصحابة الذي لم نستفد منه ـ اكبر دليل وأكبر موعظة .. ففي وقت المحن فى مكة كانوا أكثر تآلفا واستمر هذا إلى أن وقعوا فى خطيئة الفتوحات وورثوا كنوز الفرس والروم ، فاختلفوا واقتتلوا فى الفتنة الكبرى. ويكفى أن تتأمل الصداقة والقرابة بين على والزبير بن العوام ، وتلازمهما فى شبابهما فى الدفاع عن النبي ، ثم ينتهي بهما الأمر إلى أن يكون كلا منهما فى موقعة الجمل على رأس جيش يقاتل به رفيقه .وقد كانت ( فتنة المال) أو (إبتلاء المال ) السبب الحقيقي فى تلك ( الفتنة الكبرى )، ونقتصر هنا على الإشارة إلى ما تركه زعماء الفتنة الكبرى من أموال لتفسّر موقع كلا منهم فى هذه الفتنة مع الباطل أو مع الحق.وهل نجح فى إختبار أو ابتلاء الفتنة أم رسب .
1 / 1 : ـــ فى موقعة الجمل مات قتيلا الزبير بن العوام . ومات وهو فاحش الثراء.حسبما رواه محمد بن سعد فى الطبقات الكبرى ، فقد ترك الزبير بن العوّام بعد موته : " 35.2 " مليون درهم وفى رواية " 40 " أو "51" أو " 52 " مليون درهم وترك غابة أشتراها ب "170 " ألفا وباعها أبنه عبد الله بن الزبير ب " 1.6 " مليون ، ومع ذلك مات الزبير مديونا بسبب تجهيزه جيش موقعة الجمل . وترك الزبير بالإضافة للغابة " 11" دارا بالمدينة ، وبيتا فى كل من مصر " الفسطاط "و بالإسكندرية وبالبصرة والكوفة .وورث أبناؤه وبناته الملايين .
1/ 2 ـــ أما طلحة بن عبيد الله القائد الثاني لجيش موقعة الجمل فقد فتل وفى يده يومها خاتم من ذهب فيه ياقوتة حمراء ، وكان إيراده من العراق فقط ألف درهم فى اليوم ، وما بين" 400 : 500 " ألف سنويا و" 10 " آلاف دينار من منطقة السراة فى اليمن. أما تركته العينية فيروى أنها كانت " 100 " بهار وفى كل بهار ثلاثة قناطير من الذهب أي " 300 " قنطار من الذهب " ( الطبقات الكبرى لأبن سعد 3 ـ 1 ـ 75 : 77 ، 156 : 157 ".)
1/ 3 ـ وعمر بن العاص الذي كان نجم موقعة صفين حين أدركه الموت سنة 43 وهو وال على مصر ترك سبعين بهارا من الذهب ، ومقدارها 140 أرديا بالكيل المصري ، وقد أعطاها لولديه فرفضا وقالا له حتى ترد على كل ذي حق حقه .. وصادر معاوية ذلك الذهب وقال : نحن نأخذه بما فيه " خطط المقريزي 1 / 465 "
1/ 4 ـ ولم يدرك عبد الرحمن بن عوف الفتنة الكبرى ، وقد ترك أطيانا زراعية وثروة حيوانية هائلة ، وترك ذهبا كانوا يقطعونه بالفئوس حتى نحلت أيدي الرجال منه " الطبقات الكبرى لابن سعد 3 ، 1 ،96 " .
1/ 5 : وفى المقابل مات على بن أبى طالب فقيرا وهو الخليفة وحين قتل سنة 40 لم يترك سوى 700 درهم " الطبقات الكبرى لابن سعد 3 ، 1 ،96 ". وكان (على ين أبى طالب ) يمثل المدرسة الحقيقية للنبي عليه السلام ومعه نفر من الصحابة الذين أنكروا على زملائهم اكتناز الأموال ، وكان منهم أبو ذر وأبو الدرداء وابن مسعود وعمار بن ياسر . ويذكر ابن خباب بن الأرت حين أدركته الوفاة سنة 37 هجرية جئ له بكفن فاخر فبكى وقال : ولكن حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم كفن فى بردة إذا مدت على قدميه قلصت عن رأسه وإذا مدت على رأسه قلصت عن قدميه . ثم قال : لقد رأيتني مع رسول الله ما أملك دينارا ولا درهما والآن فإن فى ناحية من بيتي أربعين ألف " واق " "ولقد خشيت أن تكون عجلت لنا طيباتنا فى حياتنا الدنيا " ( الطبقات الكبرى لابن سعد 3 ، 1 ، 117 " ).!!
2 ـ ونأخذ من تاريخ عمّار بن ياسر مثلا آخر للإبتلاء وموقفه فى إختياراته التى خالف بها إختيارت الزبير وعثمان وطلحة ومعاوية وعمرو بن العاص ..
2/ 1 : أسلم عمّار مبكرافكان إسلام عمار وصهيب بعدبضعة وثلاثين رجلا.إختار الاسلام وهو من المستضعفين فتعرض للتعذيب،يروى ابن سعد:(كان عمار بن ياسر من المستضعفين الذينيعذبون بمكة ليرجع عن دينه..والمستضعفون قوم لا عشائر لهم بمكةوليست لهم منعة ولا قوة فكانت قريش تعذبهم في الرمضاء بأنصاف النهار ليرجعوا عندينهم)(وكان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدري ما يقول.)(.وأخبرني من رأى عمار بن ياسر متجردا في سراويل قال فنظرت إلى ظهره فيهحبط كثير فقلت ما هذا قال هذا مما كانت تعذبني به قريش في رمضاء مكة ) وتحمّل عمّار.
2/ 2 : وخوف العذاب تحاشى عمّار الصلاة علنا فكان ( أول من اتخذ في بيته مسجدا يصلى فيه)، وتحاشيا للإضطهاد هاجر عمّارالى الحبشة الهجرة الثانية ، ثم هاجر الى المدينة ونزل على مبشر بنعبد المنذر .
2/ 3 : وفى المدينة آخى رسول الله صلى اللهعليه وسلم بين عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان. وأقطع رسول الله صلى الله عليهوسلم عمار بن ياسر موضع داره . وشهد عمار بن ياسر بدرا وأحدا والخندق والمشاهدكلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وبذل جهدا أكبر فى بناء مسجد المدينة ، كان يحمل حجارة أكثر من غيره،وتفانى فى حفر الخندق فى غزوة الأحزاب.
2/ 4 ـ وبعد موته عليه السلام تفانى عمّار فى حرب الردة ، وفى حمأة القتال فى يوم اليمامة وقد تراخى بعض المسلمين فصعد عمّار على صخرة وهو يصيح : يا معشر المسلمين أمن الجنة تفرون ؟ أناعمار بن ياسر.. هلموا إلي.! يقول ابن عمر وهو الراوى : ( وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تذبذب وهو يقاتل أشد القتال)!
2/ 5 : ثم ولاه عمر بن الخطاب أميرا على الكوفة،وجاء فى رسالة عمر لأهل الكوفة:( أما بعد فإني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرا وابنمسعود معلما ووزيرا وقد جعلت بن مسعود على بيت مالكم وإنهما لمن النجباء من أصحابمحمد من أهل بدر فاسمعوا لهما وأطيعوا واقتدوا بهما). وفى إمارته على الكوفة كان (إمام الصلاة ) الذى يصلى بالناس ويخطب بهم الجمعة ، وكانت خطبة الجمعة لا تزال على العهد بها منذ عصر النبى أى مجرد قراءة سورة من القرآن، فكان عماريقرأ كل يوم جمعة على المنبر سورة ( يس ) . وسار فى إمارته بطريقة عمر بن الخطاب ، يروى عن أبى هذيل:( رأيت عمار بن ياسر اشترى قتا بدرهم فاستزاد حبلا فأبىفجابذه حتى قاسمه نصفين وحمله على ظهره وهو أمير الكوفة).
2/ 6 : ومن الطبيعى أن ينقم علنا على سياسة (عثمان ) حين أعطى النفوذ والأموال للأمويين اقاربه، وهم الذين كانوا يعذبون عمّار فى مكة من قبل .وعلا صوت عمّار بالاحتجاج على سياسة عثمان ، فأسرّها له الأمويون ، فتعرض عمّار للتعذيب للمرة الثانية وكان عقبة ابن عامر هو الذى تولى تعذيب عمّار بأمر عثمان بن عفّان. ثم كان عقبة بن عامر هو الذي قتل عمارا فى موقعة صفين طبقا لبعض الروايات .أى إن عمار بن ياسر عوقب على انتقاده لعثمان بالتعذيب فى خلافة عثمان ثم قتلوه مع سبق الاصرار والترصّد فى موقعة صفّين.
ويقال إن الذى قتل عمّارا فى صفين هو عمر بن الحارث الخولاني. وأن الخولانى هذا سمع عمّارا ينتقد عثمان فى خلافة عثمان فنذر أن يقتله لو أتيحت له الفرصة ، فحانت له الفرصة فى معركة صفين . قال الخولانى :( إنا كنا نعد عمار بن ياسر فينا .. فبينا أنا في مسجدقباء إذ هو يقول ألا إن نعثلا هذا لعثمان فألتفت فلو أجد عليه أعوانا لوطئته حتىأقتله.. فلما كان يوم صفين أقبل يستن أولالكتيبة رجلا حتى إذا كان بين الصفين فأبصر رجل عورة فطعنه في ركبته بالرمح فعثرفانكشف المغفر عنه فضربته فإذا رأس عمار). وهناك رواية أخرى تنسب قتل عمار لرجل آخر ولنفس السبب وهو انتقاده لعثمان.القاتل هنا أبو غادية، قال :( سمعت عمار بن ياسر يقع في عثمان يشتمه بالمدينة قال فتوعدته بالقتل قلتلئن أمكنني الله منك لأفعلن فلما كان يوم صفين جعل عمار يحمل على الناس فقيل هذاعمار فرأيت فرجة بين الرئتين وبين الساقين قال فحملت عليه فطعنته في ركبته قال فوقعفقتلته )
2/ 7 : كان طبيعيا ان يكون عمّار من أبرز أنصار (على ) وأشهر المحاربين معه ، ولقى حتفه مناصرا لعلى فى معركة صفين . وتوالت الروايات عن شجاعته فى هذه المعركة مع أنه كان قد تعدى التسعين من عمره . يقول عبد الله بن سلمة :( رأيت عمار بن ياسر يوم صفين شيخا آدم طوالا والحربة بيده وإنيده لترعش وهو يقول والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعرفت أنمصلحتنا على الحق وأنهم على الباطل.قال وبيده الراية فقال إن هذه الراية قد قاتلتبها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين وإن هذه للثالثة ) وقال سلمة بن كهيل ( قال عمار بن ياسر يومصفين:.. اليوم ألقى الأحبة محمداوحزبه ولله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر لعلمت أنا على حق وأنهم على باطل واللهلقد قاتلت بهذه الراية ثلاث مرات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هذه المرةبأبرهن ولا أنقاهن )( ثماقترب فقاتل حتى قتل وهو يومئذ بن أربع وتسعين سنة . وكان الذي قتلعمار بن ياسر أبو غادية المزني طعنه برمح فسقط وكان يومئذ يقاتل في محفة فقتل يومئذوهو بن أربع وتسعين سنة.) وتقول رواية أخرى ( قتل عمار رحمه الله وهو بن إحدى وتسعين سنة وكانأقدم في الميلاد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أقبل إليه ثلاثة نفر عقبة بنعامر الجهني وعمر بن الحارث الخولاني وشريك بن سلمة المرادي فانتهوا إليه جميعا وهويقول : والله لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أنا على حق وأنتم على باطلفحملوا عليه جميعا فقتلوه ). يقول ابن سعد : ( والذي أجمع عليه في قتل عمار أنه قتل رحمه الله مع علي بن أبي طالب بصفين في صفرسنة سبع وثلاثين وهو ابن ثلاث وتسعين سنة . ودفن هناك بصفين رحمه الله ورضي عنه).
أخيرا
1 ـ لقد وضعوا أحاديث تمنع نقد الصحابة وبحث حقائق الفتنة الكبرى .. وترتب على ذلك أننا لا زلنا نعيش فى الفتنة الكبرى .. لأننا لم ندرسها ولم نتعظ بدروسها .. وهى كثيرة .
2 ـ وفى محنة الابتلاء بالخير والشر نجح بعض الصحابة وخسر آخرون .. هذا حسبما جاء فى تاريخهم فى التراث السّنى نفسه .