حكومة الائتلاف الإخوانجية

كمال غبريال في الخميس ١٦ - فبراير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

الكثيرون ومن بينهم كاتب هذه السطور يتشككون في كل كلمة أو تصريح طيب يصدر عن جماعة الإخوان المسلمين، باعتباره تماشياً مع منهجهم في "التقية" أو "الإيهام في القول"، وهو المنهج الذي يحلل لهم ما نعرفه نحن العلمانيين بـ"الكذب"، وهو منهج متماسك متسق مع مجمل مواقفهم، حيث أن "الكذب" مباح في الحروب، وهم يعتبرون كل ما يقومون به حرباً في سبيل الله، حتى لو كان المجال هو العمل السياسي، وهكذا رأينا الاستفتاء على التعديلات الدستورية يتحول إلى "غزوة صناديق"، ورأينا أن اختيار مرشحين بعينهم لمجلس الشعب هو الطريق إلى الجنة، واختيار المنافسين لهم لابد وأن يكون بالتبعية الطريق إلى النار وبئس المصير!!
رغم هذا أثق وربما يوافقني كثيرون أن تصريحات الإخوان المتواترة عن رغبتهم في تشكيل حكومة ائتلافية وليس حكومة إخوانجية بحتة تعبر عن توجه ونية حقيقية للجماعة. . هدف الإخوان من ذلك واضح في جزء منه، فهم يدركون حجم الإشكاليات الحياتية المصرية المستعصية، ويدركون أن من سيتصدى لها سيضع نفسه في مرمى نيران جماهير قد اكتشفت وجربت طريق التعبير عن نفسها ومطالبها، وأنهم بإقدامهم على تولي المسئولية وحدهم سيكونون للمرة الأولى في تاريخهم في موضع المحاسبة والمساءلة، وليس في موقع المعارض أبداً، والذي يستطيع أن يتمطع وينتقد كما يشاء، فيما أياديهم في الماء البارد كما يقول المثل الشعبي المصري، فيفقدون في سنوات وربما شهور قليلة تلك الشعبية التي اكتسبوها على مدى عشرات السنين، نتيجة تحصنهم في موقع المعارضة.
أما الجزء الآخر من هدف الإخوان في الائتلاف مع الليبراليين والعلمانيين الذين يتهمونهم سراً وجهراً بالكفر والإلحاد، فربما لا يكون بذات وضوح الجزء الأول، ويتمثل في إدراكهم أن الكثير من مقولاتهم - التي يدعون أنها تستند لمرجعية دينية – لا تصلح للتطبيق العملي لا الآن ولا بعد حين، ويدركون أن محاولة تطبيقها - سواء في المجالات الداخلية من حيث التحكم في حريات الأفراد الشخصية، أو خارجياً في العلاقات مع سائر دول العالم، والتي تعد أهمها من بلاد النصارى أعداء الله – سوف تؤدي لكوارث لا قبل للإخوان ولا للشعب المصري باحتمالها، في حين أن التقاعس عن تطبيق هذه المبادئ والشعارات التي ظلوا طوال ثمانية عقود يطرقون بها جماجمنا سيضعهم في حرج بالغ، ليس أمام أنفسهم فقط ولكن أمام الشعب الذي ينتظر منهم تطبيق ما أفهموه وادعوا أنه "الحكم الإلهي"، فتحل البركات السمائية علينا دون أن نتكبد أي جهد أو عناء، ليكون المخرج الأمثل للإخوان من ورطتهم هذه هو التعلل بمشاركتهم مع سائر فرقاء الوطن، وأن هذا التلكؤ منهم في تطبيق ما وعدوا به ليس إخلالاً بتعهداتهم، أو نتيجة خلل اكتشفوه في صلب خطابهم ورؤيتهم، وإنما هو تفضل وديموقراطية منهم، وإيثار لتجميع المصريين في ائتلاف وطني على الانفراد بحكم هم جديرون به!!
كان هذا عن موقف الإخوان من الرغبة في تشكيل حكومة ائتلافية، فماذا عن موقف العلمانيين ليبراليين ويساريين وخلافه؟!!
لن نتطرق في هذه السطور لما نتوقعه من مواقف من يشلمهم تصنيف علمانيين، مما قد يستدرجنا إلى تقسيمهم إلى أصلاء ومصلحجية وما شابه من تصنيفات، لكننا سنبحث فيما يجب أن يفعلوا من وجهة نظر كاتب هذه السطور تحديداً، ودون ادعاء بأن هذه الرؤية لا يأتيها الباطل من أي من الاتجاهات الأربع، وذلك باستبعاد الطموح الشخصي للبعض في احتلال مناصب بأي ثمن وأية وضعية، واستبعاد سذاجة وحسن نية لدى البعض الآخر، بذات قدر استبعاد ما قد يتسم به البعض من تعصب أو تيبس مبدأي نظري علماني، قد يعوق الائتلاف حين يكون الائتلاف ضرورة وطنية.
المعروف سياسياً عن حكومات الائتلاف الوطني التي تتشكل في كثير من معاقل الديموقراطية أنها تحدث في حالة تشظي وتشتت الأصوات بين الأحزاب، فتتقارب أوزانها في البرلمان، بحيث لا يتمكن حزب واحد أو حزبين أو حتى ثلاثة أحزاب من تشكيل حكومة تستند لأغلبية الثلثين في البرلمان، وهي النسبة التي تتيح لها العمل بارتياح واستقرار، وأن تسن ما تريد سنه من القوانين.
إذا كان الهدف من الائتلاف هو تشكيل حكومة قوية قادرة على الإنجاز، فإن هناك شرطاً في تكوين هذا الائتلاف، يلزم لكي تكون هذه الحكومة قادرة بالفعل، وليست قادرة بالافتراض الناتج عن القدرة العددية للائتلاف المكون لها. . ذلك الشرط هو اتساق توجهات أفراد الحكومة أو مكوناتها، وتوافقهم على "الحد الأدني" لمناهج العمل الوطني وأهدافه، نقول "الحد الأدني" وليس "الأقصى" المفترض تواجده فقط بين منتسبي الحزب الواحد. . هذا "الحد الأدنى" هو ما يجعل إطارات سيارة الوزارة الأربعة موجهة وتدور في نفس الاتجاه، فإن لم يتوفر هذا الشرط لن تستطيع هذه السيارة الذهاب إلى أي مكان، وسوف تتمزق أشلاء وهي قابعة مكانها، ونضرب مثالاً حياً لذلك بالوزارة التي سبق أن شكلتها جماعة 14 آذار (ذات التوجهات الليبرالية الحداثية) في لبنان مع "حزب الله"، فكانت النتيجة هي الفشل المريع الذي رصدناه جميعاً، حتى جرت انتخابات ثانية، واستطاع "حزب الله" إقناع المزيد من الفرقاء بلعب دور "الإمعة" في وزارة يقودها "حزب مقدس" ينسب نفسه إلى الله عز وجل مباشرة، وليس إلى مجموعة من البشر هم المواطنين!!
هنا نأتي إلى سؤالين:
أولهما عن مبرر تشكيل حكومة إئتلافية يدخل فيها العلمانيون، رغم القدرة الكبيرة للأحزاب الدينية المتطابقة المرجعية على تشكيل حكومة متسقة ومتوافقه، حيث لا يعدو الخلاف بين هذه الأحزاب الهوامش، وإن كان الكثير من العلمانيين لا يرون خلافاً بينها على الإطلاق، غير هذا الذي يتبدى في تصريحات تتسم بالعنترية من هذا الطرف (السلفيين)، وتتسم بالتقية من طرف آخر (الإخوان)، أو تتسم بتناقض داخلي يصل إلى حد خداع الذات قبل خداعنا لدى طرف ثالث (حزب الوسط)!!
السؤال الثاني عن حقيقة العناصر الموضوعية - وليس مجرد دماثة الأخلاق التي يبديها البعض – التي يمكن أن تكون بين أحزاب علمانية مرجعيتها تحقيق المصلحة المادية الأرضية للناس عبر توظيف العلم، وتلك الأحزاب الدينية التي تبتغي مجازاة الناس بالجنة في الحياة الأخرى عبر الالتزام بالنصوص المقدسة، اللهم إلا إذا كانت هي تلك الهوامش التي سيتفضل الإخوان بالتنازل عنها، على ضوء وزنهم الكبير بالطبع داخل هذه الحكومة وبرلمانها، خاصة وأننا قد تعرفنا من أداء الإخوان - تاريخياً وحديثاً - على حجم كرمهم وتفضلهم بالتنازل على رؤاهم ومواقعهم للآخر!!
نأتي إلى الفوائد والمضار التي ستلحق بالوطن في حالة ائتلاف العلمانيين مع التيار الديني عموماً:
الفائدة الأولى هي تحسين أداء تلك الحكومة بعض الشيء، وإن لم يصل هذا التحسين إلى حد اعتبارها حكومة قوية قادرة بالفعل على الإنجاز، وذلك بسبب تصدعها الداخلي للاختلاف البين بين التوجهات. . الفائدة الثانية هي تبطيء سرعة التدهور الوطني المتمثل في الانزلاق نحو دولة دينية متخلفة، يكون الطريق مفتوحاً أمامها لتصبح على النموذج الإيراني وربما الأفغاني، ولا أكتم القارئ العزيز أن هذه الفائدة بالتحديد تتيح لجيلي الهروب من معايشة المصير الذي سيجد أولادنا وأحفادنا أنفسهم أسراه!!
المضار التي ستلحق بالوطن في حالة الائتلاف هي خلق حالة ضبابية لا تمكن الشعب من التعرف بوضوح على نتائج خياراته التي أعطى بموجبها هذه الأغلبية الكاسحة للتيارات الدينية، فالفشل المتوقع لهذه الحكومة سوف يضيع أبوه بين القبائل أو الأحزاب، وهذا سوف يديم حالة التوهان والحيرة لشعب تائه من الأساس، علاوة على أن الحكومة التي سيتم تشكيلها بهذا الائتلاف لن تفرق كثيراً عن حكومات عصر مبارك إلا في اتجاه الأسوأ، وبالتأكيد سوف تعجز عن تحقيق الكثير مما حققه الشعب المصري (ولا نقول مبارك) طوال الحقبة الماضية.
أراه ضرراً كبيراً يلحق بالشعب المصري على المدى الطويل، وإن كان أكثر رحمة به بالطبع على المدى القصير، أن نؤخر ساعة مواجهته للحقيقة. . ساعة اكتشاف أن الحداثة والحرية والعلمانية وحدها هي القادرة على انتشاله مما يعانيه من فقر وتخلف، لتضعه على بداية طريق الأمم الناهضة. . لقد كان عصر مبارك يضعنا أمام اختيار نظامه أو الفوضى على يد جماعة الإخوان المسلمين، ولقد أقدم شبابنا على إسقاط النظام، وأصبحنا وجهاً لوجه أمام الفزاعة وقد صارت كياناً حقيقياً غير مزعوم ولا محظور، وعلينا أن نتحلى بذات شجاعة شبابنا، ونقدم على خوض التجربة مع الأحزاب الدينية دون تلكؤ أو تردد. . فليحكموا وحدهم متحالفين مع أقرانهم، لنواجه معاً المصير الذي سيقودوننا إليه، فالمصري يقول "وجع ساعة ولا كل ساعة"، فهم إن حكموا وحدهم سنمر بفترات عصيبة هي "وجع ساعة"، أما الائتلاف معهم فسيكون هو "وجع كل ساعة"!!
هيا بنا يا سادة نركب عن طيب خاطر قاطرة تقودها الأحزاب الدينية، حتى ونحن نعلم يقيناً أنها ستقودنا إلى جحيم الاستبداد والتخلف، ومن سيمتد به العمر ليعود من هذه الرحلة سيعرف طريقه وطريق الأجيال القادمة نحو جنة الإنسانية!!

 

اجمالي القراءات 8863