كتاب (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ).
الباب الأول : (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الاطار النظرى )
الفصل الأول : ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر اسلاميا وقرآنيا )
أولا : الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى لمحة قرآنية عامة
مقدمة
1 ـ ارتبط ( الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) فى أذهان المسلمين باستطالة بعض القائمين بهذه الوظيفة على الناس ، وتدخلهم فى حرية الناس الدينية والشخصية فى تناقض مع دين الله جل وعلا . وليس هذا هو التناقض الوحيد ،بل هناك تناقض آخر مضحك ، فأحيانا يطلقون على هذه الوظيفة ( حسبة ) يقوم بها ( محتسب )، وحينا يقال عنهم ( مطوعة ) من التطوّع ، مع إنها ليست من التطوع والاحتساب فى شىء ، لأنها وظيفة سلطوية بأجر فى النظم التى تطبقها . بل تنفرد هذه الوظيفة بأنها تشمل سلطة الشرطة فى التحرى والاعتقال ، وسلطة القاضى فى إصدار العقوبة ، وسلطة الجلّاد فى تنفيذ الحكم . وكان تلك سلطة (المحتسب) فى العصر المملوكى ، وأعادها الوهابيون السعوديون فى عصرنا .
2 ـ وعجيب أن يتم هذا باسم الاسلام وهو دين الحرية المطلقة فى الدين عقيدة وعبادة ودعوة . ولكن من بدّلوا دين الله إستغلوا لفظ ( الأمر ) وأخذوه على أنه سلطة أمر ونهى واستعلاء واستطالة على الناس . ونسوا أن ( الأمر ) الالهى نوعان : أمر الاهى حتمى لا مردّ له ، وهو الأمر بالخلق ، لإنه إذا أراد الله جل وعلا شيئا قال له كن فيكون ، وهذا لا شأن لنا به ،بل هو يسرى علينا فى الحتميات من ميلاد وموت ورزق ومصائب . ثم هناك أمر الاهى بالتشريع ، وليس فيه إلزام الاهى للبشر ، بل هو إختبار لهم ، إن أطاعوه والتزموا به دخلوا الجنة وإن عصوه وأنكروه دخلوا النار . ويدخل ضمن الأوامر التشريعية كل العقائد والعبادات والحلال والحرام فى الاسلام ، كما يدخل فيها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى يتناوله ويتداوله الناس فيما بينهم .
ونعطى لمحة سريعة عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى الاسلام ، ثم نتوقف مع بعض الملامح بالتفصيل .
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى لمحة قرآنية عامة
1 :كونه من أسس دين الله جل وعلا قبل نزول القرآن : فالمؤمنون من أهل الكتاب جاء فى وصفهم : (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ )( آل عمران 114 ). والعصاة من أهل الكتاب هم من فرّط فى تحقيق هذه الفضيلة بسبب فساد قياداتهم الدينية : (وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )(المائدة 62:63 ).
2 ـ وقبل نزول القرآن تحدث رب العزة لموسى عن الرسالة الخاتمة ورسولها وأتباعه فقال:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ ..) ( الاعراف 157 )
3 ـ وقصّ رب العزة مصير الذين اعتدوا فى السبت ، وكيف نجا الذين نهوا عن المنكر فقط بينما عوقب العصاة والساكتون عن وعظهم : ( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًاشَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ) ( الاعراف 163 : 165 ). ولقد حذّر رب العزة الصحابة فى بداية إقامتهم فى المدينة من هذا المصير من السلبية وترك فضيلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فقال لهم : (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) ( الأنفال 25 ).
4 ـ وأكّد رب العزة صفات المفلحين المؤمنين المبشرين بالجنة:( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )( التوبة 112 )، أى من صفاتهم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ضمن فضائل أخرى . ولهذا فليست الأفضلية للمؤمنين مطلقة ، بل هى مرتبطة بفضيلة الايمان والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) ( آل عمران 110 ).
5 ـ تحديد المعروف يأتى مرتبطا بالعدل والاحسان وإقامة الصلاة ، كما يأتى المنكر مرتبطا بالبغى والظلم والفحشاء ووحى الشيطان ، على النحو الآتى :
5/ 1 : يقول جل وعلا فى إيجاز (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل 90 ) . فالأمر بالمعروف يعنى المتعارف عليه من العدل والاحسان ، والمنكر المنهى عنههو المتعارف على إنكاره مثل البغى والظلم والفواحش .
والعدل هو المعاملة بالمثل : (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) ، أما الاحسان فهو فوق العدل ، أى الصفح والغفران والعطاء : ( فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ) َ، والله جل وعلا يأمر بالعدل والاحسان :(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) ( الشورى 40 )
5/ 2 :المعروف مرتبط بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة :(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ ) ( لقمان 17 ). وإقامة الصلاة لا يعنى مجرد تأدية الصلوات الخمس بالمحافظة عليها بالتقوى ، بل الخشوع أثناء الصلاة والمحافظة عليها بين أوقات تأديتها بالابتعاد عن المعاصى والتمسك بحسن الخلق ،ولهذا فليس كل المؤمنين مفلحين ، فالمفلحون من المؤمنين هم من جاء وصفهم بالمحافظة على الصلاة والخشوع فيها فى قوله جل وعلا : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )(المؤمنون 1 ـ 11 ) . وكما إن إقامة الصلاة تجعل المؤمن ملتزما بالمعروف ، فهى أيضا تنهاه عن المنكر:( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ) ( العنكبوت 45 ). وكذلك إيتاء الزكاة ، فليست مجرد إعطاء الصدقة ولكن تزكية النفس ورقيها بالقيم العليا والأخلاق الحميدة .
5 / 3 : المنكر يأتى مرتبطا بالشيطان ، ووحيه وأحاديثه ، ومن يتبعها فهو متبع للفحشاء والمنكر ، مدمنا للظلم والفسادوالاستبداد والاستعباد و البغى والعدوان ، يقول جل وعلا يعظ المؤمنين حتى يتزكّوا بالقيم الاسلامية العليا من العدل والاحسان والعطاء : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) ( النور 21 ). لذا كان قوم لوط من ضحايا الشيطان حين أدمنوا الشذوذ الجنسى ، فقال لهم لوط عليه السلام : ( أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ( العنكبوت 29 ).
6 ـ تطبيق فضيلة الأمر بالمعروف له ضوابطه كالآتى :
6/ 1 : التمكين والسيطرة حتى لا يقع المؤمنون دعاة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ضحية الاضطهاد : (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) ( الحج 41 ).
6 / 2 : عدم الاكراه فى الدين ، فلا يعنى التمكين الارغام والفرض والاكراه فى الدين ، بمعنى إن الذى يصمم على المنكر نتركه ولا نرغمه لأن لله جل وعلا عاقبة الأمور ، واليه جلّ وعلا مرجعنا يوم القيامة ـ فعلينا التمسك بالهداية والانتظار الى أن يحكم علينا جميعا ربنا يوم القيامة فيخبرنا بمن هو على الصواب ومن هو على الضلال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( المائدة 105 ).
هذا لا يعنى إنه إزالة للمنكر باليد بل هو مجرد نصح بالقول فقط ، فاذا اصر الشخص علي رأيه فهذا شأنه طالما ان الضرر لا يمتد الي الغير ، فان امتد ضرره الي الغير اصبح جانيا مستحقا للعقوبة المناسبة لذلك الجرم ، وخرج الامر من دائرة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الي دائرة العقوبات المستحقة علي جريمة ارتكبها مجرم ،والعقوبات المنصوص عليها في الاسلام تخص السرقة ،وقطع الطريق ،والقتل ،والزنا ،وسب النساء العفيفات .
6/ 3 : والسّنة القرآنية التى طبّقها خاتم النبيين تؤكّد هذا .
قال له ربه عن اصحابه المؤمنين ( وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) ، أي كن لينا مع اصحابك وهينا ، أو كما قال له جل وعلا فيما بعد فى المدينة وهو قائد لها : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر ) ( آل عمران 159 ) فماذا يحدث اذا عصاه اتباعه المؤمنون ؟.هل يضربهم ؟هل يحكم بكفرهم ؟ نقول الاية التالية (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ )( الشعراء 215:216 ). أي فان عصوه فليس عليه إلا ان يتبرأمن عملهم المنكر. لم يقل فان عصوك وفعلوا منكرا فعاقبهم وقم بتغيير المنكر بيدك أو بعصاك الكهربائية . بل حتي لم يقل له فان عصوك فتبرأمنهم ، ولكن تبرأ فقط من عملهم المنكر ،وليس منهم ،أى فالتطبيق للامر بالمعروف والنهي عن المنكر هو بالنصيحة القولية فان لم تنفع فالاعراض عن العاصي المؤمن والتبرؤمن عمله فقط ، وليس منه شخصيا .
6 / 4 : إن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس وظيفة رسمية او شعبية لطائفة معينة تحتكر لنفسها دون الاخرين رسميا او شعبيا الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولكن المجتمع كله يتواصى بالحق ويتواصى بالحق وبالصبر طبقا لما جاء في سورة العصر التي تصف في ايجاز ملامح المجتمع المسلم (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) . ولذلك فان الله تعالي يهيب بالامة المسلمة كلها ان تأخذ نفسها بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول تعالي (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (آل عمران 104).
والخطاب السابق لهذه الاية والخطاب التالي بعدها جاء عاما للأمة كلها وليس قصرا علي طائفة من الامة دون الاخرين. ولنقرأ السياق الذى جاءت فيه تلك الآية الكريمة لنتأكّد من عمومية الأمر لكل أفراد المجتمع : يقول جل وعلا يخاطب عموم المؤمنين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .
6/ 5 :والآية الأخيرة هنا تشير الى بنى إسرائيل في بعض عصورهم حين كانوا أمة لا تنهي عن المنكر وتستحق اللعنة علي لسان داود وعيسي ابن مريم : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوايَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ )(المائدة 78 :79 ) لذا جاء وعظ المؤمنين فى القرآن بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يشير الى تجربة أهل الكتاب الذين تنكب بعضهم فى تطبيق هذه الفضيلة ، يقول جل وعلا : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ).
واذا كان بنو ادم خطائين كلهم ،وخير الخطائين التوابون فليس منتظرا ان يحترف بعضهم النصيحة للباقين ويستنكف ان ينصحه احد ،والا كان ممن ينطبق عليه قوله تعالي لبنى اسرائيل :( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )( البقرة 44). وقالها جل وعلا أيضا للمؤمنين يحذرهم من الاكتفاء بالقول دون عمل للصالحات : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) ( الصّف 2 : 3)
7 ـ ثم هو فى الاسلام أمر قولي ونهى قولى باللسان فقط ،فاذا اصر الشخص علي رأيه فهذا شأنه طالما ان الضرر لا يمتد الي الغير ،فان امتد ضرره الي الغير اصبح جانيا مستحقا للعقوبة المناسبة لذلك الجرم وخرج الامر من دائرة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الي دائرة العقوبات المستحقة علي جريمة ارتكبها مجرم ، والعقوبات المنصوص عليها في الاسلام تخص السرقة ،وقطع الطريق ،والقتل ،والزنا ، وسب النساء العفيفات . وقد حدث تحوير واضافة الي هذه العقوبات عندما تدخلت السياسة وقام علي اساسها انواع مختلفة من التدين تحولت الى أديان أرضية بالتزوير والتلفيق والكذب على رب العزّة جل وعلا. ونفس الحال حدث مع قضية الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد كان امرا ونهيا باللسان ثم اعراض عمن لم يلتزم تطبيقا لقوله تعالي (يا ايها الذين آمنوا عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم ،الي الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون :المائدة 105)ثم تحول الى سلطة تتسلط على الناس وتتدخل فى حرياتهم ، بل وتقيم ثورات باسم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ،وتحول الي دين بشري توضع له الاحاديث والفتاوي .
ونعيش هذه البلوى الآن.
لذا ندخل فى تفصيلات أكثر عن الموضوع.