روح الثورة المصرية (2)

كمال غبريال في الإثنين ١٦ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

بدأنا في الجزء الأول تحت ذات العنوان جولة داخل البيت المصري بعد ثورة الشباب في 25 يناير 2011، لنستطلع الروح والفكر السائد لدى المتحمسين والآملين في عهد جديد يحقق لهم طموحاتهم، ولقد دخلنا غرفتين من غرف البيت المتعددة، ووجدنا فيهما من يأمل من العهد الجديد تحسيناً في أحواله المعيشية، ليس عبر تهيأة الظروف الشخصية والوطنية لمضاعفة الإنتاج، بالتأهيل الجيد للأفراد، وبتغيير ظروف العمل وفرصه وعلاقاته، وإنما بتصور أن التحسن في الأحوال لا يتطلب أكثر من إعادة توزيع الثروة، وفرض قيود على أصحاب رؤوس الأموال، محكومين بفكرة "أبوية الدولة"، باعتبارها المسؤولة عن إعالة رعاياها، وفي ظل "تصور ريعي" لما نعرفه "بالرزق"، وأوهام أن مصر "كلها خير"، دون أن يبذل أبناؤها أي جهد يذكر، وغياب شبه كامل "لقيمة العمل" ومحوريته في تحقيق الإنتاج اللازم لحالة الرفاهية المرجوة.
ندخل الآن الغرفة الثالثة، لنجد العامة المتأثرين بما حقنهم به صفوتهم أصحاب الإرث الناصري الوبيل من تصورات وشعارات عروبية، حولتهم إلى كائنات تعيش على العداء للآخر الغربي المتحضر ولأمريكا "الشيطان الأكبر"، التي تدبر المؤامرات لإضعافنا خوفاً من قوتنا المتوهمة على نفوذها ومصالحها، ولما صوروه لهم باعتباره "العدو الصهيوني"، الذي لا يريد فقط وطناً لليهود في فلسطين، ولكن أيضاً وعلى سبيل "الشعللة" والتسخين يريد أن يسيطر على كل المسافة ما بين النيل والفرات، ورغم كذب فرية وجود خريطة على باب الكنيست الإسرائيلي تحدد خارطة إسرائيل من النيل للفرات، إلا أن الأشاوس في بلادنا وكما عهدناهم لا يكترثون كثيراً أو قليلاً بحقائق الواقع على الأرض، ماداموا هانئين مستريحين في دهاليز تصوراتهم الخاصة المقدسة للعالم.
هؤلاء انخفض رغماً عن أنوفهم سقف آمالهم المتمثل فيما سموه "الوحدة العربية"، إلى مجرد ما يسمونه الآن "الدور العربي لمصر"، ذلك الدور الذي يتهمون مبارك بالتخللي عنه، بعد أن صار عميلاً للغرب ولأمريكا وربيبتها إسرائيل، رغم أن من حقق لإسرائيل بحماقته أكثر مما تطمح هو ناصر معبود الغوغاء. . الدور الذي يتحدثون عنه غامض لدينا، كما هو غامض حتى في تخيلاتهم أو هلاوسهم، فهم يدركون بالتأكيد أن مصر غير قادرة على الحرب، وإلا سيكون مصيرنا هو ذات المصير الذي واجهناه في حرب السويس ثم اليمن ثم كارثة (نكسة) عام 1967، هذا الشعور أو الإدراك للعجز لا يؤثر كثيراً في هؤلاء الأشاوس، فالحرب "فعل"، وهم غير معنيين بأي حال بالفعل، هم أبطال الميكروفونات التي تطورت مع التكنولوجيا لتصير فضائيات مناضلة كقناة الجزيرة التي تبعد بضعة أمتار عن قاعدة السيليه الأمريكية، فالحروب الكلامية والصراخ بالشعارات يكفيهم تماماً ويشبع نوازعهم العنترية، تلك الشعارات أو "طق الحنك" الذي عاش عليه البعث السوري الأسدي لأربعة عقود، كما يعيش عليها والتجارة بها أحمدي نجاد ومشروعه العدائي الذي وصل بالشعب الإيراني إلى حافة الهاوية.
"الدور المصري الرائد" في العالم والمنطقة العربية منقطع الصلة في ذهن هؤلاء بقوة مصر الحقيقية اقتصادياً وعلمياً ومن ثم عسكرياً. . صعب عليهم أن يدركوا أن دور الأفراد والدول لا يقوم على ارتفاع الصوت وقوة الحناجر، أو على "الزرجنة" و"الممانعة" ورفض كل ما لا يروق للهوى، ولكن على مقومات مادية حقيقية، تبدأ من قدرة الدول على توفير حياة كريمة لشعوبها، وأن توفير مثل هذه الحياة للشعب المصري لن يتحقق إذا كانت مصر دولة "مارقة" أو "مشاغبة" على نمط سوريا وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا وليبيا القذافي. . لا يدرك هؤلاء أيضاً أن ما يسمى "الدور العالمي أو الإقليمي" للدولة المصرية هو أمر لا يُطلب لذاته، وإنما هو في جميع أنحاء العالم أمر يأتي مترتباً على قوة الدولة الذاتية، وتشعب مصالحها وامتدادها إلى خارج حدودها، فتضطر في هذه الحالة إلى دفع تكلفة بذل جهود تمتد خارج نطاق أراضيها، ليس رغبة أو شهوة لدور عالمي لدى قادتها أو نخبتها أو شعبها، ولكن فقط لمجرد تحقيق وتأمين مصالح شعبها، بحيث تكون "السياسة الخارجية" للدولة الرشيدة هي "سياسة داخلية يتم رعايتها خارجياً".
سياسات الدول تقوم على تحقيق مصالح شعوبها، أما دولنا وشعوبنا فكلمة المصلحة في ثقافتهم كلمة ملوثة، نتهم بها من نريد أن نصمه بالنذالة أو الانتهازية، ومصالح الشعوب السوية مادية، تتلخص في توفير حياة كريمة وحرة للمواطن، لكن نخبنا المناضلة تستثقل التفكير في مثل هذه الأمور التي تقتضي منهم جهداً حقيقياً ودؤوباً في ميادين الإنتاج المختلفة، وتستسهل الهيام في تصوراتها أو هلاوسها، التي تحارب فيها طواحين الهواء الدون كيخوتية، فلا ترى لها دوراً مقدساً غير محاربة ما تسميه "الصهيونية العالمية" و"الإمبريالية الأمريكية"!!
هذا هو الفكر السائد لدينا، سواء كانت تلك الأفكار والتوجهات ذات مرجعية عروبية معادية ومستعلية على كل آخر، تتوهم قومية عربية تضم شعوب المنطقة، متجاهلة التنوع العرقي والثقافي في سائر أنحاء ما نصر على تلقيبه "العالم العربي"، أو كانت نتيجة استفحال مرض تليف العقل اليساري المعادي للعالم الغربي، والذي يميز النخب اليسارية العربية عن سائر اليساريين في كل أنحاء العالم، الذين تحولوا من العداء للغرب، إلى الالتحاق بمسيرته الحضارية، علهم يعوضون ما فات بلادهم وشعوبهم وهم أسرى نظريات اقتصادية وسياسية فاشلة، أو كان هؤلاء الأشاوس من أصحاب عبد الناصر بطل الخطب الحماسية النارية، وبطل الهزائم الوبيلة التي أفقدت الشعب المصري دماء أبنائه ومقومات حياته واقتصاده، وكلفته بالتبعية إهدار كرامته، على الأقل لدى من نسميهم الشعوب العربية الشقيقة، التي صارت تعامل المصري معاملة الشحاذين والمتسولين، وامتدت أياديهم ودولاراتهم لتعبث بثقافتنا وأمن بلادنا!!
هؤلاء ناقمون على مبارك الذي وقى مصر شر الحروب والمغامرات الفاشلة طوال ثلاثة عقود، ويريدون من الثورة أن تعيد مصر "لدورها العربي الرائد"، خاصة وأن بشار الأسد غضنفر الممانعة العربية يوشك على الهرب إلى إيران، قبل أن يلقى مصير القذافي تحت أقدام الشعب السوري. . هؤلاء يبتهجون إذا ما فجرت حماس أو تنظيم القاعدة خط أنابيب الغاز لإسرائيل والأردن، وقد تجردوا تماماً من النخوة والحرص على كرامة بلادهم وسيادة دولتهم في معرض عدائهم للآخر وهيامهم بالشغب والممانعة، وهم من نصبوا من يمتلك مؤهلات "حرامي غسيل" أنزل العلم الإسرائيلي من على السفارة الإسرائيلية بالقاهرة بطلاً قومياً، مما دفع الثوار المصريين بعد ذلك لاقتحام السفارة، إشباعاً لغرائزنا الفطرية المحتقنة بعقد النقص والعداء والكراهية!!
هل نريد حقاً أن تحل مصر في عهدها الجديد محل سوريا، ونوفر لإيران مطية جديدة عوضاً عن سوريا المطية المفقودة؟
هل يصح أن نعتبر هؤلاء ثواراً ودعاة حرية وتقدم وحداثة، وهم متمسكون بالفكر والأيديولوجية العروبية التي اقترنت دائماً وفي كافة مراحلها التاريخية بالاستبداد والقهر لشعوبها، ولم تلحق بهذا الآخر الذي تعاديه أي قدر من الضرر، بل بالعكس حققت له أكثر مما يطمح من تعاطف عالمي معه، ضد من اعتبرهم العالم المتحضر البرابرة العرب الخارجين عن السياق الحضاري للإنسانية؟!!
هل يكون ثمن "دور مصر العربي الرائد" أن نقدم سيناء لحماس وتنظيم القاعدة، مساهمة كريمة منا في تنفيذ المخطط الإسرائيلي لتوطين الفلسطينيين في سيناء، لتصدر إسرائيل لنا مشاكلها المستعصية مع الفلسطينيين؟
هل ندفع هذا الثمن عن طيب خاطر محبة في عيون العروبة الشمطاء، وكراهية لعيون اليهود أحفاد القردة والخنازير؟!!
هل يريد هؤلاء حقاً حياة حرة وحكم ديموقراطي، أم أن مثلهم الأعلى الحقيقي هم حكام على شاكلة صدام حسين والقذافي والأسد وأحمدي نجاد وهوجو شافيز وكيم يونغ إيل؟!!
أسئلة كثيرة لا تتوفر لدينا إجابة لها، فالتفكير العلمي والنفسية السوية القادرة على التأمل في الأمور والوصول إلى تصورات عقلانية غائبة عنا، مع ما غاب وتلوث واضمحل من الثقافة والحضارة المصرية على مدى ستة عقود ماضية، لكن المؤكد أن مفهوم "ثورة حرية وحداثة" تتضاءل مقوماته لكما أمعنا النظر في أحوالنا.
نكتفي الآن بهذا القدر من تجوالنا بالبيت المصري، بعد أن أرهقنا العروبيون بتهويماتهم وعداواتهم للعالم ولأنفسهم، ونستأنف بقية الجولة في مقال قادم.

اجمالي القراءات 8703