تابع إعجاز إختيار اللفظ القرآنى 3
النفس فى القرآن الكريم " الجزء الثانى "
"إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ "
خلافا للعلوم المادية التى لا جدال فى قواعدها بين العلماء، فإن علم النفس من العلوم الإنسانية التى يختلف فى تحليل ظواهرها ومسبباتها علماء النفس، وإن كانت آلياتها قد بدأت تدخل فى حقل العلوم المادية. وعندما تختلف الآراء، ما على الباحث العاقل إلا اللجوء إلى كلمة الفصل فى صحة كل العلوم، سواء كانت مادية أو إنسانية، القرآن الكريم، ففيه يجد أعمق وأبلغ وأصح تحليل للنفس الإنسانية فى تركيبها الطبيعى وما فطرت عليه والسباب التى تسفيها، والظواهر الطبيعية والمَرَضِّية التى تنتابها والسبل الموصلة لما تنشده من سعادة، وأخيرا الدواء الشافى لما تعانيه من أمراض.
*ما يسمى بالعقد النفسية...
منذ أواسط القرن العشرين كشف العلم ولا يزال أن فى الدماغ مراكز تتحكم بمختلف إنفعالات وتصرفات الإنسان الشعورية والسلوكية، كمراكز الخوف والذعر والغضب والطمأنينة واللذة وغيرها، وكلها تحكم آليات ما يسمى بغرائز حفظ الذات، كالخوف من الموت ومسبباته والهرب من الألم والسعى وراء اللذة والراحة الجسدية والمحافظة على النوع من خلال الحاجة الجنسية وحب التملك وغيرها من حاجات حياتية رئيسية.
هذه المراكز الدماغية التى تحكم التصرف الإنسانى البيولوجى وتؤمَّن بقاءه والمحافظة على نوعه، هى ضرورة وضعها المولى فى كل مخلوق حى، إلا أنها فى الإنسان، وهو المُخير ، قد تجمع به إلى أن يصبح عبدا لها وأسيرا لمتطلباتها فتصبح عُقدا نفسية بالمعنى المرضى إذا لم يُسَيِّرْها الدماغ المفكر فى اإنسان (النفس) ويسيطر عليها حسب أوامر من هو أعلم العالمين به الخالق عز وعلا مصداقا لقوله تعالى:
" إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ " 19-70:22
ومن هنا يتضح أن ما يسمونه بالعقد النفسية، ما هو إلا نتيجة "جنوح" غرائز حفظ الذات الطبيعية بالإنسان جنوحا مرضيا إذا تخلى عن فهم تعاليم السماء التى تنظمها وتجعلها سوية، كما نظمتها وجعلتها سوية عند الحيوان فتتحول حينئذ غريزة المحافظة على الحياة إلى عقد الموت وعقدة حب الخلود، وما يتقنع ورائها ويتحول التفتيش عن اللذة والهروب من الألم إلى عقد الحرص والعقد الجنسية، ويتحول شعور الإنسان الطبيعى بضعفه إلى عقد النقص والحرمان والتعالى والكبرياءوعقدة العجل والتسرع.
وأرجح أن نسمى هذه العقد النفسية التى تنغص على الإنسان حياته وتمنعه من تحقيق سعادته ب " العقبات النفسية ". وقد أشارت إليها بصورة جامعة الآيات الكريمات التالية: سورة البلد من الاية 11 إلى الاية 18
" فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ"
فإذا أراد الإنسان أن يكون من اصحاب "الميمنة" فعليه "إقتحام" عقبات نفسه، وجهاد النفس وهو من أكبر وأصعب أنواع الجهاد، وهذا الإقتحام لعقبات النفس وعقدها يكون بمجاهدة التملك والحرص والبخل بأن يفك الرِّقاب المُعوزة، ولإقتحام عقبة الموت، وحب الخلود يكون بالإيمان بالبعث واليوم الآخر. وإقتحام عقد اللهفة والحُرقة فى الطلب يكون بالصبر. ومحو عقد النقص والحرمان يكون بالرحمة والتواصى بها.
*وقفة تحليلية نفسية مع سورة الضحى...
ألم يجنب المولى رسوله الكريم -عليه السلام- عقدة الموت بقوله تعالى: " وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَىٰ ". وجنبه عقدة الحرمان العاطفى الناشئ عن اليتم بأن آواه فقيض له جده ثم عمه أبا طالب الذى أعطاه الأمان والسند العاطفى والمادى ضد اذى المشركين " أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ ". إلى أن قضت الحكمة الإلهية بإغنائه عن هذا العون الأرضى فى قوله: " وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ".
ألم يجنب المولى رسوله الكريم -عليه السلام- عقدة النقص المتأتية من الجهل، فعلمه الحكمة، وأنزل عليه القرآن الكريم " وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ " وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ". ثم ألم يجنبه أيضا عقد النقص والشح المتأنية من الفقر بأن أغناه ومنع عنه العوز المادى فزوجه بالسيدة خديجة وقد كانت غنية: " وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ ".
وكذلك يجب أن نفعل مع أنفسنا وأولادنا والغير، إن أردنا أن نجنب النفس الإنسانية عقد النقص والحرمان المادى والعاطفى وما ينتج عنها من عقد النقص أو التعويض كعقد إيذاء الذات والغير، وعقد التعالى والكبرياء،وعقد الشح والبخل، يقول تعالى:
" فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ "
*عقدة الموت...
إن فكرة الموت هى فى ضمير وشعور وتفكير كل منا سواء كان ذلك بصورة واعية أو غير واعية. هى كذلك منذ الولادة وحتى الموت. ولقد اشارت الآية الكريمة إلى عقدة الموت عند الإنسان :
" وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ " 50:19
فكل مخلوق حى، بفعل آليات تكوينه، أو بما يسمونه بغرائز حفظ الذات والدفاع عن الحياة، يحيد من الموت ويكرهه بل ويفر منه: " قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ....... " 62:8
وما لم يجد الإنسان حلا منطقيا عقلانيا لفكرة الموت، فإنها ستتحول وتتجذر فى أعماق شعوره إلى عقدة مرضية هى من أهم وأصعب العقد النفسية المسيطرة على إنفعالاته وتصرفاته، والمصدر الأول لأكثر العوارض النفسية وفى طليعتها القلق والخوف المرضى.
*العقد المتفرعة من عقدة الموت:
1-عقدة قصر العمر: " وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ " 2:96
إن اصعب وأهم عقدة من العقد التى تتفرع من عقدة الموت الأم، هى عقدة قصر العمر، ولا يشفى هذه العقدة إلا الإعتقاد الإيمانى بأن العمر هو من قدر الله سبحانه، لا تبديل له، خلافا لبقية ما قدر المولى من أمور غيبية قد تطرأ على الإنسان وقد يبدل الله سبحانه فيها ويغير حسب ما يشاء وتبعا لإيمان المكلف وعمله:
" وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا .... " 3:145
أى كتابا مؤقتا فالعمر فى هذه الدنيا هو مدة زمنية محددة بتوقيت معين مكتوب هو الأجل ولا تبديل فيها. وكنتيجة لعقدة الخوف من قصر العمر نرى تهافت أكثر الناس على متاع الحياة الدنيا ومحاولة الغنى من أقصر طريق، والإرتماء فى أحضان الموبقات، وكل ما لا يرضى الله سبحانه وتعالى. ومن خلال عقدة قصر العمر يعتقد أكثر المرضى وبعض الأطباء أن الطب يستطيع أن يطيل أجل الإنسان. وكم أسمعها من بعض الأطباء أن هذا المريض أنقذناه من موت محتم وأعطيناه عمرا جديدا، وهذا مريض سيموت حتما خلال ساعات أو اشهر، ومن الفضل لراحة الإنسان أن يؤمن كل فرد ينشد الطمأنينة والسكينة بأن الله سبحانه وحده هو الذى " يُحْيِي وَيُمِيتُ " وأنه ".... وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" ، 35:11
وقوله تعالى:" وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ..... " 3:145
ولا يصل الإنسان إلى إيمان ويقين كهذا إلا بعد دراسة كل آية من آيات الله دراسة علمية منهجية من خلال تربية إسلامية تبدأ فى البيت وفى المدرسة وطيلة سني حياته.
ويقول سبحانه وتعالى:"..... فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ " 16:61
يجب أن يوقن الأطباء والمرضى أن الطب لا يشفى الإنسان من الموت، ولا يبدل فى الأجل المحتوم. فالطب هو لتحسين نوعية الحياة، وتخفيف الآلام، وشفاء العلل حتى إنقضاء العمر ومجيئ الأجل المحتوم الذى هو بعلم علام الغيوب فقط " فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " 83-56:87
يجب أن يعرف ويوقن الكل أن الموت مخلوق فى قدر الله سبحانه: " الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ " 67:2
ولنقرأ دعاء إبراهيم عليه السلام: " الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ " 78-26:81
لو دققنا التدبر فى هذه الايات، نجد حينما ذكر إبراهيم عليه السلام الهداية والطعام والمرض، جاء بكلمة هو للتأكيد ان الله سبحانه هو الذى يفعل ذلك وليس للبشر دخلا مباشرا لذلك، أما حين ذكر الموت والحياة لم يذكر كلمة هو لأن المفروض ان لا جدال فى ذلك.
ولو فهم أكثر الناس وإلتزموا بما أمر الله سبحانه وعقلوا معنى الحياة والموت وأيقنوا بالحياة بعد الموت لتخلصوا من أكثر مظاهر وأعراض أمراضهم النفسية والعضوية ولدخل شيئ من السكينة فى قلوبهم أمام كل خطر داهم يهدد حياتهم ووجودهم.
2- عقدة عذاب الموت: كثيرا من الناس يصرحون بأنهم لا يخافون الموت بحد ذاته، ولكن ما يرعبهم وينغص عليهم طمأنينة بالهم هو العذاب الذى يسبقه ويصاحبه قبل وحين حصوله، وهذا الخوف والرعب لا سبيل إلى تخفيفه والقضاء عليه إلا باليقين الإيمانى بعدالة ورحمة وغفران البارى لمن يشاء من خلقه. نعم هناك عذاب يصاحب الموت ويسبقه ولكن للظالمين والمجرمين من الناس: ".... وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ " 6:93
أما المؤمنون من عباده فلقد وعدهم بأن موتهم فإنه مختلف تماما عن موت الظالمين إذ لا عذاب بموته يقول سبحانه وتعالى: " أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ "45:21
ويقول أيضا: " فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ " 88-56:91
إن المؤمن الموقن بالله سبحانه والذى يجب أن يعرف ويدرس بل ويحفظ هذه الايات لا مجال لأن تتحكم به عقدة عذاب الموت التى لا تخفيف لها ولا شفاء منها إلا بالإيمان.
3- عقدة ما بعد الموت أو خوف القبر وما يمثله:
إن الخوف من الأماكن المقفلة التى لا يستطيع الإنسان السيطرة عليها والهروب منها كروكوب الطائرة والمصاعد والقطارات والغرف المقفلة ودخول الدهاليز المظلمة، هو فى جذوره خوف من الموت ومن القبر بالذات. هذا المكان الضيق الذى لا سبيل للخروج منه، وهذه الفكرة من أن كُلاَ منا سيدفن فى يوم من الأيام فى مكان ضيق مظلم لا سبيل للخروج منه، هى فكرة موجودة فى شعور كل إنسان عاقل منذ أن وعى معنى الموت، ويصاحبها شعوريا أو لا شعوريا كثيرامن التخيلات المزعجة خاصة فكرة عودة الحياة إلى الميت فى القبر. ويحاول كل منا أن يمحو هذه التخيلات والأفكار المزعجة بنسيانها ودفنها فى أعماق اللاشعور، إلا أنها عند البعض وتحت تأثير أحداث متصلة بالموت تعود إلى الظهور وتشكل أعراضا عصابية كظاهرة الخوف بدون سبب معقول إلى أن يتبلور ويتستر هذا الخوف تحت ساتر الخوف من الأماكل المقفلة، والذى هو فى الحقيقة محاولة يحاول فيها الإنسان التخلص من عقدة الموت وعقدة الخوف من القبر بالذات.
فكل الوسائل الذى إتبعوها للتحليل النفسى الطبى على طريقة فرويد أوغيره، فكل هذه الوسائل العلاجية هى وقتيه، إذ لا يشفى من عقدة خوف الموت وخوف القبر إلا الإيمان اليقينى بوجود حياة أفضل للمؤمن وأن الله سبحانه هو ولى المؤمنين فى حياتهم ومماتهم وما بعد مماتهم. وهو كما وعد لا يخلف وعده، وكيف لقلب مؤمن أن يخاف من الموت وعقده وقد عقل معنى الآيات الكريمات المتعلقة بمعانى الموت وماذا يحصل عند الموت وبعده: " إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ "30:41
إن المؤمن يبشر بالجنة عند موته بل ومنذ إحتضاره، فإذا هو مطمئن البال، يواجه أصعب الأمراض وقت موته بقلب مطمئن ووجه وإبتسامة مشرقة، فلقد بدأت الحجب تسقط أمام عينيه، وملائكة الرحمة وغيب ربه أصبح حقيقة يقينية أمام بصره وقت الإحتضار، وأصحاب اليمين من معارفه وأقربائه والملائكة يطمئنونه بحسن المآب.
4-عقدة الوسواس المرضى:
مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ *إِلَٰهِ النَّاسِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ مِنَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ " .
هذه العقدة هى من أكثر العقد شيوعا فهى تمثل الظاهرة المقنَّعة لعقدة خوف الموت، فما أكثر المرضى بهذه العقدة يطرقون عيادات الأطباء مرارا وتكرارا، ويصرون على دخول المستشفيات لعوارض بسيطة برأى أكثر الأطباء، أما فىجذورها فترجع فى أغلب الحالات إلى خوف المرض والموت المتستر وراءه.
فأكثر المرضى وخاصة العصابيين عندما يطرق أحدهم باب عيادة الطبيب يريد شعوريا أو لا شعوريا، أن يطمئن على ذاته من خطر الموت قبل أن يسأل عن العلاج. إنه الخوف من الموت والطبيب والمستشفى هما الشفاء من الموت بإعتقادهم والحقيقة أن الطب يخفف الألم ويشفى بعض العلل ولكن لم ولن يمنع الموت.
هؤلاء المرضى من هذه النوعية يسموا بالموسوسين. يطرقون أبواب الأطباء والمشعوذين متأبطين أكداسا من الصور الشعاعية والتحاليل المخبرية عارضين العشرات من الأدوية والوصفات الطبية والتقارير الإستشفائية مُعَذَّبين ومعذِّبين لأهلهم والمحيطين بهم، كلما إختفت أعراض مرضية وظيفية من عضو فى جسدهم ظهرت أعراض فى موضع آخر. هؤلاء الموسوسون هم فى الحقيقة يهربون من عقد خوف الموت المتأججة عندهم، ولا شفاء لهم برأيى إلا من خلال نفسية تحليلية مرتكزة ومستندة إلى معطيات الإيمان الصحيح.
5-عقدة عدم الإعتقاد بالموت أو عقدة حب الخلود:
إن عقدة حب الخلود وهى الوجه المقابل لعقدة خوف الموت، وهى من الطرق التى يحاول الإنسان غير المؤمن أن يسلكها للهروب من الموت محاولا بذلك شعوريا أو لا شعوريا تجنب وطمس كل شيئ يذكره بالموت فينعكس ذلك مرضيا على تصرفاته، فنراه يجمع الثروات ويكدس الأموال ويقترف المظالم ويتشبث يائسا بالدنيا وكأنه سيبقى فيها أبدا.
وعقدة حب الخلود هى النافذة التى من خلالها نفذ الشيطان إلى نفسية آدم وزوجه، فأغراهما بالمعصية وأطاعاه، رغم أن المولى أعطى آدم كل أسباب السعادة فى الجنة الأرضية التى كان فيها إلا الخلود:
" إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَىٰ * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ " 118-20:121
إن التخلص من عقدة حب الخلود لا يكون بالهروب من الموت كمن يهرب من ظله بل بالإعتقاد اليقينى بقوله:
" قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ .... " 20:8
فالموت بالنسبة للمؤمن هو نومة كبرى وإنتقال من حياة دنيا، هى حياة تكليف وإختبار وبلاء، إلى حياة فضلى خالدة. وما الدعاء الشائع اليوم: أطال الله عمرك، إلا إنعكاس دفاعى نفسى لتخفيف وقع الموت فى نفس الإنسان. أما المسلمون الذين عقلوا معنى الموت فكانت سُبَّة بالنسبة لبعضهم أن تنعت أحدهم بطويل الأمل فى الحياة.
ولا يستطيع الإنسان أن يمحو هذه التصورات المتجذرة فى أعماق شعوره عن الموت وعقده إلا من خلال التسليم اليقينى بالايات الكريمات المتعلقة بمعانى الموت وما يمثله، ولا يمكن للإنسان أن يسلم عقليا بهذه الآيات إلا إذا إقتنع عقله علميا بأن كل ما جاء فى القرآن الكريم هو كلام الخالق، ولا شيئ يستطيع أن يقنع عقل الإنسان بكلام الله سبحانه وخاصة إنسان اليوم، إلا العلم، وفى القرآن الكريم مئات الآيات العلمية التى سبقت العلم بقرون والتى جاء العلم يطأطئ الرأس أمامها ويسلم بأنها حقا من عند الله سبحانه.
لقد أعطى الإسلام بصورة علمية وواقعية عملية من خلال القرآن الكريم الحل العقلى المنطقى، لكل العقد النفسية وفى طليعتها عقدة الموت . ولن تقوم قائمة لهذه الأمة المسلمة، أمة المليار فرد من حملة الهوية الإسلامية وهى اليوم فى عداد الأمم المتأخرة، وقد تداعت عليها الأمم تداعى الأكلة إلى قصعتها إلا عندما ننشئ الإنسان المسلم من جديد، تنشئة إسلامية منهجية علمية صحيحة، فنمحو بذلك عقدة الموت، وبقية العقد منه ونسمو به إلى عقيدة حب الجهاد وهى النقيض لعقدة الموت، ولا يصل إلى هذه المرتبة إلا كل موقن بقوله تعالى:
" وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ " 3:169
وقوله فى سورة محمد : " ....وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ " 4-47:6
صدق الله العظيم...