انعدمت المعارضة في الإسلام بغياب مؤسساتها وانعدام وجود مثال لها يعرفه عرب صدر الإسلام , إذ كانت السلطة في المجتمع القبلي والبدوي تقع كلها في يد شيخ القبيلة ولا معقب على حكمه , وله السلطة كل السلطة , ويتمتع بحقوق مالية ليست لغيره , فله ربع ما تغنمه القبيلة , وله أن يستصفي من تلك الغنائم قبل تقسيمها , كما يستولي على الفضول وهي الأموال التي لا تقبل القسمة من الغنائم . لذا لم يكن غريبا ألا يستنكف المسلم من نهب الخليفة لمال بيت المال فقد فعلها قبله شيوخ القبائل .والمشاورة في الأمر هي الاشتراك في الإدارة السياسية , ولهذه المشاورة طرفان : السلطان والناس , الحاكم والمحكوم . وهذا المعنى واضح في الآيتين اللتين ورد بهما لفظ الشورى : وأولاهما الآية 38 من سورة الشورى :
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } " :فهي تبين نوعية الفئة التي تدلي دلو المشاورة نيابة عن الأمة , إنهم بمواصفات محددة لا يجوز لمن لا يتمتع بها أن يكون طرفا في المشورة والحكم , إنهم ممن استجابوا لمنهج ربهم : فهم نظيفو اليد لا ينهبون أو يدلسون من أجل المال والمكاسب , وهم لا ينفقون إلا مما يرزقهم الله من المال الحلال , فلا تكون مشاركتهم في المشورة والحكم هي مجرد إدارة مستترة لمصالحهم الخاصة, والاستجابة لربهم لا تعني مجرد انتماء نظري للدين , ولكنها تفعيل كل مبادئ الإسلام من إقامة العدل والمساواة . وإقامة الصلاة ليست مجرد أداء أصم للعبادة , ولكنها انتهاء عن الظلم وإمساك عن أكل السحت وأموال الناس بالباطل , فمن لم تردعه صلاته عن مقارفة المنكر والبغي , فلا صلاة له . وثانيهما الآية 159 من سورة آل عمران :
" فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ". والآية تتوجه بالحديث إلى الحاكم - النبي في الآية - لتحدد الموقف العام للحاكم تجاه المحكومين : إنه العفو والمغفرة , لا الغلظة والقسوة والقهروالقتل بالظنة فهي خصال مؤدية إلى انفراط عقد الأمة وشق عصى الطاعة ( لانفضوا من حولك ) , ثم تضيف الآية خصيصة ينفرد بها الحاكم في أمر المشاورة وهي المضي قدما في تنفيذ ما انتهت إليه المشاورة بين الحاكم والمحكومين( فإذا عزمت فتوكل على الله ) , وإمضاء الأمر على هذا النحو يحبه الله ( إن الله يحب المتوكلين ) .
وكلمة " الأمر" تعني الحكم والإدارة وسياسة شؤون الدولة ( ومنها كلمة الأمير ) , وعليه فأُولي الأمر تعني - أول ما تعني - المختصين بشؤون السياسة والحكم , وإن وردت في غير ذلك فتعني أصحاب الاختصاص والخبرة . و" أُولي " لفظ جمع ليس له مفرد وإن ظن البعض أن مفرده " ولي " , وهذا غير صحيح لأن جمع ولي" أولياء ". ويُفهم من الآية أن إدارة وتصريف شؤون الناس يكون لغير فرد واحد , وإنما للمجموع . ولم تترسخ في الضمير المسلم فكرة العدالة باعتبارها حقا أساسيا كفله الله للناس دون تمييز يقوم على المكانة الاجتماعية أو العرقية , وكان دورالفقهاء في تهيئة عقول الناس لقبول الظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي دورا أساسيا في استئناس المسلمين وترويضهم لمصلحة السلاطين , فانكمش الناس وتقوقعوا , وفقدوا القدرة على ممارسة الرفض , وقيس فضلهم بمدى استخذائهم , وترسخ لديهم الاعتقاد بقبول الحكام مع معرفتهم بمخالفة أفعالهم لأقوالهم وبأنهم ليسوا شرعيين . واسمع من تراثنا- وهو مرآة تعكس البنية النفسية للناس في تلك الأزمان - إلى بدوي ينصح ولده قائلا :"يابني لا تكن رأسا ولا تكن ذنَبا , فإن كنت رأسا فتهيأ للنطاح , وإن كنت ذَنَبا فتهيأ للنكاح " ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ولم يدرك المسلم المستخذي مدى الخسارة التي ألمت به إذ عجزعن فهم واقعه وما يحدث له إلا عن طريق التفسيرات التي يقدمها له المسيطرون عليه , ولم يضطلع بأي مهمة لتحقيق خلاصه .
وهذا الحصار الذي ضربه الفقيه السلطاني على وعي المسلم , لا فكاك منه إلا بتبني ثقافة الرفض والتمرد على المستبدين , وإذا كانت ملاحقة مَن يقترف جريمة التعذيب مكفولة بحكم القانون ولا تسقط بالتقادم , فما أحرى الشعوب أن تلاحق من يعذبها وينهبها مهما طال زمنه , فلو أيقن المستبد - أي مستبد - أنه سيُلاحَق أمام قضاء عادل , لَما استبد وفرَّط .نبيل هلال هلال