المقال الثامن من سلسلة الاستنعاج
ماذا لو حاكَم النبيُ محمد (ص النظامَ السابق - أو حد الحرابة بين تضليل

نبيل هلال في الأحد ٢٢ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

قضية البشرية الأولى هي الفساد وأكل السحت , واستعباد قلة من الناس لمعظم الناس واستيلائهم على ناتج عملهم , واستغلال الأقلية صاحبة السلطة للأكثرية وتسخيرها في صنع رخائها وترفها , بينما تشقى هذه الأكثرية بالفقر والهوان . وآيات القرآن التي تتحدث عن العبادات قليلة على العكس من آيات التعامل بين الناس التي تحذر من السحت وأكل أموال الناس بالباطل . فالقرآن الذي أجمل في ذكر العبادة , فصَّل في أمر المعاملات المالية , فلم يفصل أمر الصلاة مثلا كما فصل كتابة الديْن . ذلك هو الله الذي يحمي حقوق الناس من الناس , فقرر حدودا وعقوبات للجرائم التي تلحق الضرر بالفرد كالسرقة والزنا مثلا , ولكنه يولي عناية قصوى للجرائم التي تلحق الأذى والضرر بالمجموع , فهي جرائم مركَّبة الأثر , ضخمة المردود , جسيمة الضرر , فاقتضت حكمة الله سن عقوبات خاصة لها تختلف عن الجرائم التي ترتكب في حق الأفراد كل على حدة . فمن يسرق مال الفرد غير من ينهب مال الأمة , ومن يقتل شخصا غير من يتسبب في قتل الآلاف , ولو استوى الأمران لانتفى عدل الله وميزانه الذي يقوم عليه أمر الدنيا والدين .

الله يقول :" {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

هذه هي الآية 33 من سورة المائدة وهي مدنية , ومن أواخر ما نزل من القرآن . أي لا يجوز لمزايد أن يزعم أنها منسوخة بآيات لاحقة , فترتيب نزولها بين سور القرآن هو 112 , أي بعد معالجة القرآن لكل أشكال الانحرافات الفردية ولم يبق غير التحدث عن التصدي للانحرافات الشاملة التي تصيب مجموع الناس وهو الفساد المذكور في القرآن مميزا بشموله , فهو" فساد في الأرض" , ومفسدينه هم "المفسدون في الأرض" , لتمييزه - أي الفساد - عن ما سواه من الجرائم الأخرى .

وفي كل المجتمعات الإنسانية يقترف الناس عادة جرائم نمطية كالسرقة والزنا والقتل , وهي جرائم لن يَحُول دون حدوثها أي دين , بل قد يرتكبها حتى المؤمنون .وقد قررت الأديان عقوبات محددة لهذه الجرائم , بل ووُضع في الاعتبار درء الحدود بالشبهات في مثل تلك الجرائم من باب الرحمة والتخفيف . ولكن تأمل معي هذه الآية التي نجح فقيه السلطان في تجميدها تماما وأسدل عليها أستار التمويه والتضليل , فهي لا تتحدث عن جرائم نمطية مما يحدث عادة بين الناس ولكنها جرائم من نوع خاص , ففيها – أولا - محاربة لله ورسوله , ومَن يحارب الله ورسوله ابتداء ليس بمؤمن حقيقى , وهو مجترئ غشوم غبي إذ يناصب اللهَ العداوة والمحاربة , وهو غباء ليس حتى لأخس الحيوانات , فما ترى مثلا ضبا يناصب أسدا العداء – قياس مع الفارق – ومحاربة الله تكون بالانتهاك الصارخ لتعاليم الله والاجتراء الفاجر على أوامره دون خشية منه .

وثانيا "السعي"في الأرض بالفساد , أي بذل الجهد القاصد للإفساد وانعقاد العزم عليه , وهو ليس إفسادا محدودا بل شاملا عاما يعود بالضرر ليس على أفراد قلائل بل على جماعات من الناس أو على الأمة . فالفساد هو انتهاك لحق المجتمع والجماعة والأمة وهو أي نشاط أو فعل يلحق الضرر بمصالح الناس أو ينال من قيم المجتمع وسلامته . وتصوير جرائم الحرابة على أنها جرائم فردية وانتهاكات يرتكبها بعض الأفراد في حق بعض الأفراد , يؤدي إلى عدم النظر إلى جرائم الفساد بوصفها انتهاكا يتهدد المجتمع ويقوض مصالح عموم الناس . ولكل "ثقافة" سياسية "وتراث" ديني طريقته في التستر على جرائم الحرابة تجنبا لإدانة المفسدين - وهم عادة من أصحاب النفوذ السياسي أو الديني أو الاقتصادي – أو لإظهار الفساد العام على أنه أمر يستوجب التنديد . وإذا كان المقصود بآية الحرابة عقوبة َالسرقة فلماذا جاءت الآية 38 بعدها بخمس آيات فقط بحد السرقة : " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " , ذلك معناه أن حد الحرابة ليس للسرقة العادية الفردية , بل للفساد والإفساد . وفي الآية 32 من سورة المائدة يذكر الله :" من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا " , أي أن القتل هو عقوبة الإفساد وليس السرقة , فلا قتل للسارق , وإنما القطع. والفساد رأسه وعماده فساد اقتصادي وأكل أموال الناس بالباطل ,تلك هي الغاية النهائية للفساد والإفساد .تأمل الآيتين الكريمتين :

"وافوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين , وزنوا بالقسط المستقيم ,ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين" الشعراء 183 ,"وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها "الأعراف 85 .

ولم تغب هذه المعاني عن فِطنة الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان , ولعله أدرك المعانى الحقيقية للآية - أو ساوره القلق والمخاوف فهو ممن حكموا المسلمين ونهبوا أموالهم وظلموهم , والسلطة الغاشمة مسكونة بمخاوفها دائما, فكَتب إلى أنس يسأله عن آية الحرابة " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " فكتب إليه أنس يخبره أنها نزلت في العُرنيين الذين ارتدوا عن الإسلام وقتلوا الراعي واستاقوا الأبل . وإذا كان حد الحرابة واجب التطبيق على من يعادى الله ورسوله ويحدث الفساد في الأرض , لوجب محاسبة سارقي أموال الأمة من كبار اللصوص بدءا من ناهبي أموال البنوك , ومختلسي أموال الشركات والمؤسسات , وانتهاء بالسلاطين اللصوص لأن ما يترتب على ما يقترفونه من إفساد للأمة يتراوح بين نهب أموالها أو تقليص فرص العمل للناس والتسبب في البطالة وإبطاء عجلة التنمية وتقويض اقتصادها . فإذا كان النبي - حسب الروايات - قد طبَّق حد الحرابة على سارقي إبل الصدقة – وهي مال عام - فإن ما ارتكبوه من إفساد يقل بكثير عما يقترفه مختلسو المال العام في هذه الأيام من أموال البنوك والاستيلاء على أراضي الدولة وما أشبه ذلك , على اعتبار أن ذلك إضرار بالأمة , وبالمشابهة يكون من الواجب تطبيق حد الحرابة أيضا على من يوقع أي ضرر جسيم عمدا على الناس - كمن يروي المزارع بماء الصرف الصحي الملوث , أو يستورد الأسمدة المسرطنة أو الأطعمة منتهية الصلاحية , أو يستورد القمح الفاسد,أو يفر بأموال الناس, ومثل ذلك مما يثبت أن ضرره أكيد على الناس الذين تعاقدوا بالعقد الاجتماعي مع الحاكم على أن يحميهم من كل خطر . والسلطان وراء تجميد وتعطيل تطبيق حد الحرابة لأنه أدرك أن المعنِي به هو الإفساد العام الشامل الذي يطال مجموع الناس , وهو فساد لا يقدر عليه -عادة- الفرد العادي ولكنه فساد شامل وعام لا يمكن اقترافه إلا مِن موقع السلطة والنفوذ . وكلَّف الخليفةُ الفقيهَ السلطاني لإبطال العمل بحد الحرابة لحساب سيده وولي نعمته الخليفة النبوي , فهو يزيف الحقائق توسيعا وتضييقا بحسب الحال والمصلحة - مصلحة السلطان - فقام بالتضييق من معاني الحرابة وقَصَرها على قاطع الطريق , تماما مثلما سبق له ووسّع من معاني الجهاد حتى جعله يسع كل جهود الإغارة والاستعمار وليست الحرب الدفاعية -وفقيه السلطة المعاصر يصور الفساد على أنه الخروج في المظاهرات المنددة بسوء الحال ,أو قطع صلة الرحم بل ويدعو إلى تطبيق حد الحرابة على المتعصبين للعبة كرة القدم ,وطوبى لمن احترم عقله .وهو نفس الفقيه الذي لم يشر بإصبع اتهام واحد إلى المفسد الرئيسي فهو ولي نعمته .

بتصرف من كتاب "المسكوت عنه في الإسلام بين التقديس والتدليس" لنبيل هلال

Nabilhilal2@yahoo.com

اجمالي القراءات 13528