كتاب (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ).
الباب الأول : (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الاطار النظرى )
الفصل الأول : ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر اسلاميا وقرآنيا )
ثانيا تأصيل الأمر والمعروف والمنكر قرآنيا :
تأصيل المنكر بين الحلال والحرام والفحشاء والمكروه
المنكر والحرام والحلال
1 ـ تخيّل إنك رأيت شخصا يأكل الدود أو الحشرات أو الكلاب أو الحمير ، فستتأفف منه ، وهذا (لا غبار عليه) ولا عليك. ستستنكر وتحتجّ بأن ما يفعله منكر . هنا يكون (الغبار عليك) . ليس من حقك أن تحتج عليه أو أن تتصور عمله منكرا منهيا عنه . فهو يأكل ممّا أحلّ الله جل وعلا ، أو بالتعبير القرآنى من (الطيبات ) ، فالطيبات هى الطعام الحلال الذى هو مذكور إسم الله عليه بالحلّ . أما الحرام فى الطعام فهو الخبائث ، وهو إستثناء محدد :( إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(البقرة 173)، وتكرر تحديدها ، ثم نزل شرحها:(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) (المائدة 3 ). وخارج هذه المحرمات المحددة فهو حلال وطيّب. وقد منع رب العزة تحريمه، واعتبر تحريمه إعتداءا على حق الله جل وعلا فى التشريع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(المائدة 87 )(فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ )( النحل 114 : 116 )(قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ )(يونس 59 ـ) .
2 ـ إنّ لكل مجتمع عاداته فى الطعام ، وله ما يشتهيه وما يستقذره . وهناك شعوب تأكل الضفادع والكلاب والحمير والدود وانواعا من الحشرات ، وهناك شعوب تستفظع ما نأكله.هذا كله ( لاغبار عليه ). يهطل (الغبار علينا) حين نصدر قرارا بتحريم ما لا نستسيغ أكله . تحريم ما أحلّ الله جل وعلا من أكبر الكبائر لأنه إعتداء على حق الله جل وعلا فى التشريع .بالتالى ليس لك أن تنكر ما يأكله غيرك من الطيبات . أمّا إن أكل لحم الخنزير أو إمتصّ دم حيوان حى أو أكل من حيوان ميت أو من طعام مقدم لوثن أو ضريح فهنا هو ( لا غبار ) من الانكار عليه. والخلاصة أنه لا إنكار على من يفعل المباح الذى لا يتعدى ولا يبغى على حقوق الآخرين .
3 ـ إن التحريم الالهى فى الطعام وفى الفواحش ليس أساسه الضرر. قد يكون الزنا بالتراضى بين ذكر وأنثى مع استعمال موانع الحمل ، وبالتالى لا ضرر هنا . ولا ضرر محققا حتى الآن من أكل الطعام المحرم . بل يوجد من الطعام الحلال ما هو ضار بالصحة . ولم يأت مثلا تحريم المخدرات وهى الأشد ضررا بينما جاء تحريم الخمر ، وهى أخف ضررا من المخدرات المدمرة للجسد والعقل والمجتمع . التحريم الالهى فى الطعام والعلاقات الجنسية خارج الزواج أساسه هو الاختبار فى الطاعة وليس الضرر. وبدأ هذا فى إختبار آدم وحواء بتحريم شجرة واحدة من الجنة مع إباحة الأكل من كل الأشجار غيرها . ورسب الاثنان فى الاختبار ، ثم تابا . وقبلهما كان الاختبار للملائكة بالسجود لآدم ، ليس تقديسا لآدم وإنما هو الطاعة للآمر الخالق جل وعلا. ونجح الملائكة ما عدا ابليس الذى ابى واستكبر فلعنه الله جل وعلا وطرده .ونزلت الرسالات السماوية على بنى آدم فيها تحريم لأشياء محددة فى الطعام وتحريم مطلق للفواحش والظلم، مع حريتهم فى الطاعة أو العصيان إختبارا لهم . وأسهل طريق للعصيان وأفظعه أيضا أن تحرّم الحلال وأن تستحل الحرام ، فبذلك تعتدى على حق ربك فى التشريع . والشيطان ـ الذى خدع أبوينا من قبل ـ يمارس معنا نفس الخداع ، فيجعل بعض الفقهاء يستعمل القياس فى التحريم ، فيبحث عن علّة فى تحريم الطعام ويقول إنه الضرر ، ثم يقيس على ذلك بأن كل ما يضر فحرام أكله، فيضيف محرمات هى من الطعام الحلال الذى منع رب العزة تحريمه. والسائد فى الدين السّنى بالذات هوالاعتداء على حق الله جل وعلا فى التشريع باستحلال الحرام ( كقتل المرتد والزانى المحصن وتارك الصلاة ) وتحريم الحلال ( فى الطعام ) . ولكن من خلال الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يمكن التعامل مع ما فيه ضرر، وفى دولة اسلامية حقيقية فإن من حقها حظر ومنع ما فيه ضرر وما هو منكر ،وهنا يكون تشريع فيما يأذن به الله جلّ وعلا طالما لا يستعمل مصطلح الحرام والحلال . أما البغى والظلم والاعتداء فكله محرم ، وعلة التحريم فيه واضحة . وكله منكر يستحق أن نتوقف معه .
المنكر والبغى :
1 ـ تخيل شخصا يدخّن بعيدا على الناس . لا يصحّ لك أن تنكر عليه ، فالتدخين ليس حراما ، ولقد كتبنا فى هذا أبحاثا منشورة، وليس لنا أن نحرّم الحلال المباح ، ثم إنّ هذا المدخّن لم يبغ ولم يعتد على أحد بتدخينه بعيدا عن الناس. ومن حق السلطة المنتخبة انتخابا نزيها وتعبر عن رأى الشعب أن تصدر قوانين للتنظيم وللحماية ، تمنع وتجيز بدون إستعمال مصطلح الحرام والحلال لأنها حق الله وحده .لهذه السلطة أن تمنع التدخين فى وسائل المواصلات وفى المؤسسات والأماكن العامة، ولها أن تضع عقوبة مالية على من لا يلتزم . ولك أن تنكر على من يدخن ويؤذى الناس بتدخينه . ولكن ليس لك أن تنكر على من يدخّن بعيدا عن الناس . وهكذا فى سائر الحريات الشخصية فى المرور وقيادة السيارات وأحوال البناء والسكن والاسكان ..
2 ـ المقياس هنا هو مقدار ( البغى ) . فالبغى كله حرام ومنكر. ولكن فى التعامل بين الناس هناك فرق بين بغى قليل كمن يرفع صوت الراديو أو بوق السيارة فيؤذى الناس ، ومن يهجم على الناس معتديا بسلاح . وهنا مجال الانكار مفتوح لأننا فى مجال محرم كله وهو البغى . وقد أنزل الله جل وعلا عقوبة فى الدنيا لبعض أنواع هذا البغى على الناس ، مثل عقوبات القتل والجروح والسرقة والقذف وقطع الطريق ( أو الارهاب بتعبير عصرنا ). وهذه العقوبات لا تمنع الانكار على الباغى أيضا .
3 ـ وأفظع البغى عقوبته مؤجلة الى يوم القيامة ، وهو البغى على الله جل وعلا بإتخاذ آلهة وأولياء معه وبالاعتداء على حقه فى التشريع ، وبالكذب عليه فى الوحى وتأسيس دين أرضى يرتكب المحرمات ثم ينسب هذا التشريع لله جل وعلا ظلما وعدونا كما كانت تفعل قريش قبل ثم بعد نزول القرآن : (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا )وجاء الرد عليهم : ( قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ) وهناك مهتدون مخلصون وهناك ضالون خدعهم الشيطان فجعلهم يحسبون أنفسهم مهتدين:( فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ). وينكر رب العزة على من يحرّم الحلال فى الزينة واللباس والذهب والفضة : (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) ويوضح رب العزة المحرمات ومنها الفواحش والاثم والبغى فيما يخصّ حقوق الناس ، ثم البغى على رب العزة باتخاذ شركاء معه فى ملكه والكذب عليه والاعتداء على حقه فى التشريع :(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )( الأعراف 28 :33 ).
4ـ ومن أسف أننا ننكر ما يخصّ حقوق الناس . فلو رأيت شخصا يعتدى على آخر أنكرت عليه ، وهذا شىء محمود. ولكن حق الله جل وعلا ضائع بيننا ، مع إنه هو الأولى بالاهتمام ، فالاعتداء على الخالق جل وعلا تتنفسه القنوات الفضائية فيما تتقيأه من أحاديث مفتراة ، وفيما يجترّه الخطباء والوعاظ من إفك وبهتان فى مساجد الضرار . يسمع الناس هذا الكفر فيهللون مستبشرين ، ثم يشمئزون عندما تنكر على باطلهم وتعطى الله جل وعلا حقه وتذكره وحده مستحقا وحده التقديس:(وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) عليك ـ إن كنت مدافعا عن رب العزّة منكرا على خصومه ـ أن تجهر بالحق ، ثم تعرض عنهم وتنتظر الحكم عليك وعليهم يوم القيامة إمتثالا لقوله جل وعلا :(قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ).يكفيهم ما ينتظرهم من عذاب الآخرة حين يفاجأون بما لم يكونوا يحتسبون :( وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ) ( الزمر 45 : 48)
المنكر والآداب العامة
ليس من البغى وليس من المحرمات المنصوص عليها أن تقطّب جبينك وأنت تتكلم مع الناس، أو أن تشيح بوجهك وتنظر بتعال واستكبار لغيرك ، أو أن تتجاهل ابتسامته لك أو ترحيبه بك .هنا يكون (الغبار عليك ) وتستحق الانكار لأنك أخللت بالآداب والسلوكيات الفاضلة . وهنا أيضا تتدرج الحالات ، تبدأ بالتصرفات السلبية مثل إهمال تحية الناس وإهمال مساعدة المحتاج مثل أن تقع سيدة عجوز فلا تلتفت اليها . ويتعاظم خرق الآداب العامة لتصل الى إرتكاب أفعال سيئة مثل تناول الطعام بطريقة مقززة أمام الناس والبصق و التبول فى الطريق العام . هنا لا نتحدث عن حلال وحرام. ولكن نتحدث عن آداب عامة، ميدانها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر . وبعضها يستحق الانكار ،وبعضها من حق الدولة أن تضع له تنظيما وعقوبات مالية .
المنكر والفواحش
1ـ من أروع ما قاله امير الشعراء أحمد شوقى يصف مراحل الحب والغرام بين الذكر والأنثى :
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
لنا فى هذا البيت قراءتان حسب ضمير الذكر أو الأنثى . إذا كان الجنس هو الذى وراء النظرة فالابتسامة فالسلام فالكلام فالموعد فاللقاء فالمنتظر إكمال بيت الشعر الى القبلة وما بعدها الى الوقوع فى الزنا . والله جل وعلا حرّم مقدمات الزنا وحرّم الاقتراب من الفواحش، وقال ضمن الوصايا العشر (وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ )( الانعام 151)( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً )( الاسراء 32 )، وبالتالى فإن من يقصد الفاحشة ويفعل ما قاله أحمد شوقى فهو يمهّد الطريق للزنا فيكون حراما. وبالتالى يستحق الانكار عليه. وهناك قراءة أخرى لبيت أحمد شوقى ، فليس العلاقة بين الذكر والانثى كلها فى إطار النصف الأسفل . هناك علاقة احترام ومودة وعطف وإحسان بسبب الجيرة والقرابة والزمالة . وهنا تختلف النظرة والابتسامة والسلام والكلام والموعد واللقاء . وينتهى الأمر عند اللقاء فى زيارة أو فى عمل . لو قمت بالانكار هنا يكون الغبار عليك.
2 ـ إن رب العزة يقول لنا مباشرة : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل 90 ) ، فهو جل وعلا يأمرنا بالعدل ولاحسان وإيتاء ذى القربى. يأمرنا جميعا وليس الأمر للسادة الحكام ، فوجود حاكم يعلو على الناس مناقض للعدل فى الأساس . وينهانا جميعا عن الفحشاء والمنكر والبغى . ويعظنا حتى نتذكر هذه الأوامر والنواهى ، وبالتالى نتناصح فيما بيننا ونتواصى بالحق ونتواصى بالصبر ونتناهى عن المنكر . والنهى عن الفحشاء سبق النهى عن المنكر. فالفواحش من أكبر المنكرات .ولارتباطها بغريزة الجنس والتكاثر فهى المدخل المناسب للشيطان ، لذا يكون سهلا عليه أن يأمرنا بالفحشاء والمنكر فنطيع . والشيطان لا يتمثل لنا مباشرة ، بل يتسلل لنا فى وحيه الكاذب لأوليائه من شياطين الإنس الذين يكذبون على الله ورسوله فى أحاديث يجعلونها وحيا مثلما يسير عليه أرباب الدين السّنى . ويبدأ الأمر خطوة خطوة ، لذا يأتى التحذير الالهى من إتباع خطوات الشيطان الذى يأمر بالفحشاء والمنكر:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ )(النور 21 ) وأفظع من الفحشاء هو أن نتقول الكذب على الله جل وعلا:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )( البقرة 168 : 169 ).
3 ـ ولأن الفواحش مرتبطة بغريزة الجنس الذى لا غنى عنه للانسان فإن من رحمة الله جل وعلا أن يغفر لمن يجتنب كبائر الفواحش، ويقع فى ( اللمم ) أى ما يلمّ به الانسان من مقدمات الزنا بخواطره ونظراته وجوارحه دون الغوص فى الفاحشة نفسها. هذا ليس تشجيعا على الوقوع فى مقدمات الزنا ، ولكنه تنبيه على النهى عن إتباع خطوات الشيطان ، فمنها تلك المقدمات ، ومنها تبريرها أو استحلالها الى أن يصل الى استحلال الفاحشة نفسها . لا بد للمؤمن أن يعرف أن تلك المقدمات سيئات وذنوب ،فلا يزكّى نفسه بل يتهمها ، أى أن يدخل مع نفسه فى ( مونولوج داخلى ) أى حوار منفرد مع الذات ، يمارس فيه الانكار على نفسه ، و ينهى النفس عن الهوى كما جاء فى صفات الفائزين يوم القيامة (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) ( النازعات 40 : 41 ). وبهذا نفهم قوله جل وعلا عن المحسنين :( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى )( النجم : 32 ).
4 ـ إن أعظم الإنكار هو أن تنكر على نفسك قبل أن تفكر فى ارتكاب المنكر ، فهذا أفضل من أن تنكر على نفسك وتندم بعد الوقوع فى المنكر. وفى كل الأحوال فمن التدرج فى صفات المتقين أن تجد الدرجة العليا فى منع النفس من الوقوع فى المعصية وأن ينجو مقدما من وسوسة الشيطان : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) ( الأعراف 201). هذا للسابقين المقربين يوم الدين . وهناك درجة أقل للتقوى وهى الندم بعد الوقوع فى المعصية لأصحاب اليمين : (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران 133 : 135 ). وفى النهاية فكل المتقين ـ من أنبياء ومؤمنين وسابقين وأصحاب اليمين ـ مصيرهم الى الجنة بعد أن يتقبل الله جل وعلا توبتهم ويكفّر عنهم ( أسوأ ) الذى عملوه فى الدنيا (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( الزمر 33 : 35 )
المنكر و المكروه
1 ـ مدارات التشريع الاسلام ثلاث فى الأساس : الواجب الفرض كالعبادات ، والحرام ، وهما ( الفرض والحرام إستثناءات قليلة محددة وموضحة ) أما الأغلب الأعم والأصل فهو الحلال المباح . كل من الواجب المفروض والحرام المحظور ينقسم داخليا . فى الفرض الواجب هناك درجات فى العمل الصالح وفق تكافؤ الفرص المتاحة للجميع : (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( النساء 95 : 96). ولهذا فإن أصحاب الجنة فريقان:الفريق الأعلى هم السابقون المقربون ، والدرجة الأقل هم أصحاب اليمين كما جاء فى بداية ونهاية سورة الواقعة. وفى المقابل فهناك السيئات الصغيرة وهناك الكبائر وأكبر الكبائر ، ومن يجتنب الكبائر يغفر الله جل وعلا له السيئات ويدخله الجنة (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا) ( النساء 31 )، ويكون من أصحاب اليمين. ومن الكبائر الاعتداء على حقوق الانسان مثل حق الحياة وحق الملكية والشرف فى جرائم القتل والسرقة والاغتصاب والزنا والقذف . أما أكبر الكبائر فهى الاعتداء على حق الله جل وعلا فى العقيدة( لا اله إلا الله ) وفى التشريع . والجحيم دركات ، والمنافقون فى الدرك الأسفل من النار (النساء 145 ).
2 ـ مؤسسو الدين السّنى إعتدوا على حق الله جل وعلا فى التشريع ، وأسّسوا لهم دينهم بمصطلحاته وقواعده ومدارته التى تخالف الاسلام . وعرضنا لمدارات التشريع فى الاسلام . ونوجز هنا فى لمحة مدارات التشريع السّنى . فقد قسموها الى خمس : الفرض الواجب و الحرام والمباح الحلال . ثم التفتوا الى الحلال المباح فألحقوا جزءا منه بالحرام وسمّوه ( المكروه ) وجعلوه حلالا ولكن مكروها ، وأقتطعوا جزءا آخر من الحلال المباح وألحقوه بالفرض الواجب كدرجة ثانية أو زيادة على الفرض، وأسموه المستحب أو المندوب أو المسنون . هنا وقعوا فى تناقض مع القرآن الكريم الذى يجعل أكبر الكبائر من الكفر والفسوق والعصيان من المكروهات ويجعل الايمان الواجب من المستحب: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ )( الحجرات 7 ).
والله جل وعلا ذكر أوامره ونواهيه بدءا من (لا اله إلا الله ) فى سورة الاسراء :( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ) الى إيتاء الحقوق : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ) والنهى عن الاسراف والتبذير (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً)والنهى عن قتل الأبرياء وعن الزنا وعن أكل مال اليتيم بالباطل ،والأمر بالوفاء بالعهد والكيل والميزان بالقسط والنهى عن تتبع ما لايعنيك والنهى عن الغرور، ثم قال عن كل تلك الكبائر( كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً )( الاسراء 23 : 38 ).أى إن الكفر والزنا والقتل مكروه . وكل مكروه منكر .!!
الإنكار الجميل
1 ـ ولكن يجب أن يكون إنكارا هينا جميلا ، ليس بالشدة ولكن بالنصح والحكمة والموعظة الحسنة كما سبق قوله فى بداية اللمحة عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. فى البداية فالمؤمن مطالب بأن يقول للناس حسنا:(وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً )(البقرة 83 ). والدرجة العليا لعباد الرحمن أن يقولوا التى هى أحسن وليس مجرد الحسن :(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )ُ ( الاسراء 53 ). وبالتاى فإن إنكارهم لا بد أن يكون بالحسنى وبالتى هى أحسن . ولو نصحت أحدهم بالحسنى منكرا على ما يفعله آمرا إياه بالمعروف ناهيا عن المنكر فما كان منه إلا إن تعدّى عليك بالسّب والشتم. هنا يجب عليك أن ترد عليه بالتحية والسلام :( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) ( الفرقان 63 )مع الاعراض عنه :( وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ )(القصص 55 )والصفح :(وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) ( الزخرف 88 : 89 )والغفران :( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)( الجاثية 15 ). والقاعدة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هى عدم التسلط ، فطالما لا فائدة من هداية المرتكب للمنكر فالاعراض عنه فى لطف وصفح هو الأجدى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة 105 ).
2 ـ هنا الجمال فى الانكار . هذا الانكار يستلزم صبرا. ليس صبرا غاضبا حاقدا مكشرا عن أنيابه متوعدا خصمه ، بل صبر جميل : (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ) ( المعارج 5 ). وهو صبر جميل لأنه مؤسس على صفح جميل :( وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)(الحجر 85 ). وحتى حين الاعراض عنهم وهجرهم فليس هجرا فاحشا فاجرا بل هو هجرباسم رقيق جميل :( وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ) ( المزمل 10 )
أخيرا
هل تريد رؤية القبح فى الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف ؟ إذهب الى مملكة آل سعود ..