مصريون مؤمنون في القرآن وملأ مفسدون
سحرة مؤمنون أم ملأ مجرمون؟

محمد عبدالرحمن محمد في السبت ١٤ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

            

  في  تدبر آيات من أيات الذكر الحكيم .. عن ميراث الخطيئة من الأسلاف والذي ورثه جنود الجيش المصري الحالي  من أسلافهم وذلك بقتلهم لأبناء من مصر طالبوا بالعدل والحرية .. وذلك تنفيذا لأوامر القائد الأعلى حاليا وهو المشير .. ورتبته هى  أعلى رتبة عسكرية في العصر الحديث.. 

وهو في نفس الوقت يمثل الصورة الرمزية.. لهامان  الرجل الثاني في دولة الفرعون..  وجدت  أنه لابد من تتميم المغزى  بمتابعة تدبر ثان وثالث  وربما رابع في هذا الشان المصري الخالص..!

  وبادئ ذي بدء .. لابد أن تكون لدينا القناعة التامة من أن الأحكام البشرية يجب ألا تكون  متضمنة منهج التعميم .. لأن  ذلك المنهج يجانبه الصواب..  والقرآن علمنا أن هناك دائما استثناء بإلا .. وغير..  للتفريق بين المطلق والنسبي.. بين الحق وبين الضلال .  وذلك في قوله تعالى : {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ }الأعراف83 

وغير مثل قوله تعالى : {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ }الذاريات36 ..

وهذا ينسحب على حال المجتمع المصري  في الماضي البعيد وفي الحاضر وفي كل العصور..

 فلم يكن المصريين في جميع عصورهم كافرين جميعاً أو مؤمنين جميعا .. فمنهم المؤمن التقي ومنهم المؤمنة التقية.. ومنهم الفاسق المجرم  كهامان وقارون ..   والأغلبية وهى  قوم مصر تتأرجح بين هذا وذاك فإلى أي الفريقين تنحاز؟

 لكن النسبة المئوية هى التي تتحكم في السلوك العام ووصفه  بالتوحيد أو الشرك .. بالإيمان أو بالكفر.. بالمسالمة أو الاعتداء..

 ولو تأملنا التكوين العقائدي والسلوك الايماني للمجتمع المصري الفرعوني في العصور السحيقة .. لوجدنا أن ذلك المجتمع المصري  قد عبر عنه القرآن الكريم بعدة تعابير قرآنية عظيمة قسمت عقائد المصريين وقتها وأعطتنا انطباعا   وتصورا مكتملا عما كان عليه المصريون وقتها عقيدة وسلوكاً  ..

ويمكن أن نبصر أن هذه التصانيف العقيدية والسلوكية ممتدة حتى وقتنا الحاضر .. مع استبدال المسميات .. فهناك إله وآلهة وهناك رب أعلى  أو قائد أعلى وهناك دين للمصريين وقتها وهناك الفرعون   وهامان والملأ .. وهناك إمرأة فرعون المؤمنة .. ومؤمن آل فرعون .. والسحرة.. والمعادل الموضوعي  هو الرسول موسى . وأخيه الرسول هارون وبني اسرائيل.. والسامري.. وقارون.

  مؤمن آل فرعون:

  لم يُعْدَم المجتمع المصري من المؤمنين .. (الموحدين) منذ ما قبل فجر التاريخ.. ولقد ذكر لنا القرآن العظيم مثالين رائعين للإيمان الفردي  مثال لرجل مؤمن ومثال لامرأة مؤمنة ..كل على حدة .. وصارا  مثلين من أمثلة الإيمان والتوحيد في القرآن الكريم لجميع الموحدين المؤمنين المسلمين  إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..         

 فهل نتدبر معاً  ما جاء في مستهل آيات مؤمن آل فرعون.. يقول تعالى :

{وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ{20}.

 ومضة إيمانية ساطعة ناصعة في هذه الآية المباركة تعرفنا بنوع من الإيمان لا يظهر إلا في الشدائد والمهام الصعبة.. التي لايُقْدم عليها .. إلا المخلصين  من الرجال الأوفياء الصادقين لعقائدهم ولرفقاء الإيمان.. ولقد عبرت الآية المباركة عن معنى من معاني الرجولة كموقف إيماني لإنسان مصري  يسعى ليثبت إيمانه وصدق نصحه لموسى ذلك الشاب الأغر الذي قتل نفساً وهو ينصر واحد من شيعته على واحد من عدوه..  وتآمر الملأ على قتل موسى .. ولو تم ذلك لما كانت هناك رسالة التوراة التي سوف يحملها موسى  لينذر الناس من بني اسرائيل ومن المصريين ولينذر فرعون خاصة..

 مؤمن آل فرعون هو رجل المهام الصعبة ولذلك عبرت الآية العظيمة عن ذلك بجملة .. وجاء رجل..  دلالة على السعي الحثيث والعجلة في الأمر لأهمية الخبر وضخامة الحدث.. وهو إنقاذ حياة موسى من القتل على أيدي الملأ ..

أما في  آية أخرى تتحدث عن رجل مؤمن آخر وفي عصر آخر غير عصر موسى والفرعون ..فكانت مهمة هذا الرجل أقل خطورة  على حياته وعلى حياة  المرسلين الذين يناصرهم .. فتقدم ذلك المؤمن ليحث قومه على اتباع هؤلاء المرسلين.. ولم يكن قومه بجبروت ملأ فرعون ... فعبرت الاية الكريمة .. عن المشهد وتأخر ذكر لفظ ..رَجُل.. إلى آخر الجملة الخبرية

..يقول تعالى:

{وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌيَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ }يس20

هذا عن تقديم  لفظة رَجُل للتعبير عن أهمية الحدث الذي قام به مؤمن آل فرعون الذي لم يذكر لنا القرآن الكريم إسمه ..

وذلك نسق عام في القرآن الكريم  أنه لايؤكد على أسماء الأشخاص ولكن  يؤكد على الموعظة والاعتبار في القصص أو الحدث المذكور.

كما أن الأحداث تجري في مدينة من  مدن الدولة الفرعونية وربما تكون هى العاصمة.. أو المدينة الأم التي يتم السيطرة والتحكم  منها بالمُلْك .

  مشهد آخر هو المشهد الرئيس أو (الماستر سين)  الذي  يلخص عمق الإيمان وشمول الموعظة والإلمام بتاريخ الأمم السابقة  وما حدث لأسلافه من المصريين في عصر يوسف وما جرى لهم  في حديث وموعظة مؤمن آل فرعون لقومه  والذي يظهر فيه مؤمن آل فرعون يبرهن على قوة إيمانه وقوة حجته أمام الملأ وجبروته,, وجبروت الفرعون  ويظهر ذلك جلياً في الآيات الكريمة.. التي تقول:   

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ{23} إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ{24} فَلَمَّا جَاءهُم بِالْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاء الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ{25}

في الآيات السابقة نعرف منها  أن الله تعالى أرسل موسى ومعه الآيات والسلطان والمنعة إلى فرعون وهامان وقارون .. ليعظهم ويدعوهم إلى عبادة الله الواحد وعدم الاعتداء ونبذ الطغيان.. وتحرير بني اسرائيل من العبودية والأسر والتقتيل..

لكن

ثالوت الكفر والفساد.. فرعون وهامان وقارون .. لم يرضهم هذا واتهموا موسى بأنه ساحر وأنه كذاب..!

وعندما جاءهم موسى بدعوة الحق .. تميزوا غيظاً وكان قولهم وأوامرهم للجنود الخاطئين .. بقتل أبناء المؤمنين من بني اسرائيل برسالة موسى.. واستحياء النساء  ..وهو كيد شديد من ثالوث الكفر.

   مرة ثانية يحيط الخطر بحياة موسى الرسول .. إحاطة عارمة عندما ترآى لفرعون وداعبه خياله أن يقتل موسى..! فأعلن ذلك في الملأ  .. بأنه يريد أن يتركه الملأ  أن يتمكن من قتل موسى .. ولنرى هل  يدعو ربه أن ينجيه من القتل وهل يستجيب له ربه؟

 وبرر فرعون إقدامه على قتل موسى بأنه يخاف أن  يقوم موسى بتبديل دين  الملأ الفرعوني وقوم فرعون وأن يظهر موسى الفسادة في الأرض أي في أرض مصر.. وكأن من يدعو للحق في أرض مصر في الماضي والحاضر هو عند الفرعون وملئه من المفسدين .. وليس من المصلحين.. فمن يدعو للتوحيد والحق يفسد نظام الفرعون وملئه .! لأنه نظام قام على الاستبداد والفساد.. استبداد بالفرد وفساد في الأرض.

هذا هو التكبر وهذا هو التجبر الذي يمقته الله تعالى أن يكون  من مكون الشخصية البشرية..  التي هى جزء من خلق الله تعالى .. هذا الكبر عندما أصاب إبليس  ورفض السجود طُرِد من رحمة الله تعالى ومن الملأ الأعلى.. وصار شيطانا رجيما .. ومضلا للبشر.. وكان الفرعون وآله.. وملئه هم من أول من ساروا على نهج إبليس ..

ولهذا فلا أمل في العدل أن يكون نابعا من جانب من تكبر ومن تجبر.. في الأرض بغير الحق.. وعلى هذا التبصر استعاذ موسى بالله تعالى أن ينجيه ويحفظه من كل متكبر ملأ الكبر والغرور قلبه سواء كان الفرعون أو الملأ الظالمين..

ولنعيش معاً  في هدي وفي رحاب الآيتين الكريميتن التاليتين حيث نعرف أن موسى قد أصابه الخوف  وهو المكون الواضح من مكونات شخصيته فيتغلب عليه بالاستعاذة برب العالمين من كل متكبر مغرور خلى قلبه من الايمان بيوم الحساب .. يقول تعالى :  

 

{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ{26} وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُم مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَّا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ{27} غافر.

  في الجزء التالي إن شاء الله..   نتفكر ونتدبر مع  شهادة مؤمن آل فرعون على قومه وعلى فرعون وملئه ...  فهو شاهد على عصره وناصح لأهل عصره ووطنه مصر.

اجمالي القراءات 17965