[2/3]
التاريخ الإسلامي تنقصه الوثائق ، وفي حقيقة الأمر فإن الوثيقة أو [ الأثر الأركيولوجي ] أصلاً ليست تاريخاً ، لأنها مقتصرةٌ ومحصورةٌ على فهم و رغبة من صنعها ومن قدّمها للمؤرخ الذي يصنع التاريخ ، وعند الحديث عن التاريخ الإسلامي ومنهج كتابة الأحاديث [ بوصفها كتابةً و توثيقاً لتاريخ أقوال و أفعال الرسول ] أو تاريخ الوقائع الذي يبقى انتمائياً أولاً وأخيراً مقيّدٌ جداً بوجهة نظر المذهب أو الفرقة أو السلطة ، نكتشف أن المؤرخ يضطّر إلى خلق بدائل ونظائر لهذه الوثائق ، وأكثر هذه البدائل تناقضاً و منهج التأريخ تأتي [ الذاكرة ] ، أو [ التناقل الشفهي المتواتر للنصوص المحكيّة ] ، لكننّا نجد أن قسماً ضئيلاً جداً من هذا التأريخ يمتلك وثائق تحاول دعمه أو تضحد الشك في كل ما يحويه ، و من الوقائع التاريخيّة الضائعة و التي تضعنا أمام عددٍ من الأسئلة حول حقيقة [ التاريخ في القرآن ] و حقيقة [ الوثيقة في التأريخ ] ، وثائق [ البردي المصريّة ] التي لا تحوي أي إشارةٍ إلى قصّةٍ تردُ بتفاصيلها داخل النّص ، قصّة النبي موسى عليه صلاة الله و فرعون ، ابتداءً من الميعاد الذي حصل بينهما : ]فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَاناً سُوًى [طه 58 ، انتهاءً بفراره والمؤمنين عبر معجزة شق البحر : ]فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء 63 ، فالقرآن ليس وثيقةً تاريخيّة حتّى بالنسبة لمرحلة تنزيله [ القرن السابع الميلادي ] ، حيث لا يرد سوى إشارات قليلة وهامشيّة لهذه المرحلة داخل سياقه العام ، و هو الذي حاول الفقهاء نفيه بربط النّص بروايات تأريخيّة ألصقوها به وحاولوا سجن النّص القرآني المطلق داخل الظنّي المقيّد عبّرها أسموها [ أسباب النزول ] ، سبة الآيات التي لها أسباب نزول إعتباراً لمجموع آيات القرآن و عددها 6236 آية ، عند الطبري 9.04 % ، عند الطبرسي 6.95 % ، عند الرازي 7.21 % ، عند القرطبي 7.98 % ، عند الواحدي 10.08 % و عند السيوطي 13.74 % ، و مع حساب التناقضات في أسباب النزول نفسها في الأسباب [ و هذا عند الحديث عن فرقة واحدة و هي السنّة ] ، نجد أن التطابق نذر قليلٌ جداً ، و يتّضح أن أسباب النزول لا تؤثّر في فهم القرآن شيئاً ، وهذا ما حجّة تخدم في الاتجاه المضاد لفقهاء مذاهب السنّة من يتشبّثون بسند الروايات التاريخيّة التي تربط النّص القرآني بسياقات رواياتٍ تاريخيّةٍ مرتبطة بأسباب نزولها ، وذلك عند استخدامها داخل إطارٍ آخر و هو مسألة [ خلق القرآن ] ، حيث أن القول بأسباب النزول على قلّتها حقيقةً ، إثباتٍ لكون القرآن مرتبط بالحدث ليكون هو أيضاً [ محدثاً ] والمحدث [ مخلوق ] ، الرأي المعتزلي الذي يؤيده قوله تعالى : ]مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء 2 ، ]وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ [الشعراء 5 ، وعلى جانبٍ آخر فإنّ غياب الوثيقة لا يعني عدم وقوع الحدث ، لكن في نفس الوقت وجودها لا يعني حدوثه ، و[الشهادات ] ليست [ شواهد ] ، كما أن [ الإخبار ] ليس [ شهادة ] أيضاً ، الفرق شاسعٌ بين الاثنين ، والمنهج [ الإسلامي ] في تأريخ الأحداث ومحاولة نسخ و نقل الحالة التاريخية إلى نص وثيقةٍ تاريخيّة ، لا يمكن الوثوق به لأنه يعتمد على منهجيّة شهادات وفق مفاهيم مطاّطة ، مرنةٍ وانتمائيّة كالجرح و التعديل أو علم الرجال الطائفي على سبيل المثال ، فنقل الخبر مرتبط بناقله [ المخبر ] بالدرجة الأولى لا بصانعه [ الفاعل ] ، وهذا يسقط عن هذا المنهج كل منهجيتّه ، لأننا سنصل إلى حقيق أنه يوجد أكثر من تاريخ ، أكثر من سنّة ، بل وأكثر من محمّد عليه صلاة الله بل و أكثر من إسلام داخل فوضى التأريخ الإسلامي الذي قولبته الظروف والرغبات الى ما يشبه الخرافة والأسطورة أو إلى ما يشبه [ الميثيولوجيا ] من طرفٍِ واحدٍ ، وطوّعه الفقهاء وفق رغباتهم أو رغبات السلطة الحاكمة التي تسيّر عمليّة التنصيص عبر ملئ الفراغ الذي كان وجوده ضروريّاً داخل النّص القرآني ، لأجل عدم تقييده واستمرار فاعليّته عبر الزمان والمكان على اختلافهما ، طوّعه هؤلاء من أجل تقييد القرآن داخل تركة التاريخ المشكوك في صحّته ، فكان الفقه وكان وضع النصوص المنسوبة للرسول أو لأصحابه أو حتّى لأوائل التابعين و المتأخرين منهم ، تكتسب قداستهم و تنتحل شرعيّتهم ، رغم كون هذه النصوص لا تمت بصلة لا للرسول أو لأصحابه ، وليس أكثر غرابةً من مسألة وجود مذهبٍ يُنسب فيه كلُّ الآراء فيه إلى شخصٍّ لم يترك وراءه وثيقةً واحدةً توثّق رأيه الفقهي في أيّ مسألةٍ كانت ، وهو الإمام [ أبو حنيفة ] ، فالمذهب الحنفي لا ينتمي إلى أبي حنيفة بل ينتمي إلى [ تلامذته ] ومنهم [ محمد بن الحسن الشيباني ] ، والذين نقلوا عنه ما قالوا أنّه قد قال من رأيٍّ فقهيٍّ أو تأويلٍ أو تفسيرٍ للنّص ، فقوّلوه ما شاءوا من آراءٍ دونما تصريحٍ منه ، حيث يرد أن الرجل قد حرق كل كتبه قبل وفاته خوفاً من هذه الواقعة التي حدثت فعلاً ، والدليل بالإضافة إلى الوثيقة التاريخيّة التي تتحدّث عن واقعة حرق المؤلّفات التي كتبها ، عدم وجود كتابٍ واحدٍ يحمل اسمه خلاف وجود كتبٍ تحمل اسم مذهبه ، ليكون المذهب الحنفي مذهب كل الفقهاء [ عدى ] أبا حنيفة ، والأمر ينطبق أيضاً على الإمام أنس بن مالك صاحب الموطأ والمدوّنة المنسوبتان إليه ولم يكتب أيّا منهما ، كما أن القول بأنّه كان هنالك كتابات للصحابة تحوي أقوال الرسول تبقى مجرّد [ خبر ] لا دليل على صحّته مطلقاً ، ينتهي إلى كونه [ خرافة ] ، ومن ناحيةٍ أخرى فإنّ السيسيولوجيا [ التاريخ الاجتماعي ] على سبيل المثال ليست تاريخاً ، وليست ديناً أيضاً ، الأولى مقيّدةٌ بمكانها وزمانها ، خلاف الثانية ، الحياة الاجتماعيّة هي مجرّد مرحلةٍ ثقافيّةٍ لجماعةٍ بعينها ، اللباس ، العادات ، الأكل ، مراسم الدفن ... الخ ، وخلافها من الظواهر الاجتماعيّة التي دخلت عبر منهج [ الفقه ] لتصبح جزأ من [ الدين ] ، وهذا هو المشكل ، حيث وُضع [ التاريخ ] ، [ السيسيولوجيا ] ، [ اللاهوت ] ، [ الفقه ] و[ الدين ] في مستوى واحد ، وضمن منظومةٍ واحدةٍ و ألغيت كل الفوارق ، الظروف والاعتبارات المركزيّة والجوهريّة ، رغم المسافة الهائلة والبين الواضح بينها ، فكانت النتيجة [ تسطيح ] الدين والابتعاد عن لبّه ، لدرجة أصبح فيها دين الإنسان يعني كل شيء ويعتني بكل شيء ، ما عدا الإنسان نفسه .