تحدثنا وسنتحدث جميعاً لفترة ممتدة من الوقت عن الثورة المصرية وملابساتها وظروفها، وعمن كان وظل معها، ومن عمل ضدها منذ اللحظة الأولى، وأيضاً عمن ادعى حمايتها وهو يطعنها في مقتل، علاوة بالطبع على هؤلاء الذين امتطوا ظهرها، ليصلوا إلى المواقع التي فشلت متفجراتهم وخناجرهم في إيصالهم لها، لكننا نبدأ هنا حديثاً عن الثورة من الداخل. . عن الروح التي واكبتها، أو لمن يشاء عن المزاج العام للمصريين المتحمسين للثورة أو المتطلعين لنتائجها وفق أفكارهم وميولهم، وحين نشرع في هذا لابد وأن نبدأ بقرع بابها بعد قراءة ماهو مكتوب عليه من الخارج، دون تصور أن الموجود بالداخل من المحتم أن يتطابق مع ما تشير إليه تلك اللافتة النحاسية الأنيقة على الباب، والتي كانت في حالتنا هذه هي شعار الثورة: "عيش. . حرية. . كرامة إنسانية. . عدالة اجتماعية".
ولأن القارئ العربي تعود أن يترك الحروف والكلمات ويسارع بالإمساك بتلابيب قائلها، لابد أن نعيد ونكرر هنا أيضاً أن كاتب هذه السطور إن لم يحسب له أنه واحد ممن خرجوا للشوارع رافعين رايات الثورة، فهو واحد ممن رأوا فيها فرصتهم الأخيرة ليشهدوا الوطن الحر الذي حلموا به، وكرسوا جهدهم الفكري للتمهيد له، نقصد بهذا أنه مهما مارس من نقد حتى لو كان مريراً، لا يصح بأي حال تصنيفه كعدو للثورة أو كاره لها.
نحاول الآن الولوج إلى قلب الثورة المصرية أو روحها، لنرى تصورات الجماهير التي يصفونها دائماً بالعريضة، ومنها ذات الجماهير المشاركة في فعاليات التظاهر، بجانب هؤلاء الجالسين مشدودين أو مشدوهين أمام أجهزة التليفزيون، وقلوبهم تخفق بالأمل والخوف معاً، هؤلاء بالطبع ليسوا قلباً واحداً أو روحاً واحدة، لكنهم صنوف ومشارب وتطلعات شتى، يصل التباين بين بعضها إلى حد التضاد، لذا فسوف نحاول أن نجمع بعض هذا الشتات في حزم تسهل علينا قراءة الواقع المصري المتشظي، حتى لو أدى هذا للوقوع في محظور القليل أو الكثير من التعميم والتنميط للبشر، أو التجاهل والإسقاط لبعض النماذج التي ربما عدها البعض أساسية أو جوهرية، وجميع هذه الأمور لا تليق عموماً بالإنسان، ولا يصح حدوثها خلال دراسة جادة وعلمية له!!
إذا دلفنا لمنزل أو شقة أو حتى قصر الثورة المصرية، فسوف يستقبلنا في البهو نفر من الشباب الجميل عالي التأهيل العلمي وفائق الحماسة للشعار الذي قرأناه على الباب قبل دخولنا، وعلينا بعد تقبيل وجنتيه والتطلع في عيونه الجميلة المشرقة بالأمل والنبل، أن نتركه يتأهب للخروج في مليونية أو ألفية جديدة، أو يجلس على جهاز الكومبيوتر يتصفح الفيسبوك ويغرد في تويتر، ونستدير نحن متوجهين للغرف العديدة المغلقة على باقي أهالي ذلك المنزل، حيث الآباء والأمهات والأخوة والأخوات والأعمام والأخوال.
سوف نتجاوز في بحثنا أو تفتيشنا لمنزل الثورة هؤلاء المعارضين لها والمتخوفين منها والناقمين عليها، فوجود هؤلاء أمر طبيعي لا ينتقص من الثورة وقيمتها، كما أنهم لا يحسبون عليها، وبالتالي لا يدخلون في دائرة اهتمامنا في هذه الجولة، التي نركز فيها على المنتمين فكراً وآمالاً للثورة وليس غيرهم.
في الغرفة الأولى سنجد هؤلاء المهتمين بالعيش أو الخبز، وسيقولون لنا أن خبزهم مسروق من قبل لصوص نظام مبارك، حيث أن مصر في نظرهم بلد "غنية بخيراتها" أو بنص ما يقال "كلها خير"، وأن كل ما نحتاج إليه هو "عدالة التوزيع" لهذه الخيرات. . هي ثقافة "الرزق" الهابط من السماء، كما "المن والسلوى" التي أقات بها الرب شعب إسرائيل في برية سيناء، في حين يقوم اللصوص بسرقة منحة السماء "للغلابة"، والاستئثار بها لأنفسهم. . أو فلنقل ثقافة الاقتصاد الريعي التي تنتظر "عدالة توزيع" الريع على الجميع، فيما الأذهان خالية تماماً من ضرورة بذل أي جهد لإنتاج هذا "الخبز" أو "الرزق"، وبالتأكيد في ظل غياب الحاجة لامتلاك مؤهلات تتيح للإنسان القدرة على إنتاج "الخبز" وتطويره وتحسينه ليصير مثلاً "جاتوه" أو "بيسكويت"!!
يخرج عن نطاق مقاربتنا هذه إثبات أن البيت المصري بالتحديد أبعد من أن يكون ذلك البيت "العامر بالخيرات"، وأن الثروة التي تكاد تكون الوحيدة في مصر هي الثروة البشرية، التي يصح أن تعد ثروة فقط إذا ما تم تأهيل المصريين علمياً ومهارياً لعملية "الإنتاج"، وإذا ما تم أيضاً تأهيلهم ثقافياً وسيكولوجياً لبذل "الجهد" لإنتاج "الخبز"، على الأقل بذات القدر الذي يدركون به أهمية أداء الصلوات وسائر الفروض الدينية في أوقاتها، وإذا ما افترضنا صحة هذا، فلابد وأن نرى في أصحاب هذه الغرفة الأولى أنطاعاً و"تنابلة سلطان"، وليس ثواراً يبحثون عن فرص عادلة للتأهيل العملي الحقيقي، يعينهم على الكد والكدح لتحقيق مستقبل أفضل!!
في الغرفة المجاورة سنجد أناساً لا يختلفون كثيراً من حيث الجوهر عن أصحابنا الذين خلفناهم في الغرفة الأولى، وإن كان ما سنسمع منهم مختلفاً بعض الشيء. . هؤلاء ضحايا ثقافة وشعارات الستينات، والذين يطالبون "الدولة" أو "الحكومة" بأن تكون "بابا وماما وأنور وجدي"، فتقوم الحكومة بتعليمهم مجانياً، ثم تسجيلهم (وليس تشغيلهم) في مؤسسات يقبضون منها "راتباً معتبراً" آخر كل شهر، يكفي لتزويجهم وأكلهم "فراخ ولحمة بلدي"، وأيضاً لتدخين سجائر "كليوباترا"، وليس مثل الراتب الهزيل الحالي، ذلك بالطبع بغض النظر التام عن كونهم لا يكادون يعملون أو يبذلون جهداً حقيقياً في العمل، فوق أنهم لم يهتموا يوماً بامتلاك مهارات تمكنهم من إتقان العمل المفترض فيهم عمله.
هم أصحاب المطالب الفئوية لزيادة الحوافز والبدلات عن عمل لا يقومون به ولا يتقنونه، وأصحاب المطالبات الصارخة بحد أدنى وحد أقصى للأجور، وهم يقصدون حقيقة "حداً أدنى لعطايا الدولة"، فالأجر يكون مقابل عمل، ومادام بذل الجهد الإنتاجي غائب تماماً عن أذهانهم، فالأمر أمر "عطية" يرون الدولة ملزمة بها، ويكون اتجاه الدولة للتخلص من حمل القطاع العام الوبيل تخلياً منها عن دورها، ليجد رجال الأعمال - الموصومين في الذهنية العامة باللصوصية – فرصتهم لسرقة أموال الشعب الذي لا يعمل وينتظر "الرزق" من يد الدولة.
ينتظر هؤلاء من الثورة أن تقطع رقاب كل من أثرى في العهد البائد، وأن تسد الطريق على كل من يفكر من المصريين أو الأجانب أن ينشئ شركات ومؤسسات تحتاج فقط للراغبين والقادرين على بذل الجهد المنتج. . ينتظرون من الثورة أن تعيد البلاد "لعهد الستينات السعيد"، حيث "عدالة توزيع الفقر" تشمل الجميع. . لا نعدم أيضاً من بين هؤلاء من يحدثوننا عن الديموقراطية السياسية، وهم يحرضون ويدفعون باتجاه الديكتاتورية الاقتصادية، عبر إمساك الدولة بكل مصادر الرزق بين يديها، وإن قلنا لهم كيف يتسق هذا مع ذاك، سنجد أيضاً بينهم القادر على سحبنا إلى تهويمات وخزعبلات شيوعية واشتراكية أكل عليها الدهر وشرب، قبل أن تتقيأها كل شعوب العالم، وفي مقدمتها أصحاب هذه النظريات أو الهلوسات ذاتها.
نكتفي الآن بهذا القدر من الجهد في تجوالنا ببيت الثورة المصرية، على أن نستأنف جولتنا في مقال قادم.