هناك هواجس عديدة على مستقبل التحول الديمقراطى وعدت بها ثورات الربيع العربى، خلال عام 2011 وهى هواجس عبّر عنها مراقبون فى الداخل والخارج.
من ذلك مثلا، أن الشباب والنساء الذين فجروا هذه الثورات فى تونس وليبيا ومصر والبحرين واليمن، تم اختطاف ثوراتهم بواسطة قوى سياسية أخرى جاءت متأخرة لهذه الثورات، أو لم تشارك فيها على الإطلاق.
من ذلك جماعة الإخوان المسلمين التى لم يأتِ شبابها إلى مركز الثورة فى ميدان التحرير بالقاهرة إلا فى نهاية يومها الرابع «أى مساء يوم 28 يناير 2011» بينما لم يأت كهولهم وشيوخهم إلى التحرير أبدا.
أما السلفيون، فقد كانوا ضد الثورة من يومها الأول (25 يناير 2011) إلى يومها الأخير (11فبراير 2011) وذلك التزاما بمعتقداتهم الراسخة فى عدم جواز الخروج عن طاعة ولى الأمر؛ وتنفيذا لمقولتهم الشهيرة «خير للمسلمين أن يتحملوا حاكما غشوما، درءًا لفتنة قد تدوم»؛ وكذلك لأن كبارهم أقنعوا صغارهم بأن «السياسة دناسة ونجاسة»؛ لذلك يحسن تجنبها، فهى رجس من عمل الشيطان.
ومع ذلك، فبمجرد أن أجبر شباب الثورة حسنى مبارك على التنحى عن الرئاسة فإن شهية هؤلاء الإسلاميين انفتحت عن آخرها للسياسة وللسلطة، وشهد العام الأول للثورة سباقا محموما للإسلاميين نحو السلطة، من خلال الاستفتاءات والانتخابات، التى توالت خلال عام 2011 وأوائل عام 2012، وهذا بالطبع من حقهم كمواطنين مصريين.
وكانت حظوظهم فى الفوز بنصيب الأسد مؤكدة لمعظم المراقبين. فهم كانوا الأكثر موارد، والأكثر خبرة، والأكثر تنظيما وانضباطا، كما كان لهم سجل حافل بتأدية الخدمات للمواطنين فى دوائرهم ومجتمعاتهم المحلية.
ولكن الذى كان ولا يزال محل خلاف بين الإسلاميين والقوى السياسية الأخرى، هو استخدام أو استغلال الدين فى الدعاية الانتخابية، فى مجتمع تغلب عن ثقافته وسلوكياته الوازع الدينى.
وبينما كان معظم القوى المدنية الأخرى، فى عهد الرئيس السابق حسنى مبارك، بين العمل الدعوى الجماهيرى بسبب قوانين الطوارئ، والتضييق الأمنى أو المنع الصريح للمسيرات والمجتمعات كان لدى الإسلاميين هوامش حركية لم تكن متاحة لغيرهم وأهم هذه الميزات هو احتكارهم «للمسجد» كفضاء عام.
فالمسجد، لم يكن فقط مكانا للشعائر والعبادة، ولكن ساحة لما يشبه المؤتمرات الجماهيرية الأسبوعية، من خلال صلاة الجمعة كما أصبح الفضاء المحيط بالمسجد ساحة للمعارض، وللبيع والشراء، وتأدية الخدمات الاجتماعية الأخرى.
ولذلك كان الإسلاميون الأكثر إصرارا على تقصير الفترة الانتقالية، والأكثر إلحاحا على الإسراع بإجراء الانتخابات، فقد كانوا الأكثر استعدادا لخوض الانتخابات.
يقابل ذلك أن القوى الشبابية التى قامت بالثورة، واستُشهدت وجُرح المئات منها، كان -كمفهوم وكممارسة- لديها «زهد» وامتعاض من«السلطة» وإذا كانت نزعة العداء للسلطة لها ما يبررها فى عهد حسنى مبارك، فإن استمرارها بعد سقوط مبارك قد استفاد منه الإسلاميون، بإخوانهم وسلفييهم.
فلما حان وقت الانتخابات البرلمانية كان الإسلاميون -بإخوانهم وسلفييهم- هم الأكثر استعدادا بالأموال وبالتنظيم فحصلوا على أصوات كل أتباعهم، وهم نحو أربعين فى المئة من مجموع من كان لهم حق التصويت واقتنصوا نحو ثلاثين فى المئة ممن كان لهم هذا الحق، ولكنهم كانوا يمارسونه لأول مرة؛ أى أنهم كانوا على المشاع.
وفى غياب انتماءات حزبية منتظمة، ذهبت أصوات من هم على المشاع هؤلاء، إلى من ألحوا عليهم قرب أو على أبواب مراكز الاقتراع، بأن يعطوا أصواتهم لأولئك الذين يخافون الله أو من سيقومون بتطبيق «شرع الله»، مع تأكيد اختيار رمز المرشح الإسلامى، إخوانيا كان أو سلفيا.
أى أن هذا الفوز المبين للإسلاميين لم يكن إعجازا سماويا خارقا للعادة، ولكنه كان محصلة مجهود إنسانى دؤوب قام به أعضاء مثابرون من الإسلاميين، كذلك كان التصويت لنفس المرشح.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية، من المحتمل أن يحدث نفس الشىء، أى أن يقتنص المرشح الذى يؤيده الإسلاميون إن لم يكن «بالأغلبية» (أى أكثر من خمسين بالمئة) أو «الأكثرية»، أى أكبر كتلة تصويتية، حتى لو كانت أقل من خمسين بالمئة.
ولأن للإسلاميين الأغلبية فى البرلمان فى الوقت الحاضر، فسيكون بإمكانهم التأثير فى كل ما يصدر من تشريعات وسياسات وقرارات، ولعل أهم ذلك فى الأسابيع القليلة القادمة، هو اختيار الجمعية التأسيسية، التى ستعد مشروع الدستور الجديد الذى يرسى دعائم النظام السياسى فى مصر لعدة عقود قادمة.
وربما لكل ما تقدم أعلاه من اعتبارات تشعر عدة فئات من المصريين بالقلق من المستقبل وفى مقدمتهم الإخوة الأقباط والشيعة، والبهائيون، والفنانون، والمستثمرون.
قد يقول قائل، إن هذه الفئات معا لا تمثل إلا أقلية عددية، وقد يكون هذا صحيحا، ولكنهم أقليات استراتيجية بمعنى أنهم أكثر تأثيرا من الناحية الكيفية مما توحى به أعدادهم، فلو أخذنا على سبيل المثال الإخوة الأقباط، فرغم أنهم عشرة بالمئة فقط من جملة سكان مصر، فإنهم الأكثر تعليما، والأكثر ثراءً، والأكثر امتدادا خارج الحدود. فمعظم الجاليات المصرية فى المهجر هى من الإخوة الأقباط وبالتالى فإن هواجسهم ومخاوفهم تنتقل بسهولة إلى شقائهم فى الخارج، ومنهم إلى حكومات وبرلمانات وإعلام بلدان المهجر التى يعيشون فيها، وهو ما يمكن بدوره أن يؤثر سلبا على صورة مصر فى الخارج.
لذلك لا بد أن ينتبه الإسلاميون إلى هذه الهواجس، ويعملوا على تبديدها، لا بالأقوال فقط، ولكن بالأفعال أيضا..
واللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.