الصمد

آحمد صبحي منصور في السبت ٢٥ - فبراير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :

1 ـ سورة:( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) فريدة فى نوعها ، يعرفها مئات الملايين من المسلمين ، ولكن قلّما أعطوها حقها من التدبر . ومع  إيجازها وقلة عدد كلماتها وحروفها فإن مجالات التدبر فيها لا حدود لها . ومنها أن السورة تجمع بين التفرّد فى صفات الخالق والتصالح مع اللسان الانساني العاجز عن التعبير عن هذا التفرد .   اللسان الانساني لدى أى قوم هو إنعكاس للادراك ، وهذا الإدراك يتكون ويتراكم من التعامل مع المدركات ، وتلك المدركات هى ما يدركها السمع والبصر واليد والحواس . والغيبيات لا تصل اليها مدركات الانسان ، ويتلقاها بالوحى الالهى الذى يأتى عن طريق الرسل ، ثم يتم تحريفه عن طريق شياطين الانس والجن فتتحول الحقائق الى خرافات. وتظل المشكلة ماثلة ، كيف يعبّر الوحى الالهى عن غيبيات لا يعرفها عقل الانسان ولا يلمسها ولا يرها ولا يسمعها. بل إن اللسان البشرى قاصر بألفاظه المحدودوة عن تحديد كل المعانى وكل الاحساسات التى يحس بها الانسان ويدركها . فالانسان يحسّ باللذة الجنسية ويحسّ بالألم ويحس بمتعة الطعام ، ولكن ادواته اللفظية قليلة فى التعبير الكامل عن هذه الاحساسات المدركة ، من هنا يأتى المجاز فى الكلام من تشبيه واستعارة وكناية . ولقد تميزاللسان العربي بفصاحته وقدرته على التأقلم بدليل أنه إستوعب معظم الثقافات للشعوب التى سيطر عليها العرب فى امبراطوريتهم فى العصور الوسطى ، وعبّر عنها علميا وفقهيا ودينيا وفلسفيا عن طريق توليد مصطلحات جديدة وتغيير مصطلحات قائمة واستحداث ألفاظ وأخيلة جديدة تعكس التطورات. نكتفى بهذا،  ونرجع للقرآن الكريم ومنهجه فى تقديم الغيبيات باللسان العربى الذى هو وسيلة الاتصال والتعبير والتفهيم للبشر .

2 ـ أول الغيبيات هى الذات الالهية ، الله جل وعلا . لا نراه ولن نراه ، ولكن نؤمن به ونعبده ونتعرف إجمالا عليه من خلال كونه الخالق جل وعلا . ولكن المعرفة الايمانية به على أنه المستحق وحده للتأليه والعبادة والتقديس وعلى أنه ليس كمثله شىء وعلى أنه الأحد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ؛ هذا التعريف يحتاج الى واسطة باللسان العربى ، توضح له المعنى الغيبى ببساطة وعلى قدر مدركاته وعلى قدر قلة ألفاظه . وهذا ما يتجلى فى سورة الاخلاص التى تتصالح مع لسان البشر العاجز عن تصور الله جل وعلا ، وذات الله جل وعلا التى لا تدركها عقول البشر ولا يستطيع اللسان التعبير عنها . ومن مظاهر هذا التصالح استعمال كلمة ( أحد ) بمعنيين متناقضين ، الأول هو خاص بالله جل وعلا يعبّر عن تفرده وأنه ليس كمثله شىء :( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، أى هو واحد فى صفاته وواحد فى ذاته ، وواحد فى واحد تساوى (أحد )،  ثم استعمال نفس الكلمة لتدل على المخلوق الذى هو عكس الخالق تماما (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ). ثم يأتى ما بينهما ليؤكد هذا التناقض بين الله الأحد وغيره من المخلوقات:(اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ). ما عدا الله جل وعلا فكل المخلوقات الحيّة تتكاثر وتتغذى ، أى تخضع للزوجية (ذكر وانثى ) وما ينتج عنها من كون كل مخلوق حى والدا ومولودا ، كما تخضع فى بقائها فترة الحياة الى تغذية تتناسب وطبيعة خلقها . يسرى هذا على الملائكة والجن والشياطين والبشروالحيوانات والطور والحشرات والفطريات والجراثيم والبكتريا . بإيجاز :تخضع لغريزتى الجنس والطعام . الوحيد الذى لا يحتاج الى الجنس والطعام هو الله جل وعلا . لذا جاء فى صفاته انه ( الصمد ) وأنه ( الذى لم يلد ولم يولد ) وبالتالى ليس له زوجة أى صاحبة ، يقول جل وعلا عن تفرّده عن الخلق:( بَدِيعُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ   ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(الأنعام 101 : 103) . وندخل بهذا على موضوعنا ، وهو مصطلح الصمد وموقعه فى السورة .

أولا : صلة ( الصمد بالله الأحد )

1 ـ يلفت النظر الى أن وصف (الصمد ) جاء تاليا لوصفه جل وعلا بالأحد (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ). وبالتالى فإن وصف الله بالأحد المتفرّد عن خلقه والذى ليس كمثله شىء يجب أن توجد ملامحه فى وصفه بالصمد ، بمعنى أن هذا الوصف لا يمكن أن يوصف به مخلوق ، أى هو وصف للخالق وحده ، لا يمكن إستعماله للبشر . وبالتالى فإن الصفات الأخرى التالية (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) تكون شرحا وتفصيلا لمعنى الصمد .

2 ـ وهنا نلاحظ أن كلمة ( الصمد ) لم تأت فى القرآن إلا مرة واحدة فى هذه السورة لتدل على تفرد الرحمن بهذا الوصف . كما أنّ مشتقات الكلمة ( صمد ) لم توجد قط فى القرآن ، فليس فى القرآن صامد وصمود وغيرها مع وجودها فى اللسان العربى. هذا ، مع أنّ معنى (صمد والصمود ) ورد فى القرآن الكريم بدون إستعمال للفظ الصمود ومشتقاته، فالصمود يعنى الصبر فى الأزمات وفى الحروب،وكلمة الصبرومشتقاتها من أكثر المفردات القرآنية شيوعا. والصمود عند الحرب ورد معناه دون لفظه فى القرآن الكريم مثل:( وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(البقرة 250 ) (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(آل عمران 146 : 147، 200 ). وجاء من ضمن صفات الأبرار المتقين:( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )(البقرة 177 ). أى لم تأت كلمة ( الصمد ) إلا مرة واحدة فى القرآن الكريم وصفا لله جل وعلا وحده..وبمعنى مختلف.

ثانيا : معنى الله الصمد

1ـ  المعنى مفهوم من خلال سياق السورة ، فالمخلوقات تحتاج الى الجنس والى الطعام ، والذى خلقها جعلها محتاجة اليه فى البقاء على قيد الحياة بالطعام ، ومحتاجة اليه فى غريزة التكاثر والتوالد ليبقى النوع ،إى أن الخالق أودع فى مخلوقاته هاتين الغريزتين المتحكمتين ، وجعل مفتاح الغريزتين  فى نطاق تحكمه وحده، فهم مفتقرون اليه . وفى نفس الوقت فهو جل وعلا لا يحتاج الى طعام ولا الى جنس وتكاثر ، أى ليس محتاجا الى غيره . ومن هنا يصمد الخلق له فى إحتياجاتهم بينما هو لا يحتاج اليهم . هذا معنى الصمد،أى الذى يحتاج اليه غيره ولا يحتاج هو الى غيره ، الذى يفتقر اليه الجميع وهو مستغن عن الجميع .

2 ـ الإحتياج الى الطعام جاء من صفات الرحمن الصمد فى معرض التناقض بينه وبين الأولياء المعبودة المقدسة : (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ )( الأنعام 14 )، فالله الصمد هو فاطر السماوات والأرض أى الذى خلقها من لاشىء، والذى خلقها بلا مثال سابق ، لذا فهو  جل وعلا يجب أن يكون وحده الولى المقصود بالتوسل وطلب المدد والعبادة والتقديس ، ليس فقط لأنه وحده فاطر السماوات والأرض، ولكن أيضا لأنه جل وعلا هو وحده الذى يطعم غيره ، ولا يطعمه غيره ، فتلك الأولياء فى حياتها كانت تحتاج الى الله جل وعلا فى إطعامها ، وسدنة قبورهم يحتاجون الى الله جل وعلا فى إطعامهم ، لذا يجب على المؤمن ان يكتفى بربه جل وعلا وليا حتى لا يكون من المشركين . هذا ما أمر الله جل وعلا رسوله أن يقوله : (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ )( الأنعام 14 ). والآن تجد مئات الملايين من المسلمين يقدسون ويتوسلون ويطلبون المدد من مئات الألوف من الأولياء المقدسين الأحياء ومئات الأولياء المقدسين المقبورين، ويعتبرون أنفسهم خير أمة أخرجت للناس ، وهم لا يؤمنون برب الناس وحده لا شريك له .

ومثلهم من يعبد المسيح وأمّه ، عليهما السلام . والله جل وعلا ردّ عليهم فقال : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ )( المائدة 75 ). الآيات المرادة هنا هو تفهيم من يعبد المسيح وأمّه الى أنهما بشر كانا يأكلان الطعام . وأكل الطعام دليل الاحتياج والافتقار الى الخالق ، ولا يمكن للمحتاج أن يكون الاها ، وحيث أن الله وحده هو الخالق وهو الذى يحتاج اليه الخلق فى إطعامهم إذن فلا اله إلا الله . ومن هنا يقول جل وعلا عن كل الأنبياء :( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ )( الأنبياء 8 )، أى هم كانوا أجسادا تتغذى وتحيا بالطعام ، ثم أدركهم الموت فلم يكونوا خالدين . وحين إستهزأ القرشيون بخاتم المرسلين:(وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ ) جاء الرّد من ربّالعزّة بأن كل المرسلين كانوا يأكلون الطعام ويمشون فى الأسواق :( وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ )( الفرقان 7 ، 20). ويقول ابراهيم عليه السلام :(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ) ( الشعراء 78 : 79).

الطعام ( والشراب ) من أبرز ما يؤكد حاجة الانسان لربه ، وهو من ( الحاجات ) الطبيعية الأولى للفرد كى يبقى حيا . والانسان يحتاج الى الله جل وعلا فى العثورعلى الطعام (الرزق ) ويحتاج الى الله جل وعلا فى أكل وهضم هذا الطعام ، ثم يحتاج الى الله جل وعلا فى التخلص من فضلات هذا الطعام . لا يعرف الانسان مدى إحتايجه الى ربه إلا عندما يجوع ويعطش فلا يجد طعاما ولا شرابا ، أو حينما يمرض ويعجز عن الأكل بالطريقة الطبيعية فيلجأون الى تغذيته بالمحاليل ، أو حينما يصيبه إمساك أو عجز عن التبول فتكون مصيبته هائلة ويصرخ باحتياجه الى الله الذى يطعمه ويسقيه . وقد ورد فى تاريخ هارون الرشيد أنه كان جالسا مع أبى معاوية الضرير ، وهو أحد القصّاص الوعّاظ ، فطلب هارون كوب ماء ليشرب . ولمّا أوشك على الشرب ، بادره أبومعاوية وأقسم عليه ألّا يشرب حتى يجيب على سؤال ، فتوقف الرشيد عن الشرب ، فقال له أبو معاوية ؟ لو منعوك من الشرب من هذا الماء فبكم تشتريه ؟ فقال الرشيد : أشتريه بنصف ملكى . فقال له أبو معاوية : إشرب هنيئا . ولما فرغ من الشرب قال له أبو معاوية : بالله عليك يأ أمير المؤمنين ، وقد شربت الماء ، فماذا لو لم تستطع أن يخرج منك ، بكم تفتديه ؟ فقال الرشيد : أفتديه بملكى كلّه .!! فقال الواعظ : إن ملكا لا يساوى شربة ماء حقيق ألا يتنافس عليه .!! . المشكلة أننا لا نعرف قيمة النّعمة إلا عندما نفقدها، ولا نستغيث بالله جل وعلا إلا عند المحنة، وأننا فى كل الأحوال لا نقدّر الله جل وعلا حق قدره.!!

ولنتخيل وليا معبودا أعطيناه جزءا من التقديس الواجب لله جل وعلا وحده ، لنتصور هذا المخلوق جائعا عطشانا يبكى مستغيثا بالله جل وعلا ؟ ولنتصوره وهو يتبرز او يتبول أو يصرخ وهو يعانى من الامساك او الاسهال أو يخرج منه الريح بصوت أو بدون صوت .. كل هذه ملامح بشرية لكل البشر من الأنبياء الى الصالحين الى الطغاة والأفّاقين. كل أصحاب القداسة المزعومة من البشر تزول عنهم تلك القداسة لو تخيلناهم فى أى مرحلة من مراحل الطعام ( البحث عن الطعام ـ تناول الطعام ـ و التخلص من فضلات الطعام ). كل ذلك دليل على حاجة المخلوقات لله جل وعلا ، لا فارق هنا بين دودة فى باطن الأرض تبحث عن طعامها وبين نبى مرسل يأكل الطعام ويشتريه من الأسواق.

3 ـ ولنتخيل أيضا صاحب قداسة يمارس الجنس مع إنثى ، أو صاحبة قداسة تمارس الجنس مع ذكر . نحن لا نتكلم هنا عن الحلال والحرام ، ولكن نتكلم عن الغريزة نفسها ، وفيها يتحول الانسان الذكر والأنثى الى حيوان ( فصيح ) يفقد عقله وهيبته بل ويستمتع بذلك ، فإذا كانت له قداسة مزعومة فلتذهب عندئذ الى الجحيم . لقد تزوج الأنبياء وأنجبوا،أى مارسوا الجنس بكل ما تعنيه الكلمة، ثم ترتب على هذا الجنس ذرية،والله جل وعلا يقول : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً )(الرعد 38). والله جل وعلا هو الذى يحكم فى نوعية الذرية من ذكور وإناث ، بل قد لا تكون هناك ذرية أصلا ، يقول جل وعلا :(لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)( الشورى 49 : 50 ). والبشر يصمدون لله جل وعلا يدعونه كى يمنّ عليهم بذرية،فهكذا دعا ربه زكريا:(ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً)( مريم 2 ـ )

4ـ المؤمن الحقيقى هو الذى يدعو الله جل وعلا متضرعا معلنا حاجته للصمد جل وعلا ، يدعوه خوفا من عذاب دنيوى أو عذاب أخروى ، ويدعوه رغبة وأملا وطمعا فى رحمته فى الدنيا والآخرة . والمؤمن يحتاج الى الله الصمد فى الدنيا والآخرة . والأنبياء ـ وهم صفوة الخلق كانوا يدعون الله رغبا ورهبا وخشوعا ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ )(الأنبياء 90 )،وبهذا أمرنا رب العالمين:( وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) (الاعراف 56 ) ، ويعمل بهذا المؤمنون فعلا ، فمن صفاتهم :(إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) (السجدة 15 :16 ). ولا يفعل هذا الصوفية الذين يعلنون أنهم يعبدون الله ليس خوفا من ناره وليس طمعا فى جنته ، ولكن بزعمهم يريدون التحقق بالحق ، أى الاتحاد بالله ليكنوا جزءا من الله. أى يريدون الألوهية ، وصدق الله العظيم : (وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ )(الزخرف 15).

ثالثا : صلة الصمد بالغنى والمستغنى :

1 ـ أشرنا الى عجز اللسان البشرى عن تخيّل رب العزة ، لذا إستعمل القرآن الكريم بعض أوصاف البشر لتقرب المعنى فى توصيف رب العزة ، مع وجود السياق الذى يوضح استعمال الكلمة ، ومع وجود القاعدة الأساس أو الآية المحكمة وهى أنه جل وعلا : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)(الشورى 11). وقلنا إن معنى الصمد هو الذى يستغنى عن غيره ولا يستغنى عنه غيره . وهنا تداخل بين الصمد وصفة الغنى والمستغنى التى تأتى وصفا للبشر وتأنى وصفا للخالق الصمد ، مع الإختلاف فى المعنى .

2 ـ جاء وصف البشر بالغنى فى قوله تعالى فى تشريع الوصىّ على مال اليتيم :( وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ )(النساء 6). الوصف بالغنى والفقر هما للوصى على مال اليتيم . وجاء وصف الأقارب بالغنى والفقر :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) ( النساء 135). وصف الغنى والفقر للبشر هو نتيجة للتفاوت فى الرزق الذى يتحكّم فيه رب العزّة : (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)( الرعد 26 )( وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ) ( النحل 71 ). كما أن لصفة الغنى والفقر فى نفسية البشر أبعادا أخرى لا تقتصر على وجود الثروة أو عدمها ، ونحن هنا نتحدث عن القناعة ، فهناك فقير فى ماله لكنه قانع راض لا يمتد بصره الى ما فى يد الغير. وهناك من هم على سنّة أبى لهب وحسنى مبارك وآل سعود ، مهما تضخمت ثرواتهم فهم لا يشبعون . هذا فى التعامل مع البشر فيما يخص صفة الغنى . ولكن فى كل الأحوال وفى تعامل البشر مع رب العزة فهم جميعا مفتقرون اليه ، وهو غنى عنهم : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ )(فاطر 15).

3 ـ وجاء وصف البشر بالاستغناء عن دعوة الحق ، فالبخيل لا يحب الاسلام لأنّ الاسلام هو دين العطاء والزكاة ، لذا يستغنى عن الاسلام ويكذّب بالقرآن (وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى )( الليل 8ـ ).وأحد أولئك المترفين الذين إستغنوا عن الاسلام حاول النبى دعوته للحق ، وأعرض النبى وعبس فى وجه فقير أعمى حتى لا يأنف المترف المستغنى من دين يدخله الفقراء والمستضعفون ، ونزل تأنيب النبى بسبب هذا الموقف: ( عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ) ( عبس ـ 5 ـ ). ولكن تظل الحقيقة باقية ، وهى أن الله جل وعلا هو الذى يجعل هذا فقيرا ويجعل ذاك غنيا :( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ) (النجم 48) ( وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى ) ( الضحى 8 ). ومن حمق الانسان الغنى أن يظنّ نفسه مستغنيا فيطغى  بثروته:(كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(العلق 6: 7). نوجز القول بأن الفقر والغنى للبشر حالات عرضية وقتية ، وهم فقراء لله جل وعلا المتحكّم فى الرزق.

4 ـ لذا فإن الغنى الحقيقى هو رب العزة وحده ، أو هو (الصمد).(يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) (فاطر 15 :17)(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً)(النساء  133 )، وهو الله الغنى عن الصدقة:(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) (البقرة 263)(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(البقرة 267)، وهو الغنى عن العبادة فى الحج (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ )(آل عمران 97)وعن جهاد المجاهدين: ( وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ) (العنكبوت 6 )، وهو الغنى عن إيمان الناس به:( وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِوَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً)(النساء 131)وعن شكرهم له:(وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ )(النمل 40 )، ولا يهتم إذا كفروا به :( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ )(الزمرِ 7)( ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(التغابن 6). هو جل وعلا يهتم بالناس لو إستغاثوا به ، عندها يعبأ بهم :( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ )(الفرقان 77). بل إنه جل وعلا مستغن عن تعذيبنا إذا آمنّا وشكرنا :( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً )  (النساء 147 )

5 ـ ان الله الصمد جل وعلا قد قرّر حرية كل فرد فى الايمان والكفر،ومسئولية الفرد على عمله ، فمن يجاهد إنما يجاهد لنفسه ( وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (العنكبوت 6 )،ومن يؤمن ويشكر فلنفسه( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ )(النمل 40)،ومن يحسن فقد أحسن لنفسه ومن إهتدى فلنفسه ومن ضلّ فقد ضلّ على نفسه :(إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا )( مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) (الاسراء 7 ،  15 ).

أخيرا :  ليس هناك اروع من الاسلام وليس هناك أسوأ من المسلمين الضالين .!! 

اجمالي القراءات 20100