كتاب (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ).
الباب الأول : (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الاطار النظرى )
الفصل الأول : ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر اسلاميا وقرآنيا )
ثانيا تأصيل المعروف والمنكر قرآنيا :
تأصيل مفهوم الأمر بين التحكم والالتزام الطوعى
أوّلا :الأمر بالمعروف أمر تشريعى لا إكراه فيه ولا تسلط
1 ـ سبق القول بأن الأمر التشريعى يأتى من الله جل وعلا لإختبار للناس ، فلهم الحرية فى الطاعة أو المعصية ، وعليهم تحمل النتيجة يوم القيامة ، فمن مات فى طاعة دخل الجنّة ، ومن مات وقد أحاطت به سيئته فقد حجز لنفسه مقعدا فى الجحيم .والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر جزء من الأوامرالالهية التشريعية،جاء معناه فى أمر مباشر من الله جل وعلا للناس:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ )(النحل 90) ، وجاء بلفظه أمرا مباشرا للناس أن يقوموا به (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران 104). وبالتالى فلا مجال للتحكم والتسلّط فى تشريع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وليس لأحد من البشر أن يتخذ منه وسيلة للتسيّد وللعلو على الناس يأمرهم وينهاهم، دون أن يتعرض مثلهم لمن يأمره وينهاه .
2 ـ هنا يتضح التناقض بين شريعة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى تشريع الاسلام وتشريع الشيطان ، هى فى شريعة الاسلام تواصى بالحق وتفاعل بالخير وتناصح بين الأفراد جميعا بحيث لا يعلو أحد على أحد ، وبحيث لا يتعدّى الأمر الى إكراه فى الدين وتدخل فى الحرية الشخصية وتحريم للمباح . أما فى شريعة الشيطان فهى تسلط أقلية أو نظام حكم مستبد بالأمر يأمر الناس وينهاهم ويتدخل فى حريتهم الدينية والشخصية فى نفس الوقت الذى يكمم فيه الأفواه فلا يستطيع أحد نقده ،بل لا يستطيع أن يجأر أو يجهر بالشكوى . ثم تصل الأمور الى الحضيض حين يتم ربط هذا الظلم والاستبداد بالله جل وعلا ورسوله عن طريق تحريف تشريع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ووضع أحاديث ضالة ، وإستبعاد تشريع القرآن بزعم النسخ .
ثانيا :تحريف الأمر والنهى ليصبح تحكما وتسلطا
1 ـ بدأ (الأمر ) بسيطا بتحريف معنى (الأمر ). فبدلا من أن يكون أمرا تشريعيا كما جاء فى القرآن الكريم أصبح (أمرا سلطويا ) يصدر من (أمير ) يستبد ب( الأمر ). وتحريف معنى ( من ) فى قوله جل وعلا :(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ)، فقد جعلوا (من) تفيد ( التبعيض ) أى لتكن من بعضكم أمة تحترف وتحتكر الأمر وتأمر غيرها ولا يأمرها غيرها . وتناسوا أنّ (من ) هنا هى (البيانية) ، وتعنى هنا ولتكونوا كلكم (أمة تدعو الى الخير فيما بينها ) ويعزز ذلك أن السياق الموضعى المحلى فى الخطاب قبلها وبعدها جاء لجميع الأمة وليس لطائفة منها ؛فقد بدأ السياق فى الآيات واستمر بمخاطبة المؤمنين جميعا كأمّة واحدة ، فقال جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، الى أن يقول جل وعلا عن نفس الأمة جميعها :(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )( آل عمران : ـ 101). كما إن السياق فى القرآن كله فى نفس الموضوع يؤكد على التواصى بالحق والتواصى بالصبر،وعلى المساواة فى الحقوق والواجبات.
2 ـ ويتسق هذا مع تشريع الشورى الذى يجعل إقامة الشورى بين المسلمين جميعا بلا تميز لفرد أو طائفة ، يقول جلّ وعلا يصف مجتمع المؤمنين أو (أمة المؤمنين ) : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)(الشورى 38 )،هنا جاءت لهم أوصاف أربعة مطالب بها كل فرد، وهى الاستجابة لربهم وإقامة الصلاة والانفاق فى سبيل الله جلّ وعلا ، وتداول أمورهم بالشورى فيما بينهم ، لا فارق بين ذكر أوأنثى وغنى أوفقير بحيث لا (يعلو) أحد على أحد .
3 ـ ونفس الحال فى (إقامة القسط ) وهو عصب الدين الالهى ، وقد جعل الله جلّ وعلا من إقامة القسط مسئولية جماعية لأفراد الأمة جميعا ذكورا وإناثا وفقراء وأغنياء:(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )(الحديد 25 )، فالكلام هنا عن الناس أى المجتمع كله ، يجب أن يتعاون كل الناس فيه فى إقامة القسط والعدل فيما بينهم فى نظام حكم يؤسس للديمقراطية المباشرة والعدل المطلق بين الأفراد ، بحيث لا ( يعلو ) فرد أو طائفة على بقية الناس.
4 ـ ولذلك لم يأت مصطلح ( الحكم ) فى القرآن فى تعامل البشر فيما بينهم إلا بمعنى التحاكم القضائى وليس الحكم السياسى ،ولم يتوجه الخطاب لحاكم فى دولة الاسلام بل للمؤمنين ، كقوله جلّ وعلا:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ً)(النساء 58 )، بل ورد لفظ ( الحكام ) مرة واحدة فى إشارة للنظام المستبد الفاسد القائم على الرشوة فى قوله جل وعلا:(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة 188). ليس فى الدولة الاسلامية حاكم ، ولكن فيها أمة تحكم نفسها بنفسها حتى فى وجود نبى كان قائدا لها،وعندما مات عليه السلام تركهم بنفس الطريقة ليحكموا أنفسهم بأنفسهم ولم يعيّن لهم حاكما ، فبدأ التحريف بعد وفاة النبى محمد عليه السلام بنبذ الشورى الاسلامية (الديمقراطية المباشرة).
5 ـ وهنا نتوقف مع أولى مظاهر التحريف بتعيين أبى بكر حاكما يحمل لقب ( خليفة )، أى خليفة النبى بعد موت النبى ، متناسين أنه عليه السلام كان خاتم النبيين وبالتالى لا خليفة له. ثم تطوّر الأمر فى العصر العباسى ليصبح الخليفة ( خليفة لله ) جلّ وعلا يحكم باسمه طبق ثقافة الدولة الدينية التى تتناقض مع الدولة الاسلامية وديمقراطيتها المباشرة . لقد أعلن أبو جعفر المنصور أنه يحكم باسم الله وأنه أمين الله على مال الله وأنه خليفة الله فى أرضه ، قال فى خطبته يوم عرفة: ( أيها الناس ،إنّما أنا سلطان الله فى أرضه ، أسوسكم بتوفيقه ورشده ، وخازنه على فيئه ، أقسمه بارادته وأعطيه بإذنه ، وقد جعلنى عليه قفلا ؛ أذا شاء أن يفتحنى فتحنى لاعطائكم ، وإذا شاء أن يقفلنى عليه أقفلنى ، فارغبوا الى الله أيها الناس ، وسلوه فى هذا اليوم الشريف الذى وهب لكم فيه من فضله ..أن يوفقنى للصواب ، ويهدينى الى الرشاد ، ويلهمنى الرأفة بكم والاحسان اليكم ويفتحنى لاعطائكم وقسم أرزاقكم بالعدل إنه سميع مجيب) أى جعل الله جل وعلا واسطة بينه وبين الناس ، ولم يكتف بالعلو على الناس بل أعلا من نفسه فوق رب الناس جلّ وعلا.
إن الله جل وعلا لم يعيّن أبا جعفر المنصور خليفة ، ولم ينزل وحيا يقول( يا أبا جعفر، إنا جعلناك سلطان الله فى أرضه وخليفته على خلقه ). أبوجعفر المنصور كاذب فى هذا الزعم ، ولقد وصل الى السلطة بالسيف والغلبة شأن من سبقه ومن خلفه . والخلافة تعنى أن تخلف ميتا أو غائبا ، ولهذا لا يقال ( خليفة الله ) لأن الله جل وعلا لا يغيب وهو معنا أينما كنا (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )( الحديد 4 )(مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)( المجادلة 7 )، وهو الحىّ الذى لا يموت (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً ) ( الفرقان58 ).
هذا الخليفة مؤسس الدولة الدينية الأول فى تاريخ المسلمين أمر بقتل رجل بسبب كلمة قالها ، ففى أحداث عام 141 إنه زار بيت المقدس بعد أداء فريضة الحج ، ثم زار مدينة الرقة ، وقتل بها منصور بن جعونة ، لأن المنصور خطب فقال : إحمدوا الله يا أهل الشام ، فقد رفع الله عنكم بولايتنا الطاعون .! فقال منصور : الله أكرم من أن يجمعك علينا والطاعون . !
6 ـ ثم تعاظمت سلطة ( الخليفة ) بعد أبى بكر فأصبح (عمر) (أمير المؤمنين )،الذى(يأمر ) المؤمنين وينهاهم و(يعلو) عليهم ،إذ يمشى وبيده ( الدرة ) يستطيل بها على الناس ضربا. ثم تطور الأمر ليصبح حق (أمير المؤمنين) الأموى ثم العباسى والفاطمى والعثمانى فى قتل من يشاء، والسيّاف ( مسرور) يطيح بالرءوس ،و(امير المؤمنين ) فى غاية ( السّرور).
فى عام 75 هجرية وبعد قتل عبد الله بن الزبير وتوطيد الملك لعبد الملك بن مروان أدى عبد الملك الحج وزار المدينة وهى مقرّ المعارضة فخطب فيهم فقال :( أمّا بعد ، فلست بالخليفة المستضعف ( يعنى عثمان ) ولست بالخليفة المداهن ( يعنى معاوية ) ولست بالخليفة المأفون ( يعنى يزيد بن معاوية ) .زالى أن قال : ألا وإنى لا أداوى أدواء هذه الأمة إلاّ بالسيف حتى تلين لى قناتكم ..فلن تزدادوا إلا عقوبة حتى يحكم السيف بيننا وبينكم . ..والله لا يأمرنى أحد بتقوى الله بعد مقامى هذا إلا ضربت عنقه ). فى ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) كان بعضهم وقتها يعظ الخليفة يقول له ( أتّق الله ) ، ليشعر الخليفة بالحرج حتى لا ينطبق عليه قوله جل وعلا:( وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ )(البقرة 206)، فجاء عبد الملك الى المدينة التى شهدت نزول هذه الآية لينذر بقتل من يجرؤ على مواجهته بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قائلا له : إتّق الله. بعدها أطلق عبد الملك يد الحجّاج بن يوسف فى قتل الناس كيف شاء ، وتولى الوليد بن عبد الملك فاتّسع نطاق القتل ليشمل من يتلفّظ بكلمة تأمر الخليفة أو الوالى بالمعروف . ولقد خطب الوليد بن عبد الملك فأطال فى خطبته فاعترض عليه رجل فقال له الخليفة : إن من قال مقالتك لا ينبغى أن يقوم من مقامه . وفهم الحرس مقصد الوليد فبادروا فقتلوا الرجل . ولما تولى الوليد بن عبد الملك قدم المدينة فدخل المسجد فرأى شيخا قد اجتمع الناسعليه فقال : من هذا؟ فقالوا : سعيد بن المسيب . فلما جلس أرسل إلى سعيد أن يأتى اليه ، فجاء رسول الخليفة الى سعيد فقال : أجبأمير المؤمنين. فقال له سعيد : لعلك أخطأت باسمي أو لعله أرسلك إلى غيري؟ فرجع الرسول الى الخليفة الوليد فأخبره فغضب الوليد وهم أن يأمر بقتل سعيد بن المسيب .يقول الراوى ـ كما جاء فى ( الطبقات الكبرى) لابن سعد : ( وفي الناس يومئذ بقية ) أى كان وقتها بقية من الفضلاء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بلين وترفق ، يقول الراوى : ( فأقبل عليه جلساؤه فقالوا يا أميرالمؤمنين، فقيه أهل المدينة وشيخ قريش وصديق أبيك لم يطمع ملك قبلك أن يأتيه.!! قال فمازالوا به حتى أضرب عنه). أى ترجوا الخليفة حتى أمسك عن قتل سعيد بن المسيب أشهر وأعظم علماء المدينة فى القرن الأول الهجرى . وكل الذنب الذى فعله سعيد هو أنه رفض أن يسعى لمقابلة الخليفة الوليد ، ولقد كان سعيد بن المسيب صديقا من قبل لأب هذا الخليفة ورفيقا له فى طلب العلم ، فلما تولى عبد الملك الخلافة أمر بضرب رفيقه القديم ليخيف الآخرين من أهل المدينة ، ثم جاء إبنه الوليد يهمّ بقتل سعيد لأن سعيد قد ترفّع عن السعى للتملق للخليفة شأن الآخرين ،مع أن سعيد كان مشهورا بالعزلة واعتزال السياسة ولكن كان المفروض هو تذلل سعيد لأولئك الذين يريدون علوا فى الأرض وفسادا .
هم جميعا نسوا اليوم الآخر فى سبيل (العلو) فى الأرض،واستهانوا بقوله جل وعلا:(تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)(القصص 83)
ثالثا : تحريف ( المعروف ) بعد تحريف الأمر
7 ـ وطالما إحتكر ( الأمر ) ( أمير ) فلا بد أن يزوّر مسوّغا تشريعيا يستبيح به لنفسه أن يستبد بأمور الناس وأن يأكل أموالهم . وتوالت التحريفات والتأويلات ، ووضع الأحاديث وتأليف الأقاصيص ، ومنها فيما يخصّ موضوعنا تحريف وتأويل معنى المعروف والمنكر ، فلم يعد ( المعروف) هو المتعارف على أنه خير وعدل ، ولم يعد (المنكر) هو الذى يستنكره الناس من الظلم والفواحش . أصبح تحديد المعروف والمنكر فى خدمة إستبداد الحاكم والطامح للوصول الى السلطة، فغاب العدل فى التطبيق ليصبح شعارا لخداع الناس وارتبط ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) بحق المستبد فى فرض سلطته باسم الاسلام كما يحدث لدى الوهابيين عندما يستحوذون على السلطة أو يقتربون منها .
وتناسى الجميع مفهوم المعروف القيمى الأخلاقى والتشريعى ، بل تناسوا آيات القرآن فى موضوع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لأنها لا تلبى عطشهم للتسلّط والتحكم، وفضّلوا عليها الحديث الذى إخترعوه مسوغا حركيا للتسلط والاكراه فى الدين،وهو ( من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده ...). بل أصبح هذا الحديث فى رأى الطامحين للسلطة مسوغا شرعيا لقلب نظام الحكم القائم لأنه ( منكر) يجب تغييره ليقيموا بدلا منه حكما إستبداديا لهم .
8 ـ وهذا هو ما يحدث الآن ، وكان هذا الحديث هو الدافع للحنابلة فى العصر العباسى ليعيثوا فى الأرض فسادا باسم تغيير المنكر من وجهة نظرهم ، فكل من يخالفهم فى الرأى ولا يكون مثلهم فى التزمت يلقى منهم الاضطهاد كما فعلوا مع الامام الطبرى فى أواخر حياته .
لقد أدت شهرة الطبري إلى حقد الحنابلة السنيين عليه فتعصبوا ضده، وأثاروا عليه جماهير الطلبة،يقول ابن كثير في تاريخه عن الطبري" كانت وفاته وقت المغرب عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال من سنة عشر وثلاثمائة ، وقد جاوز الثمانين بخمس سنين،ودفن في داره لأن بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا دفنه نهاراً، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد، وحاشاه من ذلك كله، بل كان أحد أئمة الإسلام علماً وعملاً بكتاب الله وسنته رسوله، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الظاهري حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم".
ويذكر خليل الصفدي فى الوافى بالوفيات أن الطبري حين قدم بغداد من طبرستان تعصب عليه ابن الجصاص وابن عرفة والبياضي وأثاروا عليه الطلبة فسألوه في المسائل الخلافية ولما لم ترضهم إجابته رموه بمحابرهم وكانت ألوفاً فهرب منهم إلى داره فردموا داره بالحجارة، حتى صارت الحجارة على باب داره كالتل العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة ففرق الناس عن داره بعشرات الألوف من الجنود، واضطر الطبري للاعتكاف في داره وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، ومات، وعثروا على ذلك الكتاب مدفوناً في التراب فأخرجوه ونسخوه بعد موته..!! ويذكر المؤرخون أن العوام منعوا دفنه علناً، فدفنوه سراً .!!
أخيرا
أليس من حقنا أن نفزع من قدوم التتّار ؟