خـلق الإنسـان من طين
فلسـفة القرآن, فـي خلق الإنسـان من طين

ابراهيم ايت ابورك في الأربعاء ٢٩ - فبراير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

1

سنحاول إن شاء الله في هذا البحث القاء الضوء على موضوع كثيرا ما شغل بال الناس واختلفت حوله الرأى والنظريات والفلسفات والأديان, والكل يفسر على حسب انتماءاته الايديولوجية على الخصوص, ونحن ان شاء الله سنتجرد للحقيقة مستعينين بالله وبكتابه الكريم الذي هو مادة بحثنا وبالمنطق السليم بعيدا عن تفسيرات الموروث التقليدية المتوارثة, وبعيدا عن الرأى والافكار المسبقة, وتحت منهج { هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } البقرة-111و{ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ } آل عمران-7واعتبارالقرآن الكريم { تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} النحل-89.

القرآن الكريم يحمل مفاتيح تبيان كل شيء دون استثناء, و التقصير في عدم ادراكها وفهمها  فتلك مشكلتنا نحن البشر, فالجادبية موجودة قبل وجود نيوتون بل وحتى قبل وجود أبسط المخلوقات على الأرض, لكن تقصير الاولين في عدم ادراكهم لوجودها لا يعني أنها غير موجودة بالاساس وكذلك بالنسبة للقرآن الكريم, وهذه الحقيقة نراها جلية واضحة في هذه الآية الكريمة عن ذي القرنين { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } الكهف-86فالله تعالى سخر لذي القرنين كل الاسباب و مفاتيح الأشياء بين يديه لبلوغ مقصده ومبتغاه في هذه الدنيا { وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا }, لكن ذي القرنين لم يأخد بكل هذه الأسباب المتاحة بين يديه, وانما اتبع سببا واحدا فقط { فَأَتْبَعَ سَبَبًا } والذي أوصله الى مبتغى واحد الذي هو مغرب الشمس, ولايمكنه الاحاطة بكل هذه الأسباب وبالتالي بكل مفاتيح الأشياء رغم توفرها وتسخيرها كلها بين يديه, وعجزه لا يعني عدم وجودها على الإطلاق, ولو كان عكس ذلك لبلغ أسباب صنع الطائرة مثلا.. !!

وكل ما سيتوصل اليه الإنسان من علم ومعرفة, لن ترتقي أبدا الى الحقائق المطلقة لعلم الله تعالى, وإنما لنظريات تكاد تكون مثبتة تجريبيا ونظريا, لأن الإنسان وببساطة لن يستطيع أن يضع يديه على أسباب الخلق الأولى, مصداقا لقوله تعالى { مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ } الكهف-51.

وبالتالي الحقيقة كل الحقيقة موجودة في كتاب الله تعالى, وثوابت العلم والعقل والمنطق, إن تجردنا لها بخلع نعلنا ونحن في خضم الواد المقدس ( القرآن الكريم ) سنراها إن شاء الله تعالى واضحة بارزة للعيان ..

وقبل الخوض في خلق الانسان من طين لابد و أن نُذَكر بالبحث السابق الذي يتحدث عن خلق الانسان من تراب...حيث بينا أن كلمة تراب في اطارها العام تعني اللاشيء أو قيمة سلبية هابطة, وتعني أيضا العدم, وقلنا أن الله تعالى في كتابه الكريم, يبدأ بذكر كلمة تراب في مراحل خلق الانسان في بطن أمه في الآيات التي تخاطب منكري البعث فقط, حيث يقول لهم جل شأنه  كنتم في بطون أمهاتكم قبل النطفة لاشيئ (قيمة صفر) ثم من النطفة الى العلقة ومن العلقة الى المضغة .. الى أن تصلوا الى الشباب ثم الى الشيخوخة وتوافيكم المنية وتتحول أجسادكم  الى لاشيء (تراب) وهي نفسها القيمة التي خلقتكم منها من قبل، فلماذا الانكار والجحود بالبعث وقدرة الله تعالى أصلا ؟!{ وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا } مريم-67 وكل ماجاء في البحث تنطق به وتختصره هذه الآية الكريمة : { هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْر ِلَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } الانسان-1

فالله تعالى خلق الإنسان في بطن أمه من نطفة (البيضة المخصبة) وقبل هذه النطفة لم يكن شيئاً مذكوراً , وتراب جاءت قبل النطفة { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ } مما يدل على أنها (تراب) تمثل قيمة اللاشيء المذكور بالنسبة للإنسان.

2

يعتبر العالم الفلكي الجليل أدوين هابل أول من أثبت أن للكون تاريخ ميلاد محدد , وكان لهابل تلسكوب ضخم, وفي يوم من أيام عام 1929 كان كعادته يراقب الفضاء بجهازه الكبير على شرفة منزله, وتوصل إلى أن النجوم متحركة.

وهذه النجوم لم تكن تتحرك بانتظام, لأنها تبتعد عنا باستمرار, وكذلك تبتعد عن بعضها البعض. وهذا يعني أن كل شيء يبتعد عن بعضه البعض, فالكون إذا في حالة اتساع.مصداقا لقوله تعالى: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } الذاريات-47وكلمة موسعون جاءت بصيغة المضارعة مما يفيد استمرارية الاتساع الى الأجل الذي قُدر له سلفا في علم الله تعالى الكاشف, والفضاء أيضا عبارة عن بناء بعدما سار اعتقاد ولقرون طويلة أنه عبارة عن فراغ والحقيقة أنه بناء متراص و متماسك.

لم يكن الإنسان يعرف هذه الحقيقة قبل مائة عام, أما اليوم فجميع العلماء يقولون بأن النجوم تبتعد عن بعضها البعض وعن الأرض كذلك.

وحركة النجوم هذه تمثل دليلا مهما بشأن خلق الكون, لأن ابتعاد النجوم عن بعضها البعض باستمرار يبين أنها كانت جميعا في نقطة واحدة في البداية. ويرى العلماء أن جميع مواد الكون كانت قبل 15 مليار سنة عبارة عن نقطة مضغوطة في حجم رأس الإبرة, وانفجار هذه النقطة وانتشارها في الفضاء نتج عنه هذا الكون البديع الذي نراه اليوم, مصداقا لقول الله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا } الأنبياء-40وكما نلاحظ في الآية الكريمة الله سبحانه وتعالى استعمل مصطلح الفتق عوض الانفجار, لأنه وكما هو معروف فالإنفجار يؤدي الى تشتت المادة بينما الفتق يؤدي الى تمددها وانتشارها .. والانفجار يدل على العشوائية بينما الفتق يدل على العبقرية في التخطيط والإبداع..

والآن يمكن أن نقول بأن جميع مظاهر الكون من شمس وقمر ومجرات وكواكب ونجوم ... خلقت من الرتق !باعتباره المادة الأولى في الوجود, والرتق خلق من العدم وبهذا يمكن أن نغير صيغة الجملة الأولى إلى ان الشمس والقمر والمجرات والكواكب والنجوم ... والكون بصفة عامة خلق من العدم, أي خلق الله تعالى الكون من اللاشيء.

واذا تذكرنا تعريف كلمة تراب الذي توصلنا لها في بحثنا السابق والمتعلقة بمراحل خلق الانسان في الرحم, وجدنا أنها والتي تأتي قبل كلمة النطفة تعني اللاشيء أو العدم, بمعنى أن الله تعالى بقدرته المطلقة على فعل ما يشاء خلق الانسان في بطن أمه من العدم, تماما مثل هذا الكون, بصمة واحدة في قوانين الخلق, دليل على وحدانية الخالق العظيم.

وكل ما سبق قوله سنعبر عنه بالرسوم  التالية لتقريب الصورة أكثر.

- بالنسبة للكون:

- بالنسبة للإنسان في الرحم:

اذا للكون ميلاد محدد وللإنسان أيضا في بطن أمه ميلاد محدد, بدأ من اللاشيء وصولا بالتدرج الى أعقد مانراه اليوم... لكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه الآن هو: كيف ظهر الإنسان الأول والذي به الآن تتم آلية الولادة والتكاثر واعمار الأرض ؟

3

 الاعتقاد الراسخ لدى المسلمين يقول ان الله تعالى خلق الإنسان من طين ونفخ فيه واصبح إنسانا يتمشى على قدميه !هل فعلا هذا مايقوله القرآن الكريم, أم أن الناس فهموا معنى الآيات بطريقة أخرى ؟

وما علاقة معجزة سيدنا عيسى عليه السلام في فهم طريقة خلق الإنسان من طين ؟ وهل الإنسان وحده من خلق من طين ؟

و ما الفرق بين كلمة خلق و سوى و عدل و صور وركب المرتبطة بخلق الإنسان في القرآن الكريم, وما الغاية من ترتيبها ؟ كل هذه الأسئلة وغيرها سنجيب عليها بالتفصيل في هذا البحث المتواضعبحول الله تعالى.

و الملاحظة التي قام بها هابل من شرفة منزله على نجوم السماء لاكتشافه بداية أصل الكون, نفسها سوف نقوم بها لتحديد أصل خلق الإنسان, لكن ليس على نجوم السماء, وإنما على نجوم الأرض التي هي الإنسان (الخليفة) فالإنسان كما هو معروف في انتشار متزايد ( مثل هذا الكون) ويبلغ تعداده الآن حوالي 7 ملايير نسمة, وفي الماضي البعيد لا شك أنه اتخد شكل تجمعات بشرية صغيرة, وقبل أن تتكون هذه المجموعات, فلا شك أنها كانت عبارة عن عائلة واحدة, وقبل هذه العائلة كانت عبارة عن أفراد وقبل ولادة هذه الأفراد كان الأصل بلا شك من أب و أم سمى القرآن العظيم الذكر بآدم بينما لم تذكر حواء ( بالاسم ) في القرآن الكريم !!..

والسؤال المباشر الذي نبحث له عن إجابة في هذا البحث هو كيف ظهر آدم وحواء اللذان انفجرت عنهم هذه الملاييرمن البشر ؟؟

و الإنسان بصفة عامة ينتمي لفصيلة الكائنات الحية ولدراسة طريقة خلقه وظهوره لابد أولا من الوقوف على طريقة ظهور الحياة  بصفة عامة على سطح الأرض.

أولا القرآن الكريم يقر بنفس الحقيقة العلمية التي مفادها أن الإنسان خلق على هذه الأرض ولم يأتي من خارجها يقول الله تعالى { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } طه-55و { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } نوح-17يعني أن الإنسان خلق من مواد معروفة ومعلومة لنا { كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ } المعارج-عكس ما تقوله بعض الأساطير الفلسفية والمعتقدات البشرية, وهذه الحقيقة القرآنية – العلمية هي التي سنبني عليها بحثنا بحول الله تعالى ونعتبرها أول لبنة في الموضوع ..

وبما أن الإنسان وجد على الأرض إذا لدراسة طريقة خلقه لابد لنا من عرض موجز بسيط عن تكون الأرض و المراحل التي مرت بها قبل تكون المفهوم البيولوجي للحياة : لقد تكونت الأرض من مواد جاءت من أعماق الكون هذه المواد هي خليط من المواد اللاعضوية البسيطة المحتوية على جميع العناصر التي نراها اليوم على كوكبنا هذه العناصر كانت بدورها منبثقة عن العنصر الأولي البدئي الهدرجين و هو أول و أخف العناصر و العنصر المنبثق عن الانفجار الكوني الكبير . و عليه يبدو كل شيء قد بدأ من غيمه هائلة من الهيدرجين و قد مر بعد الانفجار الكوني فترة  9-10 مليار سنة حتى كوّن الغبار الكوني شمسنا و كواكب مجموعتنا الشمسية بما فيهم كوكبنا الأرضي . و بعد نشوء الأرض من التحام الغبار و انضغاطه بتأثير جاذبيته الخاصة أصبح لدينا جرم سماوي ذي كتلة محددة و حاصل على جاذبية ضغطت الغلاف الغازي المحيط بالأرض كما أن البعد الثابت عن الشمس و حقلها الكهرطيسي أدى إلى توفر شروط إشعاعية و حرارية شديدة الخصوصية على الكوكب فقد بزغت الشمس في تلك الفترة بقوة تقدر ب 70 بالمائة فقط من قوتها الحالية و قد كان الغلاف الجوي الأرضي لا يحتوي على أوكسجين و كانت هناك بضعة أصوات خلف الرياح مثل هسيس الحمم المصطدمة بالمياه أو دوي النيازك , لم يكن هناك أي نباتات أو حيوانات أو بكتريا أو فيروسات . و قد بدأ الغلاف الجوي الأرضي بالتشكل و التبلور نتيجة الأبخرة المتصاعدة عن البراكين العديدة المتفجرة على سطح الكوكب نتيجة الحرارة العالية في تلك الفترة , و كانت تلك الأبخرة مكونة بشكل أساسي من بخار الماء ثم من مقادير من غازات الفحم و الميثان و الأمونيا , تلك العناصر و مع تساقط بخار الماء الذي كون مجموعة غيمية هائلة كونت البحار الأولى-و لعدم وجود الأوكسجين في تلك الفترة كانت الأشعة فوق البنفسجية تخترق الجو الأرضي بشكل مستمر و من المؤكد بأن تلك الأشعة استطاعت النفاذ إلى عدة أمتار في الماء الغني بالجزيئات المذكورة و ذلك أدى لتحريض الجزيئات المعنية في ذلك العمق لتتجمع مشكلة قطع بناء أكبر و نفس الأشعة التي سببت نشوء تلك القطع عملت على تفكيكها أيضاً و بذلك نتجت دورة متواصلة من البناء و التفكيك و بما أن الشعاع الشمسي لا يمكنه النفاذ إلى الطبقات الدنيا من قاع المحيط ( لا يتفذ أكثر من 10 م من مياه البحار ) فقد استطاع قسم من الجزيئات الأكبر أن يحتمي في الأعماق غير مبال بطبيعة الدورة العملية في الأعالي و قد تسببت الأشعة فوق البنفسجية بطاقتها القوية في تفكيك المياه نفسها إلى موادها المؤلفة من أوكسجين و هدرجين و بالتالي حدث على سطح البحار ما يسمى بالتفكك بالضوء أما الهدرجين فقد تصاعد خارج نطاق الجاذبية الأرضية التي لم تستطع أن تبقيه في مجالها لخفته و بقي الأوكسجين في الغلاف الجوي الأرضي مشكلاً حاجزاً منيعاً في وجه استمرار تدفق الأشعة فوق البنفسجية و بالتالي منع تفكك الجزيئات الموجودة في الماء و هذا ما سمي بقانون الكبح.(هذا النص مقتبس من موقع الجمعية الكونية السورية).

إذا الأرض قبل تكون المفهوم البيولوجي للحياة (أبسط أشكال الحياة) مر بعدة مراحل متسلسلة و مرتبطة بالزمان والمكان وببعضهما البعض, لم تظهر الأرض ومنه الكون  إلى الوجود بشكل فجائي وبدون مقدمات, وإنما مر بسلسلة منظمة وفي غاية في التعقيد والإتقان قبل أن يصل إلى الهيئة التي عليه الآن .. والسؤال الذي يطرح نفسه وبقوة هو: إذا كان القانون المنظم للكون يفرض التسلسل الزمني والمكاني وارتباط عناصره بعضها ببعض, هل مثل هذا القانون يحكم أيضا الكائنات الحية بمافيهاالإنسان ؟؟ ببساطة هل الإنسان ظهر إلى الوجود بشكل فجائي وبدون مقدمات من كتلة طين مثلا كما يعتقد البعض ؟؟ أم أن الأمر أكبر من ذلك بكثير ؟

قبل الخوض في موضوع ظهور الإنسان إلى الوجود بشكل فجائي من عدمه دعونا أولا نتفكر في خَلق الإنسان داخل رحم أمه كما رأينا في البحث السابق, حيث  خُلقَ الإنسان من نطفة واحدة وهي المكونة من حيوان منوي وبويضة ومر هو الآخر بعدة مراحل زمنية ومرتبطة ببعضها البعض داخل الرحم مثل هذا الكون تماما, وحتى رسالة الله تعالى للبشرية جاءت بشكل متسلسل, بدءاً من الأمر المنزل على آدم عليه السلام { وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ } البقرة-35إلى رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد (ص) وحتى هذه الرسالة الخاتمة (القرآن الكريم) بدورها لم تنزل جملة واحدة وبدون مقدمات, وإنما نزلت بأجزاء متسلسلة ومرتبطة بأحداث زمنية ومكانية وبوقائع شأن هذا الكون تماما { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } الفرقان-33.. كل شيء إذا بدأ من اللاشيء وتطور شيئا فشيئا حتى وصل إلى الهيئة التي هو عليها الآن ويستمر  في التطور ...

 وقلنا أن وحدة قوانين الخلق دليل على وحدانية الخالق العظيم, بصمة واحدة في جميع الموجودات. إذا من الذي يفرض علينا أن نقول أن الإنسان الأول خلقته غير مرتبطة بالزمان وأنه ظهر بشكل فجائي إلى الوجود ؟ !

4

خلق الإنسان والشجر والبحار والسماوات والأرض وتصريف الرياح والسحاب المسخر وإنزال الكتب ومعجزات الأنبياء والرسل, كلها آيات من إبداع رب العالمين, وورد مصطلح آية ومشتقاتها في القرآن الكريم 86 مرة ويمكن تصنيفها الى نوعين من الآيات :

آيات مادية كونية: كخلق السموات والأرض وتصريف الرياح والسحاب المسخر وخلق الإنسان ..

على سبيل المثال:

1- { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا } الاسراء-12

2- { وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } يوسف-106

3- { يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِيذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} النحل-12

4- { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } البقرة-191

5- { وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ } يس-37

آيات فوق مادية: كمعجزات الأنبياء والرسل

على سبيل المثال:

1- { قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ } المائدة-114

2- { قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } الأعراف-108

3- { وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } الاعراف-132

4- { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا } مريم-33

5- { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى } طه-22

6- { وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ } آل عمران-49.

وعند التأمل في بنيوية هاتين المجموعتين نجد أن الآيات المادية يأمر فيها الله تعالى بالتعقل والتفكر والتذكر فيها باستخدام العقل وبالتالي البرهان والمنطق ..

وهذه الآيات يقول عنها المولى عز وجل أنها آيات مفصلة, بمعنى واضحة وجلية, وبالتالي ليست مستعصية على الفهم والإدراك { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا } بدليل أن رب العزة يحثنا في كتابه العظيم على استخدام العقل والتفكر في طريقة خلقها وإبداعها وصنعها { يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } و { سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } و { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ }... وإذا كان المولى عز وجل يأمر عباده بالتفكر والتعقل والتذكر في كيفية خلق السموات والأرض ( الكون بصفحة عامة) هذا يعني إذا أنها آيات مفصلات وغير مستعصية على الإدراك والفهم من قبل العقل البشري, لأنها وببساطة من مواد مادية معروفة يستطيع عقله الإحاطة ببعض حيثياتها, عكس الماهية الفوق المادية كالروح مثلا يقول تعالى { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا } الاسراء-85بمعنى أن عقل الإنسان لن يستطيع الإحاطة بماهيات غير مادية, وبالتالي الخوض في مثل هذه الأمور مضيعة لوقته وجهده, ويعتبر دليلا على ضعف علمه  وانحصاره في عالم المادة فقط.. { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } الروم-7

قس على ذلك الآيات المتعلقة بمعجزات الأنبياء والرسل التي لا يأتي فيها الحث على استخدام العقل ,مما يعني أنها أمور لا سبيل لإدراكها عن طريقه .. وبالتالي تلك المعجزات خرق لنواميس وقوانين ونظم عالم المادة وحيثياته التي من بينها الزمان, التي لم يعتدها الناس { وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْآَيَةٍلِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } الاعراف-132.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو الى أي الآيات يندرج تحتها خلق الإنسان من طين, هل يندرج تحت الآيات الفوق مادية الخارقة لنواميس وقوانين عالم الخلق ؟ أم تحت الآيات المادية الكونية التي يأمر فيها رب العزة تبارك وتعالى بإستخدام العقل ؟

يقول تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ } الأنعام-2ونحن بينا أعلاه أن خلق السموات والأرض والظلمات والنور يندرج تحت الآيات المادية التي يحث فيها على استخدام العقل, وكما نلاحظ في هذه الآية خلق الإنسان من طين يندرج تحت هذا النوع من الآيات..

وبالتالي نظريا خلق الإنسان من طين آية عقلانية غير خارقة لقوانين عالم المادة ويبقى الإستدلال بالمنطق القرآني.

المادة المشتركة بين معجزة خلق الإنسان  ومعجزة النفخ لعيسى عليه السلام في هيئة الطائر هي الطين, وما علينا الا المقارنة بين هاتين الطريقتين في الخلق بالنسبة لمعجزة النفخ لعيسى, ومعجزة خلق الإنسان, لنرى الفرق بينهما..

يقول المولى عز وجل: { وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَـأَنْفُخُ فِـيهِ فَـيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ } ال عمران-49وفي موضع آخر يقول تعالى: { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَـتَنْفُخُ فِـيهَا فَـتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي } المائدة-110

فكما يتضح جليا من الآية فبمجرد ما نفخ عيسى عليه السلام في هيئة الطائر الطينية تحولت مباشرة بإدن الله تعالى إلى طائر حي في اللازمان, كما يبين ذلك توالي فاءات التعقيب التي تفيد السرعة والمباشرة في الآيات المرتبطة بالمعجزات { فَـأَنْفُخُ فِـيهِ فَـيَكُونُ طَيْرًا } و { فَـتَنْفُخُ فِـيهَا فَـتَكُونُ طَيْرًا }, فهذا ماتفرضه المعجزة, فكي تتحول مادة لا حية (طين) الى كائن حي فيه روح يلزم الأمر معجزة خارقة لنظم المادة التي من بينها الزمان..

لنستعرض بعض معجزات الأنبياء الخارقة لقوانين المادة التي من بينها الزمانو لتأكيد الأمر جيدا وعلى سبيل المثال معجزة العصى لموسى, يقول تعالى:

{ وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَـقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَـانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } البقرة-60

فبمجرد ما لمست عصى موسى الحجر, انفجرت هذه الأخيرة باثنا عشر عينا في اللازمان, وفاء الاستئنافية تبين سرعة استجابة لمعجزة موسى ( فَـقُلْنَا ... فَـانْفَجَرَتْ ... ) وفي آية أخرى { أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَـانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا } الأعراف-160.

مثال آخر يقول تعالى: { فَـأَلْقَى عَصَاهُ فَـإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَـإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } الأعراف-108

فبمجرد ما ألقى سيدنا موسى عصاه تحولت في الحين وبدون زمان الى ثعبان مبين, وعندما نزع يده من جيبه, مباشرة تحولت الى بيضاء للناظرين .. وكل هذه المعجزات خرق للقوانين المادية التي من بينها الزمان التي تبينها فاء الاستئنافية.. (فَـأَلْقَى ... فَـإِذَا هِيَ... ).

ونفس المعجزة في سورة أخرى يقول ربنا تبارك وتعالى: { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَـإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } الأعراف-117.

ونفس المسألة نراها عندما هرب موسى وتبعه فرعون وجنوده في اليم , فمباشرة عندما لامست عصا موسى البحر, انفلق في اللازمان لأن جنود فرعون كانوا خلفه مباشرة و استجابة لوحي الله تعالى في تحقيق للمعجزة الخارقة كما تبينه الآية بفاء التعقيب : { فَـأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَـانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } الشعراء-63

ونفس الأمر نراه في هذه الآية الكريمة:  { وَأَلْقِ عَصَاكَ فـَـلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ } النمل-10

فمباشرة عندما لمست عصى موسى الأرض, شرعت في الاهتزاز, كما تبينه فاء التعقيب في الآية الكريمة..

ومسألة استجابة الله تعالى للمعجزة بفاء التعقيب تشمل جميع الآيات الفوق مادية ( المعجزات ) وبدون استثناء وهذه المسألة أيضا نستشفها في الطريقة التي خلق بها عيسى عليه السلام يقول الله تعالى:

{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَـاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَـأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَـتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا(21) فَـحَمَلَتْهُ فَـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَـأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَـنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَـكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَـإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَـقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَـلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَـأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَـأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا } مريم-29

تحليل:

فبمجرد ما اتخدت مريم العذراء عليها السلام للمكان الشرقي مكان لها, أرسل الله تعالى اليها روحا (جبريل) مباشرة تحولت ماهية جبريل عليه السلام الى هيئة بشري وهنا حدوث معجزة التحول لجبريل كما تبينه الآية  بفاء التعقيب { فَـاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَـأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَـتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } وعندما تحولت هيئة حبريل الى بشري دار حوار بينه وبين مريم عليه السلام { قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } وهنا كما تلاحظ عزيزي القارئ لم تحدث أي معجزة خارقة أثناء الحوار, لانه تم بين بشرية (مريم) وبشري (جبريل بعد التحويل)  مما يفسر عدم ورود لفاء التعقيب في المحادثة الدائرة بينهم وبعد انتهاء الحوار وبعد حدوث معجزة النفخ حدتث معجزة أخرى المرتبطة بخلقة عيسى عليه السلام بدون أب, مما يفسر ورود فاء التعقيب كلما تحدتث الآية عنه عليه السلام { فَـحَمَلَتْهُ فَـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَـأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَـنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَـكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَـإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَـقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَـلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَـأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَـأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا } مريم-29

العلاقة بين فاء التعقيب { ف }و { ثم }:

يقول ربنا جلت قدرته في سورة البقرة :

{ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَـأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } البقرة-259

تحليل:

فبمجرد ما مر هذا المتشكك من قدرة الله تعالى على البعث على القرية الخاوية وبمجرد ما دار في ذهنه هذا التشكيك, مباشرة أماته الله تعالى ثم بعته, ليريه قدرته على فعل ما يشاء, وبين موته وبعثه زمن كبير تمثل في مائة عام, وهذه المدة الكبيرة بين الموت والبعث, اختصرها الله تعالى في كلمة ' ثم ' { فَـأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ }, ومنه نستنتج من هذه الآية أن كلمة ' ثم ' تستعمل في الزمان الكبير أي انها تفيد التراخي في الزمان وفاء 'ف' كما بينا تفيد السرعة واللازمان في الاستجابة لأمر الله تعالى...

وهذا الأمر نراه أيضا حتى في بعض المعجزات الكونية كمعجزة الانفجار الكبير يقول ربنا سبحانه وتعالى: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَـــفَتَقْنَاهُمَا } الأنبياء-30فبين الرتق والفتق أنفجار كبير والآية بفاء التعقيب تبين السرعة الهائلة التي حدث بها هذا الفتق ( الانفجار).. وأيضا نراه في بعض المراحل القصيرة لتكون الجنين داخل الرحم.

والآن ما علينا الا أن نرى هل خلقت الإنسان من طين تطلبت مدة زمنية كبيرة في الاستجابة لدعوة الخلق, أم خُلقَ الإنسان من كتلة طين مباشرة في اللازمان ؟؟

قلنا أعلاه نظريا خلقت الإنسان من طين تندرج تحت الآيات المادية, والدليل المنطقي من القرآن الكريم هو:

{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } السجدة-8

فزمن خلق الإنسان من طين وتناسله فيما بينه زمن كبير جدا والدليل ورود كلمة { ثُمَّ } التي تفيد التراخي في الزمان بين المادة الأولية (طين) وبين تناسله كبشر ..

وقوله تعالى أيضا في سورة أخرى:

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } المؤمنون-14

ونفس المسألة في قوله تعالى:

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } االانعام-3

ونفس المسألة في قوله تعالى:

{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } السجدة-9

فقبل أن يتناسل البشر بينهم, هناك زمان كبير جدا, بين الماهية الطينية (المادة الأولية) وبين وجوده كبشر.. وهذا الزمان إختصره المولى عز وجل بكلمة  { ثُمَّ } التي تفيد سيلان الزمان ببطئ.

استنتاج عام:

ومنه بينا إلى حد الآن أن خلقت الإنسان من طين لا تندرج تحت الآيات الفوق مادية التي يكون فيها الزمان غائبا, وماذهب اليه البعض أن الله خلق الإنسان من كتلة طين ونفخ فيها وبدأ مباشرة بمواكبة أمور حياته من تناسل وإعمار للأرض فكرة مغلوطة قرآنيا وعلميا ومنطقيا وعقلانيا , وبالتالي نكون قد أجبنا على أحد الأسئلة المطروحة والتي هي هل الانسان ظهر الى الوجود بشكل فجائي وبدون مقدمات فالجواب هو :  لا !!

الا أننا بإجابتنا على هذا السؤال المطروح يتبادر سؤال آخر إلى الآفاق وهو ماذا يقصد رب العزة تبارك وتعالى بكلمة خلق ؟؟ هل الخلق من طين يشمل الأعضاء البشرية السمع البصر اليدين الرجلين .. أم أن كلمة خلق لها ارتباطاتها الخاصة ؟

وما علينا الا تجميع جميع الآيات التي تتحدث عن خلق الإنسان في القرآن الكريم وننظر إليها بعيون محايدة ..

يقول ربنا سبحانه وتعالى:

  • { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ } الانعام-2
  • { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } الأعراف-12
  • { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } الأعراف-189
  • { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ } الحجر-27
  • { قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ } الحجر-33
  • { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } النحل-4
  • { إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } الاسراء-61
  • { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا } الكهف-37
  • { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } الحج-5
  • { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } المؤمنون-14
  • { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } النور-45
  • { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } الفرقان-54
  • { وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } الروم-20
  • { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ } السجدة-7
  • { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا } فاطر-11
  • { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ } يس-77
  • { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ } الصفات-11
  • { قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } ص-76
  • { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } الزمر-6
  • { الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } غافر-67
  • { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى } النجم-46
  • { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ } الرحمن-15
  • { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } القيامة-40
  • { إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا } الانسان-2
  • { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } المرسلات-22
  • { مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } عبس-20
  • { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } الطارق-8
  • { لَقَدْ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَالْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ } العلق-2

تحليل:

الملاحظة الأولى على الآيات هي أن كلمة خلق ترتبط دائما بالمادة الأولية للمخلوق ك : تراب طين ماءنفسنارصلصال - مضغة علقة نطفة ...

بينما حين يتحدث المولى عز وجل على إنسان كامل (بأعضائه الحسية ) لا يستعمل أبدا كلمة خلق والدليل:

{ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا }. لم يقل تبارك وتعالى ( أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم خلقك رجلا ) !!فكلمة خلق ترتبط فقط مع المادة البدئية للمخلوق وبما أن الإنسان (رجل) يشمل الصورة التي تكونها أعضاءه الحسية ( الرجلين, القدمين, الرأس ...) فاستعمل ربنا تبارك وتعالى كلمة سواك , دليل آخر: يقول تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ }

فالله تعالى يستعمل كلمة خلق كلما تعلق الأمر بالمادة الأولية تراب – نطفة – علقة – مضغة – وبعد انتهاء تشكل الجنين بأعضاءه الحسية ختم الله تعالى أطواره ب { نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا } ولم يقل نخلقكم طفلا, مما يدل مرة أخرى على أن كلمة خلق ترتبط بالمادة الأولية للمخلوق ولا ترتبط بآلية أعضاءه الحسية ..

مثال آخر: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } فكلمة خلق تظهر كلما ارتبط الأمر بالمادة الأولية, وعند تشكل الإنسان بأعضاءه الحسية استعمل الله تعالى كلمة انشاء { أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ } ولم يقل ( خلقناه خلقا  آخر ) لأنه تحددت معالم الطفل بأعضاءه الحسية ..

مثال آخر : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا }

فالله قال فجعله نسبا وصهرا ولم يقل خلقه نسبا وصهرا الآن الإنسان أصبح كامل بأعضاءه الحسية والحركية وأصبح صالحا للتناسل لمواكبة حياته ..

والامثلة كثيرة جداا.. وسنختم بهذا المثال الواضح جدا يقول تعالى: { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } المؤمنون-78فعندما تعلق الأمر بالأعضاء الحسية البشرية كالسمع والبصر والافئدة استعمل الله تعالى كلمة إنشاء { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ } ولم يقل تعالى هو الذي خلق لكم السمع والأبصار ..

ومن أجل هذا كله نستنتج أن خلق الإنسان من طين لا يعني خلقه بأعضاءه الحسية, الرأس, اليدين , الرجلين, العيون والافئدة ... وكما بينا أن كلمة خلق ترتبط فقط بالمادة الأولية ( المادة الخام ) ولا تشمل آلية الأعضاء الحسية البشرية ( الرجلين ,القدمين , اللسان..) ومنه الفكرة التي تقول أن الله خلق هيئة الإنسان من طين, ونفخ فيها وأصبح إنسانا يتمشى على قدميه فكرة مغلوطة تماما ..

إلى الآن رئينا أن الإنسان لم يخلق فجأة و بدون زمان, و رئينا أن خلق الإنسان من طين أو تراب أو ماء لا يعني خَلقُهُ بآلية أعضاءه الحسية, وهذا كله يعني أن مادة الطين بصفة عامة ما هي الا اللبنة الأولى والبدئية للخلق, وهذا ما تؤكده هذه الآية الكريمة: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ }السجدة-7.

والآية التالية: { وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا } نوح-17توضح أن الإنسان في  خلقه هي عبارة عن عملية إنبات من الأرض وليست عملية إخراج من الأرض, فالانبات مرتبط بالزمان كإنبات النبات والشجر ...والامثلة من القرآن كثيرة { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } البقرة-261و { يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } النحل-11و { فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } الحج-5

فالزرع والزيتون والأعناب لنموها تحتاج إلى زمان بدء من البدرة وإنتهاء بالثمرة, وبين البدرة والثمرة زمان.

 بينما عملية الإخراج لا تحتاج الى زمان كإخراج الموتى في يوم البعث, لذلك نجد كلمة إخراج تصف دائما حالة الإنسان في البعث الذي يكون فيه الزمان غائبا, وعلى سبيل المثال: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } طه-55و { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى } طه-22و { وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا } مريم-66والأمثلة كثيرة جدا.

هذا كله يعني أن خلق الإنسان مر عبر عدة أطوار { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا } نوح-14و مراحل زمنية كبيرة جدا (شأن هذا الكون) ويمكن تقسيم أطوار خلق الإنسان الى أربعة مراحل زمنية كما تبينه الآية التالية: { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } الانفطار-8

فالإنسان بصفة عامة مر بمرحلة الخلق ثم التسوية ثم التعديل ثم التصوير ثم التركيب, فمرحلة الخلق (المرحلة الأولى) ضمت المادة الأولى في الوجود ( قبل وجود أبسط اشكال الحياة ) فالمادة المهيمنة على الأرض هي التراب ثم الماء والتي تشكلت واعطت الطين, لدى يمكن أن نقول ان الانسان خلق من تراب وخلق أيضا من ماء وخلق أيضا من طين كما تبينه الآيات التالية: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ } الحج-5و { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا } الفرقان-54و { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَمِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ } المؤمنون-12بإعتبار كل من الماء والتراب والطين مواد أولية مرتبطة بكلمة خلق الشيء الذي يجعلها (كلمة خلق) تأتي دائما في بداية أطوار الإنسان وعلى مساحة النص القرآني بالكامل, و على سبيل المثال:

  • { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } الأعراف-11: فمرحلة الخلق تسبق مرحلة التصوير.
  • { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } الأعلى-8: مرحلة الخلق تسبق مرحلة  التسوية ومرحلة التعديل تسبق مرحلة التصوير والتركيب.
  • { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } الفرقان-33: مرحلة الخلق تسبق مرحلة التسوية.
  • { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } الحجر- 27: مرحلة الخلق تسبق مرحلة التسوية.
  • { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا } الكهف-37: مرحلة الخلق تسبق مرحلة التسوية.
  • { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ } السجدة-9: مرحلة الخلق تسبق مرحلة التسوية.
  • { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } ص-72: مرحلة الخلق تسبق مرحلة التسوية.
  • { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } القيامة-39: مرحلة الخلق تسبق مرحلة التسوية.
  • { الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } الأعلى-3: مرحلة الخلق تسبق مرحلة التسوية.

إستنتاجات التي توصلنا إليها حتى الآن :

1 – الانسان لم يظهر الى الوجود بشكل فجائي كما بينا .

2 – الانسان لم يخلق مباشرة من طين لأن كلمة ' خلق ' لا ترتبط بآلية أعضاءه الحسية ..

3 – مرحلة الخلق هي المرحلة البدئية لوجود الانسان والتي تسبق مرحلة التسوية والتعديل والتصوير..

وعند اسقاط النتيجة 1 و 2 و 3 على بعضها نستنتج أن الإنسان خلق فعلا من طين, لكنه لم يصور من طين بإعتبار أن كلمة خلق ترتبط بالمادة الأولية, وكلمة التسوية والانشاء والتصوير, ترتبط بآلية أعضاءه الحسية, وبالتالي حسب المصطلح القرآني لكلمة خلق, يمكن أن نقول أن السيارة خلقت من تراب وصنعت من حديد بإعتبار أن مادة التراب هي المادة الأم للحديد, ( المادة البدئية في الوجود ) , والحديد هي المادة التي صنعت منها آلية الأجزاء المكونة لها ( الاطارات – الابواب ...).

لذلك نجد أن التحدي لله للإنسان يكون بالخلق وليس بالصنع او التسوية والتعديل, { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } فاطر-40فالإنسان غير قابل لخلق أي شيء وإنما مهيئ للصنع والتسوية والتعديل عن طريق ماعلمه الله تعالى وذلك بمايدركه بحواسه المادية بدء بخلق هيئة الطائر من طين وإنتهاء بخلق الطائرة , فلولا وجود الطائر ماخلق الإنسان الطائرة وماكانت له أصلا فكرة الطيران .. وكل ذلك الذي سيتوصل الإنسان الى صنعه فهو يتم بإدن الله تعالى

وأيضا عندما يقول تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } يونس-3وفي آية أخرى { وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ } الحج-47بمعنى أن الله تعالى خلق السموات والأرض في 6000 سنة من حسابنا, وحسب تعريف كلمة خلق حسب المصطلح القرآني والتي وجدنا أنها تتعلق بالمادة الأم أو الأصل هذا يعني أن الله تعالى في 6000 سنة خلق المادة البدئية للكون أما التعديل والبناء وتسوية وتصوير هذا الكون (السموات والأرض) أخد مليارات من السنوات أي مر عبر مراحل زمنية هو الآخر كما تبينه هذه الآية الكريمة { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } النازعات-32

هل الإنسان يا ترى وحده من خلق من مواد الأرض ؟

يقول تعالى { وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ  يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } النور-45ويقول الله تعالى في سورة الفرقان الآية 54 { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } وهذا يعني أن الإنسان يشترك مع الدواب في ماهية الخلق الأولى, والدابة في القرآن الكريم تعني حتى أبسط الكائنات الحية بما فيها الطفيليات المجهرية التي لا ترى بالعين, يقول تعالى: { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } سبأ-14فالدابة التي كانت تأكل منسأة سليمان عليه السلام لا شك أنها كانت من الطفيلات المجهرية التي تعيش على الخشب والتي تسببت في تآكله... وهذا يدل على أن جميع الكائنات التي تدب فيها الحياة مهما اختلف حجمها وشكلها فهي تشترك مع الإنسان في نفس المادة الأم, الشيء الذي يفسر إشتراكهم في العديد من الخصائص والمميزات في البنية وحتى في الهدف من الوجود يقول تعالى { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } الأنعام-38.

فالتراب والماء يحتوي على العديد من المعادن والمكونات التي نجدها تشترك مع باقي الأحياء بمافيها الانسان على سبيل المثال:
الإنسان يشترك في تركيبه مع مكونات الأرض حوالي ( 21) عصراً، تتوزع بشكل رئيسي على:
1
ـ أكسجين(O) ـ هيدروجين( H) على شكل ماء بنسبة 65% ـ 70% من وزن الجسم
2 ـ كربون(C) ، وهيدروجين( H) وأكسجين(O) وتشكل أساس المركبات العضوية من سكريات ودسم ،و بروتينات وفيتامينات، وهرمونات أو خمائر.
3
ـ مواد جافة يمكن تقسيمها إلى:
آ ـ ست مواد هي : الكلور  (CL)، الكبريت(S) ، الفسفور  (P)، والمنغزيوم (MG)  والبوتاسيوم(K) ، والصوديوم  (Na)، وهي تشكل 60 ـ 80 % من المواد الجافة.
ب . ست مواد بنسبة أقل هي : الحديد  (Fe)، والنحاس(Cu) واليود(I) والمنغنزيوم(MN) والكوبالت  ( Co)، والتوتياء( Zn) والمولبيديوم(Mo ) .
جـ ـ ستة عناصر بشكل زهيد هي : الفلور( F)، والألمنيوم(AL)، والبور(B)، والسيلينيوم( Se)، الكادميوم( Cd) والكروم( Cr) .
أولاً: تتركب أساساً من الماء، و بنسبة عالية، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يستمر حياً أكثر من أربعة أيام بدون ماء، رغم ما يمتلكه من إمكانيات التأقلم مع الجفاف، و ينطبق ذلك على جميع الكائنات
الحية فتبارك الله إذ يقول {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} الأنبياء-30
ثانياً : كل هذه العناصر موجودة في تراب الأرض، ولا يشترط أن تكون كل مكونات التراب داخلة في
تركيب جسم الإنسان، فهناك أكثر من مئة عنصر في الأرض بينما لم يكتشف سوى (22) عنصراً في
تركيب جسم الإنسان, فما بالنا بالكائنات الأخرى ...

هناك من يقول أن القرد والانسان لهما نفس الأصل المشترك , فما قولكم في ذلك ؟

حسب هذا البحث القرآني الذي برهنا فيه على أن الانسان لم يظهر الى الوجود بشكل فجائي, وأيضا خلقه من طين لا يعني خلقه بأعضاءه الحسية, وأن خلقته أو انباته إحتاج الى زمان, واشتراكه مع باقي الموجودات في الماهية الأولى, أضن أننا سنقول بعبارة صريحة أن القرد والانسان والطائر وأبسط الدواب على الأرض تشترك في نفس الأصل الذيهو مكون الأرض, الا اننا يجب مراعات المدلول اللغوي في القرآن الكريم لكلمة خلق التي تتعلق بالمرحلة الأولى والبدئية للمخلوق .

وكل ماجاء في هدا البحث المتواضع تلخصه هذه الوثيقة التالية:

 

إنتهى

إبراهيم ايت ابورك

adamoon@live.fr

اجمالي القراءات 56190