الإسم المُرَكَّبْ " غَفُورٌ رَّحِيمٌ "
إعجاز إختيار اللفظ القرآنى 2

محمد صادق في السبت ٢٨ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

إعجاز إختيار اللفظ القرآنى 2

 

الإسم المُرَكَّبْ " غَفُورٌ رَّحِيمٌ "

 بسبب عَجْزْ المسلم عن تحديد مصادر إعجاز هذا النص القرآنى، إنتشرت الفوضى في تفسير سوره وتعدّدت الوجوه المختلفة والمتناقضة لآياته وظهر التناقض فيه مما حذا بالعلماء والمتكلمين إلى أن  يقوموا بمحاولات أخرى ووضع حلول جديدة كانت هي الأخرى مصدراً لعجز جديدٍ وتناقضٍ أعظمٍ ثمّ أن هؤلاء قد أكثروا من المجازات والكنايات والاستعارات وأعلنوا عن تعميمٍ شاملٍ للمرادفات يخرج عن القصد المحتمل في الألفاظ فأخذ كلّ قومٍ ما يلائم أهواءهم استنادا إلى فكرة المجاز والترادف .

ولقد كان هذا التعدّد في الدلالة هو السلاح الوحيد الذي تستفيد منه الجماعات المتناحرة والمذاهب المتضاربة ، فضلا عن الفلاسفة والمتكلّمين والمدارس اللغوية المختلفة . ولا يمكن إحصاء النتائج الوخيمة التي ظهرت من جراء ذلك. وإذا تأمّلت جيدا إدراج الحروب الدامية والصراعات السياسية والاجتماعية والفساد العام وسفك الدماء في سلسلة نتائج المجاز اللغوي الذي أدّى الى إنهيار فكري عام تبعه انهيار أخلاقي كان هو سبب هذه النتائج .

 

فإن هذه الفكرة كانت قد انبثقت من كهنة اليهود . ويستند هذا التحديد إلى نص يحمل دلالة واضحة على تأسيس المبدأ المجازى منذ ذلك العهد .

وفي النص ورد وصف لعمل هؤلاء الكهنة في التخريب اللغوي وبعبارتين مختلفتين:

الآية الأولى : " يحرِّفون الكلم عن مواضعه " سورة النساء الآية 46     

الآية الثانية : " يحرِّفون الكلم من بعد مواضعه "  سورة المائدة الآية41   

فالآية الأولى تعني تحويل اللفظ عن موضعه الأصلي بالتقدير ـ تقديماً أو تأخيراً مثلما هو جارٍ اليوم دوماً في النحو العربي والتفسير القرآني.

والآية الثانية تعني أن التحريف يتمُّ من بعد الموضع ـ فالموضع لا يُغيَّر وإنما يتم تحريف دلالة اللفظ عن طريق تعدّد الدلالات بالمرادفات والمجاز والاستعارة والكناية وأمثالها .

 

(مثال: أن كلمة مثل ( حصان ) تدل على هذا الحيوان المعروف في العربية ولكنها لا تدل عليه في الفرنسية ولا في أيّة لغة أخرى في العالم . فلو كانت في هذا اللفظ  ( حصان ) علاقة حقيقية بهذا الحيوان أو صفاته وخصائصه لكان نفس اللفظ سيطلق عليه عند جميع الأمم ، بل لو كان فيه تلك الدلالة لما تغر معناه في نفس اللغة العربية . إذ لو حرّكتَ الحرف الأول وحده بالفتح لأصبح المعنى ( صفة ) تطلق على المرأة المحصنة إما بالزواج أو بالإسلام.

ولو أخرجتَ حرف الألف، لأصبحت الكلمة ( حصن ) وهي تصلح كفعل مثلما تصلح اسماً لمبنى محصن ذي الأبراج.) "مقتبس "...

 

وإذا كان الامر كذلك وفي جميع المفردات لجميع اللغات فيبدو أنه من غير المعقول أن يعتقد المرء بوجود علاقةٍ ذاتيةٍ في الكلمة تدل على المعنى. وإنّما هو مجرّد إطلاق لفظ معين على شيء ما وبحسب التعود والتكرار يصبح ذلك اللفظ دالا على المعنى أو الشيء .

كذلك لا تبيّن لنا نظرية المجازفة أي سببٍ دعا الواضع الى استعمال هذا التسلسل ( ح ـ ص ـ ا ـ ن ) ولم يستعمل تسلسلاً آخراً للحروف مثل ( ن ـ ح ـ ا ـ ص ) ـ حيث لا معنى لها حالياً ـ  أو ( ن ـ ص ـ ا ـ ح )  حيث جُعل لها معنى آخر ذو علاقةٍ بالنصح والإرشاد ، وهل أطلق كلّ تسلسل على معنى أو شيء معين بغير قصدٍ ؟

 

 

(أن علماء اللغة يعتقدون ذلك فعلا ـ أي أنه لا قصد ولا معيار لهذا الإطلاق إلا الاستعمال والتكرار ـ إذ لا شيء يدعوهم الى الاعتقاد أن في هذه الحروف الثلاثة ( ص ح ن ) شيئاً ما يدل على الوعاء ، وأن في تغير الحروف عن مكانها ( ح ص ن ) ـ شيئاً ما يدلّ على البناء المحكم والمهيأ للدفاع. فهذا التغير في مواقع الحروف لا يسمح بالاعتقاد أنه قد حصل فيها تغير مماثل في المعنى بقدر الفرق بين الوعاء والبناء. وقد سكت غالبية الباحثين عن أمثال تلك التناقضات لأنهم سيُصدمون فوراً بمشكلةٍ أكبرٍ. لم يبق إذن أمام الخلف من العلماء إلاّ الشرح والتطوير والتوسع في الأفكار الموضوعة من قبل السلف.) " مقتبس "...

 

ونرى أنه في العربية قد هُجرت مجموعة أصوات كاملة فلم تعد تُستخدم  ( القاف ) في مصر وأطراف العراق و( الذال ) في مصر والشام و( الجيم ) في بعض المفردات في عامة المناطق . فتمّ تحويل القاف في مصر الى همزة ، وحُوّل الذال الى الزاء في مصر والشام ، والجيم في مصر . وهذا يعني أنه قد حصل تغيّر في اللسان نفسه .

 

فإذا كانت في الحروف دلالة ما تتجمّع فتعطي دلالة عامة للكلمة فكيف تبقى تلك الدلالة واضحة مع كلّ تلك التغيرات الجسيمة التي تصل الى حدّ تغيير الحرف واستبداله بآخر مع بقاء العناصر الأخرى للكلمة ؟ .

صحيح أن جميع الحروف البديلة ليست بعيدة جدا صوتيا ولكنها بعيدة جدا في الدلالة . ولم نأخذ اللغة العربية كمثالٍ بدافعٍ خاص ، بل لأنها أحسن مقياس لذلك ، لأن هذه التغيّرات قد حصلت في أمة هي أكثر أمم العالم تأليفاً وافتخارا بلغتها وأكثرها افتتانا بالشعر . وكذلك هي من أكثر الأمم حديثا عن اللغة بحكم الكتاب العظيم الذي أنزل بلغتها والذي افتتن به أقوام آخرون من أممٍ أخرى ، فدرسوا هذه اللغة لتلك الغاية وهم شعوب كاملة .

 

وأقول من البداية – والله أعلم – ، ان كل ما جاء فى المقدمة هو بعيد كل البعد عن النص القرآنى، وإنما يتمُّ تحريف دلالة اللفظ عن طريق تعدّد الدلالات بالمرادفات والمجاز والاستعارة والكناية ..... الخ .

ويجب على الأمة المسلمة الآتى:

1- أن قواعد اللغة العربية وقواميسها تؤخذ من القرآن الكريم حصرا.

2- وعلى المؤمنون بهذا الكتاب العظيم أن يتحلوا بألفاظه ومحاولة إستعمال هذه الألفاظ فى حياتهم اليومية حتى ترسخ فى الأذهان وتقوى اللغة عند الفرد ويسهل فهم النصوص القرآنية  على الوجه السليم.إن بنية القرآن الكريم تم ترتيبها من حيث الكلمات والحروف بدقة متناهية لا يمكن تعديل أو تبديل كلمة مكان الأخرى ولا يوجد أى إضافة حرف على أى كلمة إلا ولها مدلول لا تؤدى المعنى المقصود إلا بها فإذا زيد على الكلمة حرف معين فله دلالة معينة لا يحل مكانه أى كلمة أو حرف آخر. يقول الله سبحانه وتعالى: " الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ"11:1  

لمحة عن الفواصل القرآنية...

فى معظم الأحيان، يستخدم القرآن الكريم الأسماء المركبة كفواصل قرآنية حتى يتبين للمتدبر فى كتاب الله ان الموضوع الذى تتكلم عنه هذه المجموعة من الايات قد إنتهى وينتقل السياق إلى موضوع آخر. فمعرفة هذه الفواصل دلالة مهمة لفهم النص القرآنى بدون الإلتباس على المتدبر أين بداية المقطع وأين نهايته. ولا يراد بالفاصلة القرآنية مراعاة الحروف وإنما يراد المعنى ويلتقي الحرف بالتشابه اللفظى مع المعنى. وأحياناً لا يراعي القرآن الكريم الفاصلة بل قد تأتي مغايرة عن غيرها وهذا دليل على أن المقصود بالدرجة الأولى هو المعنى. وأن أسماء الله الحسنى المركبة هى إحدى أنواع الفواصل القرآنية المستخدمة فى القرآن الكريم.

 

وعلى سبيل المثال لا الحصر:

 

في سورة طه مثلا: تأتي الآية (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ "78 مغايرة للفاصلة القرآنية في باقي آيات السورة (تزكى، يخشى، هدى) لأن المقصود الأول هو المعنى.

 

وكذلك في سورة الأنبياء الآية " قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ "66 مغايرة لباقي آيات السورة (يشهدون، ينطقون، تعقلون) وليس لها ارتباط بما قبلها وبعدها.

 

في أول سورة الأحزاب " وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً( 3 ) مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ(  4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً" جاءت كلمة السبيل في آخر الآية 4 بينما جاء ما قبلها وبعدها بالألف.

 

 وفي أواخر سورة الأحزاب " يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا* وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا"،  جاءت كلمة السبيلا بالألف، والكلام في هذه الآيات عن هؤلاء في النار ويمدون أصواتهم في النار والرسولا بالألف هو نداء الإستغاثة من العذاب،  أما في أول السورة فليس هناك عذاب فجاءت على حالها (السبيل) وليست السبيلا، تصور الحالة الطبيعية من صراخ وعويل فجاءت الألف تعبيراً عن حالهم وهم يصطرخون في النار في كلمة (الرسولا) في أواخر السورة.

 

والآن نبدأ بالحديث عن أسماء الله الحسنى المركبة...

من أسمائه سبحانه وتعالى المركبة (العزيز الحكيم ) أو (غفور رحيم) أو (قوياً عزيزاً) ...الخ وقد وجد أن عددها في القرآن الكريم (92 ) وتكرارها موجود في (367 ) آية وكأنها بعدد أيام العام. والله أعلم...

 

وقد إخترت إسم مركب من أسماء الله الحسنى خلال أل 92 إسم مركب فى القرآن الكريم ألا وهو " غفور رحيم " ومشتقاته مثل غفورا رحيما و الغفور الرحيم.

 هذا الجدول يبين عدد مرات ذكر الإسم المركب ومشتقاته فى القرآن العظيم:

 

الإسم                التكرار                            

 

غفور رحيم

49

غفوراً رحيماً

15

الغفور الرحيم

7

الرحيم الغفور

1

 

 

من هذا الجدول نجد أن غفور رحيم ومشتقاتها ذكرت 72 مرة فى القرآن الكريم، فيظهر لنا ان الله سبحانه قدم الغفران على الرحمة 71 مرة ، والرحمة تقدمت على الغفران، فى آية واحدة.

 

نبدأ أولا بإستعراض بعض الآيات التى ذكر فيها الإسم المركب " غَفُورٌ رَّحِيمٌ " ونحاول ان نجرى عملية تدبر على كل هذه الآيات الكريمات:

1- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ "  البقرة218

2- ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " البقرة199

3- قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 39:53

4- فَكُلُواْمِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " الأنفال69

5-إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِفَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " البقرة173

6-فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " المائدة39

7- فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " البقرة192

8-قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " آل عمران31

9- إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ " آل عمران 89

10- فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " المائدة39 

 

أكتفى بهذا القدر بعشر آيات كريمات وعلى من يريد التأكد فى باقى الآيات التى ذكر فيها " غفور رحيم " ومشتقاتها فعليه أن يبحث فى باقى الآيات والتى كما قلت سابقا أن هذا الإسم المركب ذكر 71 مرة وإنتهت جميعها بدون إشتثناء ب " غفور رحيم " . وقد لونت المكلفين بأوامر الله سبحانه وملزمين بإتباعها باللون الأحمر ووضعت خط تحت نهاية كل آبة.

 

إلى هنا نستنتج أن الله سبحانه وتعالى فى 71 مرة من المجموع الكلى 72 ذكر فيها المكلَّفين أولا ثم أنهى الآيات بالغفران مقدما على الرحمة .

 

والآن دعنا نلقى نظرة على الاية الوحيدة المتبقية من العدد الكلى وهو 72 ، وهى الآية الثانية والثالثة من سورة سبأ يقول سبحانه وتعالى:

يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوالَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ "  سبأ3,2

فلماذا فى هذه الاية الوحيدة قدم سبحانه الرحمة على الغفران  وأخر ذكر المكلَّفين إلى ما بعد الفاصلة " الرحيم الغفور"؟

لفتة سريعة فى الآيتين الثانية والثالثة من سورة سبأ، لو دققنا فى كل كلمة فيهما، نجد ان الله سبحانه يشير إلى عمارة الأرض بالعلم الذى وهبه الله للبشرية رحمة منه.

فلنقرأ بعض آيات الذكر الحكيم، يقول سبحانه فى غير موضع: 

" ........... هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ "11:61

" ....... ... وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (7:85

" وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (7:10

 

العلاقة بين العلم والرحمة...

أن الرحمة معنًى عظيم في الحياة، فالله عز وجل بَنَى الكون كله على الرحمة، كما أنزل الشريعة كلها على الرحمة، بل إنه من العجب أن أكثر كلمة يرددها المسلم بعد الشهادة هي كلمة: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، مشيرًا إلى أنه في هذه الكلمة التي افتتح الله بها كتابه العظيم تكرر ذكر الرحمة مرتين صفةً لله تعالى، حيث جاءت المرة الأولى في لفظ "الرَّحْمَنِ"، وجائت الثانية فى " الرَّحِيمِ " ولهذا قال تعالى عن نبيه - عليه السلام:

 "وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا" 33:43، وقال أيضًا: " لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ" 9:128

 

في سورة الكهف، ، يقول تعالى: ” أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" 18:10،9

حيث بدء هؤلاء الفتية بسؤال الرحمة قبل سؤال الرشد، وفي هذا دليل على أن الرحمة قبل العلم ، مشيرًا إلى أنه من دون رحمة لا معنى للأشياء التي يملكها الإنسان، ولذلك فإن أصحاب الكهف دعوا بطلب الرحمة قبل الرشاد، واستجاب الله تعالى لهم، فأووا إلى الكهف، حيث قال بعضهم لبعض: " فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا "  18:16

 

وفى نفس السورة، قصة موسى والرجل الصالح الذي أثنى الله تعالى عليه قائلًا: " فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا" 18:65، فبدأ الله بصفة الرحمة قبل العلم، مع أن موسى جاءه ليتعلم منه العلم، ومع ذلك بدأ الله تعالى بصفة الرحمة قبل العلم.

 

كما أنه حينما رافق موسى الرجل الصالح وحدث أكثر من موقف ذكر الله تعالى في آخرها قصة بناء الجدار، حيث قال: " وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ" 18:82، فذكر أنه حتى قتل هذا الغلام وخرق السفينة وبناء الجدار من دون أن يأخذ عليه أجرة ، كل ذلك: " رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي"  .18:82

وعمارة الأرض تتطلب معرفة جـيـدة بعـلوم الحياة وعلى ذلك، فعلى كل من يهتم بعمارة الأرض، أن يواكب تطور العلوم والصناعات، كي يستطيع فعلاً أن يُعَمِّر.

 

تردد ذكر مشتقات كلمة العقل (العلم) في القرآن ما يقرب من خمسين مرة، والأمثلة على ذلك كثيرة، فمنها قوله تعالى:

" إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" 2:164

 

ليس كل علم نافعاً في ميزان الشرع، وإنما العلم نوعان: علم نافع وعلم ضار، فالنافع هو الذي يفيد في تكوين الفكر، ويخشع به القلب والجوارح، والضار هو الذي لا نفع له في الحياة، لأن العلم إذا تجرد عن الرحمة أصبح عدوانًا، وسلاطة في اللسان، وبغيًا على الناس بغير الحق، وظلمًا للعباد، واستكبارًا في الأرض، ومكر السيئ، كما قال الله تعالى عن قوم: " فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ" 40:83، فإذا خلا أو تجرد العلم ـ حتى علم الشريعة ـ عن الرحمة أصبح وبالًا على صاحبه في الدنيا والآخرة، وكذلك المال والأولاد والدنيا والصحة وكل شيء إذا خلا من الرحمة لم يعد له قيمة.

 

إن عمارة الأرض أو صنع حضارة، يتطلب الكد والكدح، والسهر المتواصل، والأخذ بناصية العلوم. سنجد ملايين كثيرة في الغرب لا تعرف الله، وإن عرفته لا تعبده كما أمر، لكنها تفني عمرها في عمارة الأرض، وقد تشتغل في خرابها، بما تنشر من معدات القتل الجماعي، وأسلحة ذرية وهيدروجينية وغيرها لقد دعا القرآن المؤمنين إلى إقامة الحياة المزدهرة على الأرض، فقال سبحانه:" هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ " 67:15

 

الآية الوحيدة فى كل الآيات التى ذكر فيها غفور رحيم ومشتقاتها، ربط سبحانه العلم بالرحمة أولا وأخَّر  الغفران. فبالعلم وما ينتج عن إستخدام هذا العلم على وجه هذه الأرض، فإن إستخدمنا هذه المنتجات فى تعمير الأرض وإسعاد البشرية فهى رحمة من الله سبحانه ، لأن هذا العلم الذى أعطانا أياه هو من رحمة الله بعباده، فقدم الرحمة أولا فإن إستخدمنا هذه المنتجات للإفساد والقتل والسيطرة على عباد الله بالظلم والطغيان فقد أخر الله سبحانه الغفران. وكأنه يقول إستخدام منتجات العلم للفائدة العامة فهذا رحمة من الله سبحانه وإن كان إستخدام هذه المنتجات فى الإفساد وغيره فتوبوا إلى الله فأنا الغفور. والله أعلم.....

 أيها الأخوة والأخوات، هذا البحث المتواضع هو عبارة عن تدبر شخصى يحتمل الخطأ والصواب، فأدعو الله سبحانه:

ربنا لا تؤاخنا إن نسينا أوأخطأنا. ويا رحمــن يا رحيم إهدنا إلى صراطك المستقيم.

اجمالي القراءات 17492