(2)الحلف بالله جل وعلا كذبا عند الكافرين بداية استغلال الدين فى السياسة
الجذور : عبادة المال والجاه :: هو خصم لله جل وعلا من يستخدم الدين فى طموحه الدنيوى
مقدمة
1 ـ قلنا إن المشرك الكافر عندما يقسم بالله جل وعلا وهو جاد وواع بما يقول فلا يفعل ذلك عن خشوع وتقوى، بل يهدف للتلاعب وتحقيق غرض دنيوى يتنوع حسب وضعه: فإن كان مستضعفا خائفا فهو يحلف باسم الله كذبا ليغطى على خطأ وقع فيه يستحق المساءلة ، أو ليبرر تقاعسه عن واجب . وهذا ما إعتاده المنافقون فى المدينة . وإن كان المشرك صاحب جاه أو سلطان فليس محتاجا فى الأصل للحلف بالله ليقنع غيره بشىء، فمعه الجاه والسلطان .وفى الدولة الدينية المعتدية ـ أوالتى يسيطر عليها المشركون المعتدون ـ تراهم يستسهلون نقض العهود والمواثيق التى تم توثيقها باسم الله جل وعلا . وقد يكون هذا المشرك أو أولئك المشركون خارج السلطة ولكن يسعون لامتلاك الجاه والسلطان ، وعندها يقومون باستغلال اسم الله جل وعلا ، يخدعون به الناس ليركبوا ظهورهم باسم دين الله ، وهو براء منهم، ولكن استخدامهم الدين ضد المستبد القائم يدفعه هو الآخر لاستعمال نفس السلاح ضدهم ،فيستخدم شيوخه الرسميين فى تبرير الظلم وتأسيس الخنوع باسم الدين ، وهنا ترى نوعين متناقضين من استخدام الدين : نوع يوجب ( الجهاد ) ضد السلطان والقتل العشوائى للأبرياء للوصول الى السلطة ، ونوع آخر نقيض يؤسس طاعة الحاكم ويحرّم ويجرّم التأليب على ولى الأمر ، ويعتبر نصحه جريمة سياسية . والبداية فى هذا كله هو استغلال الحلف بالله جل وعلا تحقيقا لغرض دنيوى أو سياسى ، يستوى فى ذلك البائع الذى يحلف كذبا فى السوق ليخدع المشترى مع الناخب الذى يصلّى إماما بالناس ـ بغير وضوء ـ وهو فاسق عريق ، أو من يطلق على الناس لحيته ويواجههم بزبيبته يطالبهم بدفع ثمن تدينه طاعة له ليركب مؤخراتهم باسم الدين ، ومن يمانع فهو كافر يستحق القتل بزعم حدّ الردة ..!!
2 ـ وفى سبيل الجاه والمال يبذل الانسان نفسه ، يقتل ويقاتل الغير فى الصراع حول الثروة والسلطة ، وعندما يصل الى الثروة يتمسك بها وينميها بامتلاك السلطة ، كما أن من يصل الى السلطة لا بد أن تمتد نفسه لاقتناص الثروة، فالثروة والسلطة وجهان لعملة واحدة لا يستغنى أحدهما عن الآخر، فى دولة الاستبداد تجد ذلك فى أبسط صورها فى التاجر صاحب المال وضابط البوليس صاحب النفوذ ، لا بد للتاجر من توثيق سلطته بصاحب النفوذ فى محيطه ليؤمن نفسه ويزيد من ثروته ، كما أن صاحب النفوذ وهو الضابط يحتاج الى المال ليزداد نفوذا ووجاهة . وفى الدول الديمقراطية توضع القوانين لتجعل العلاقة بين الثروة والسلطة قانونية وفى إطار الشفافية والعلانية والمساءلة، فالرئيس الأمريكى تؤخذ منه ثروته ليديرها له آخرون تحت الرقابة وقت توليه السلطة، ثم تعود اليه بعد تركه الرئاسة ، ولو جاءت هدية للرئيس الأمريكى أو أى موظف حكومى فلا بد من التنازل عنها للدولة طالما تزيد قيمتها عن عدة دولارات . وممنوع منعا باتا تدخل الكنيسة فى السياسة كما هو ممنوع ومحظور تدخل السياسة والساسة والكونجرس فى الشئون الدينية للأفراد والجماعات.
3 ـ ولكن فى بلاد المسلمين المسكونة بالفساد والالحاد والطغاة والبغاة تجد الاستبداد يستعين بإلحاد شيوخ الدين الأرضى ، ولا يكتفى هؤلاء وأولئك بالظلم العادى الصريح الذى لا يتمسح بالدين ، بل يؤثرون تبرير ظلمهم بالدين الأرضى ، فتجد من أتباعهم من يحذّر من الخروج على السلطان ، ومن يدعو الى الرضا بالظلم ، ويستخدم فى كل هذا الهراء إسم الله جل وعلا يقسم به ( جهد أيمانهم ) مستخدما آيات القرآن الكريم يتلاعب بها ، ويجترّ أحاديث شيطانية جعلوها أحاديث نبوية . الأفظع من هذا أن من يطمح الى أن يكون هو السلطان وليس خادما للسلطان يستحل القتل للجميع باسم الله جل وعلا وتحت راية الجهاد ، ويستحل السلب والنهب والسرقة باسم رب العزة ، تحت شعار (الاسلام هو الحل )،وهو فى الواقع يريد (حلّ ) مشكلته وهوسه بالزعامة والحكم ، ويرفع راية ( تطبيق الشريعة ) وهى إفك ما أنزل الله تعالى به من سلطان ، هى مجرد أقاويل لفقهاء افتروا على الله جل وعلا كذبا وكذّبوا بآياته .هنا يكون الظلم صريحا للناس ولرب الناس لأن أولئك البغاة هم الطاغوت طبقا للمصطلح القرآنى ، فالطاغوت هو الطغيان المتطرف بالكذب على الله تعالى وتكذيب آياته ، وأفظع الظلم أن تظلم رب العزة ، وأن تتلاعب باسمه وبكتابه ودينه لتحقق الثروة والسلطة.وكما يقال: معظم النار من مستصغر الشّرر، فإن البداية بسيطة : الحلف كذبا باسم الله لخداع الناس .
4 ـ وهنا يتضح التناقض بين الاسلام وأديان المسلمين الأرضية . ففى الاسلام مفروض على المسلم ان يجاهد فى سبيل الله جل وعلا بنفسه ،أى أن يبذل حياته فى سبيل الله دفاعا عن دينه جل وعلا القائم على الحرية المطلقة للبشر فى حريتهم الدينية وعلى أنه ( لا إكراه فى الدين)، ليكونوا مسئولين أمام رب العزة يوم الدين. ومن أكبر الكبائر فى شريعة الاسلام قتل المؤمن البرىء المسالم : (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء 93 )، وذلك المؤمن البرىء هو من يقول ( السلام عليكم ) والآية التالية يقول فيها ربالعزّة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ( النساء 94 )، أى يؤكّد رب العزة أن جندى العدو فى حالة الاشتباك الحربى إذا ألقى السلام وجب حقن دمه ، فكيف بالأبرياء فى الشارع ووسائل المواصلات والحدائق والأسواق وفى المساجد والكنائس والمدارس ؟ وكيف بمن يقتل الناس عشوائيا مستخدما إسم الله فى عصيان الله من أجل الجاه والحكم والسيطرة؟ . ومفروض على المسلم أن يجاهد فى سبيل الله جل وعلا بماله ، أى أن يدفع أمواله متنازلا عنها إبتغاء مرضاة الله ودفاعا عن دينه القائم على القيم الأخلاقية العليا من الحرية والعدل والسلام وكرامة الانسان ، والدعاة فى الاسلام متطوعون لا يطلبون من الناس أجرا ، لأنّ أجرهم عند الله جل وعلا . وهكذا فالسلطة والثروة والحياة نفسها يتبرع بها المسلم إبتغاء وجه الله جل وعلا. أما فى الدين الأرضى فدعاته يأكلون أموال الناس بالباطل ، وأصحاب السلطان فيه يسترقون الناس ، ومن يطمح للوصول الى السلطان يخدع الناس بدين الله ليبذلوا له أموالهم وحياتهم ويموتون فى سبيل أن يصل سيادته الى التحكم فى رقاب الناس ويركب ظهورهم باسم الله جل وعلا. وهو لا يستحى من الحلف كذبا باسم الله ، يقسم باسم الله العظيم حهد أيمانه لكى يخدع الناس السذج البلهاء بأنه المبعوث من لدن الله والمتحدث باسم الله والممثل لشريعة الله جل وعلا. يفعل هذا وعينه على المال والجاه والسلطة والثروة. وهذا كفر وشرك عظيم . ونتوقف هنا مع جذور هذا الإفك السّام .
أولا : أنواع الشرك بالله جل وعلا:
أغلبية المسلمين يجهلون مصطلحات القرآن، ومنها مصطلح الكفروالشرك ،ونوضحها:. 1 ـ 1:الشرك والكفر مترادفان:(التوبة 1 : 3 ، 17)(الزمر1 : 3)(غافر 42).
2ـ :هما معا ينقسمان الى :
2/1 : كفر أوشرك سلوكى بالعدوان: ،:(التوبة : 10، 12 : 13)(البقرة 190، 286 ) (الحج 38 : 40) ولأنه كفر بالسلوك فلو تخلى عن العدوان سقط عنه الاتهام بالكفر:(الأنفال 38 : 39)(البقرة 192 ، 193 )(التوبة 5 ،11 )(الممتحنة 2 ، 9).
2 / 2 :شرك أوكفر فى العقيدة ، قد يكون صاحبه مسالما لا يعتدى يجب التعامل معه بالبر والقسط ( الممتحنة 8 ) ( سورة الكافرون ). وقد يجتمع الكفر أو الشرك العقيدى بالسلوكى ، وهو الذى ساد فى العرب وقت نزول القرآن ، وتمثل فى قريش بالذات ، وهى التى اضطهدت المسلمين واخرجتهم من ديارهم مع التكذيب بالقرآن : ( الممتنحنة 1 ).
3 ـ ينقسم الكفر أوالشرك فى العقيدة الى نوعين :
3 / 1 : كفر أوشرك عقيدى علمى بالكذب على الله جل وعلا وتكذيب آياته بزعم النسخ والتأويل كما يفعل السنيون،وهم موصوفون فى القرآن بأنهم أظلم البشر:(الانعام 21 ، 93 ، 144 ، 157)( يونس 17)(هود 18)( العنكبوت 68)(الزمر 32 ).
3/ 2 : كفر أوشرك عقيدى عملى بعبادة القبور وتقديس البشر والحجر ، وقد فضحه رب العزة:(الاعراف 194 : 198)( النحل 20 : 22) )(فاطر 14) (الزمر 3 ). وغالبا ما يجتمع الشرك العلمى والشرك العملى كما يتجلى لدى الصوفية والشيعة.وأغلبية المسلمين الصامتة ينتمون للتصوف السّنى وهم يتبعون الشرك العلمى فى الشريعة السّنية مع تقديسهم القبور واعتقاداتهم فى شفاعة البشر ( يونس 17 : 18 ).
4 ـ وفى كل الأحوال فالمشرك الكافر ينكر وقوعه فى الشرك والكفر،حتى سيحلف أمام الله تعالى كذبا يوم الحساب بأنه ما كان مشركا ،يقول جل وعلا :(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) (الأنعام 21 : 24 )، فقد زين له الشيطان سوء عمله فرآه حسنا :(أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)(فاطر8)، ويظل هكذا معتقدا أنه على صواب ، وأنه يكفيه أن يعترف بوجود الله وكونه الاها ولا يلزم ان يكون الله وحده الاها إذ لا بد لديه من وجود آلهة أخرى مع الله ، فلا يؤمنون بالله جل وعلا إلا إذا كان معه آلهة أخرى .وسيقال لهم وهو فى النار:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ ) ( غافر 10 : 12 ). كرّرنا هذا كثيرا . ولا نملّ من التذكرة به .
5 ـ ونضيف هنا أن الشرك والكفر العقيدى له أيضا مظاهر من حيث تنوع المعبود،ففيه تقديس الله جل وعلا مع تقديس الملائكة والبشر والحجر،وأحيانا تقديس الحيوانات كما كان فى العصر المملوكى ،ولكن أغلبية البشر تعبد المال والثروة،وهذا هو موضوعنا اليوم.
ثانيا : عبادة المال شرك بالله وكفر به جلّ وعلا :
1 ـ معنى عبادة المال : هو الكفران بنعمة المال :فالمال من نعم الله جل وعلا ، ومفروض مقابلتها بالشكران وليس بالكفران . وشكر النعمة المالية هو فى زكاة المال بالانفاق فى سبيل الله جل وعلا ونصرة دينه ، وفى تقديم الصدقة الفردية و الرسمية ـ فى دولة ديمقراطية حقوقية ـ وليس دول الاستبداد ، على نحو ما جاء فى سلسلة الزكاة. وكفران النعمة المالية يتداخل مع الكفر بالنعمة الكبرى وهى القرآن الكريم. ووصف القرآن بالنعمة جاء فى سور : ( القلم 2 )( الضحى 11 )( العنكبوت 67 ) ( المائدة 3 )، كما يتداخل مع وصف الهداية بالنعمة ( البقرة 103 ، ابراهيم 28 ، الصافات 57 ، الأحقاف 15 ). أى إن لكفران النعمة جانبا عقيديا يتجاوز نعمة المال فقط ، ففى النهاية هو جحود لفضل المنعم جل وعلا. هذا من الناحية العقيدية .
2ـ ومن الناحية التعبدية الناتجة عن العقيدة ، فهى تتنوع الى :
2/ 1 : تقديس للمال يبلغ درجة إنكار اليوم الآخر ، كما جاء فى قصة الرجل صاحب الجنتين أو الحديقتين الذى اصطحب صاحبه وسار معه يتفقد الحدائق ويفتخر بها ، يقول جل وعلا :(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) ( الكهف 32 : 44 ). ونستخلص من الآيات الكريمة ما يلى :
2/1/ 1 : صاحب الجنتين كان يؤمن بالله جل وعلا ،فهو يقول مفتخرا (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ) أى يعترف بالله جل وعلا ربا له. وحين تدمرت جنته ندم واعترف بكفره قائلا (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ) ، أى إنه كان يؤمن بالله جل وعلا ربا ، ولكن اتخذ معه الاها ىخر هو تلك الجنة التى أنسته رب العزة ، لذا قال عنه رب العزة (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ )، فهو حين دخل جنته دخلها بكفران النعمة ، فظلم نفسه . وفهم صاحبه المؤمن ذلك فقال له موبخا : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا )، ونصحه بشكران النعمة :( وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ ). إذن هو حين وقع فى كفران النعمة فقد كفر بالله جل وعلا المنعم . وجزاؤه فى الدنا تدمير نعمته ، وفى الآخرة عذاب أبدى ، يقول جل وعلا فى نهاية القصة :(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًاهُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا)، فالذى يوالى الله جل وعلا حقا ويخلص فى موالاته لربه ولا يتخذ غيره وليا ولا نصيرا هو الذى يستحق الثواب الحسن فى الدنيا وفى الآخرة. أما الذى يبدل نعمة الله جل وعلا كفرا ، فمصيره البوار والدمار فى الدنيا ، والخلود فى العذاب فى اليوم الآخر : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) ( ابراهيم 28 )
2/ 1 / 2 : صاحب الجنتين وصل به كفران النعمة الى درجة الكفر باليوم الآخر ، وهذه عادة سيئة يقع فيها معظم البشر إذ يعتقدون كما يقول المثل الشعبى المصرى البائس :( سعيد الدنيا سعيد الآخرة ) أى إن ذلك الثرى الذى يتمتع بالثراء فى الدنيا سينال نفس النعيم فى الآخرة ، وليذهب الفقراء الى الجحيم ..يقول جل وعلا عن كفر أولئك الأثرياء : (وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) ( سبأ 35)، وتحدى بعضهم خاتم النبيين فزعم أنه فى الآخرة سيكون كمثل حاله فى الدنيا صاحب مال وولد ، ولم يرد عليه خاتم النبيين ، ونزل قوله جل وعلا يردّ عليه : ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ) ( مريم 77 : 80 ). هى مجرد كلمة قالها فرد ، ولكن جاء الردّ عليها من رب العزة ليؤكّد أن هناك من يغويه المال فيقع فى الكفر العقيدى واتخاذ المال الاها مع الله جل وعلا ، ويجعله يكفر باليوم الآخر أو يصطنع يوما للآخرة حسب هواه . وهى عادة سيئة للانسان ، إذا إبتلاه ربه يأس،وإن أنعم الله جل وعلا عليه كفر:(لا يَسْأَمُ الإِنسَانُ مِن دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ) ( فصلت 49 : 50 ). وهو نفس منطق صاحب الجنتين ، فهو لا يؤمن أن هناك يوم آخر ، وحتى لو كان فسيتمتع بالنعيم : (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ). أى هو بين أن ينكر اليوم الآخر أوأن يصطنع يوما آخر يفتريه كذبا تتحقق له فيه كل أمانيه ويمتلىء بشفاعات البشر. والسبب الذى أوقعه فى هذا الكفر بالله جل وعلا واليوم الآخر هو انبهاره بجنه وتقديسه لها إلى درجة أن ظنّ أنها خالدة لن تبيد أبدا:(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ).
2 / 2 : أن يتطرف فى تقديس المال ليس فقط الى درجة البخل بل الى الدعوة الى البخل والأمر بالبخل . أى لا يبخل فقط بل يدعو الى رذيلة البخل ، وهو بذلك ينحط بكفره الى العذاب المهين فى الآخرة،يقول جل وعلا : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا)(النساء37 )
2 / 3 : أن يصل تقديسه للمال الى درجة اعتقاده ان ماله سيهبه الخلد ، بمعنى أن ينسى الموت ، ويظل محموما بجمع المال وكنزه ،إلى أن يستيقظ عند الاحتضار فيطلب فرصة أخرى بعد أن تبين له أنه أضاع عمره فى تحصيل شىء لا بد أن يتركه لغيره ، يقول جل وعلا محذرا المؤمنين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )(المنافقون 9 ـ ). وفى هذا الصنف عابد المال أنزل الله جل وعلا سورة كاملة يتوعده فيها، هى سورة الهمزة :(وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ ).
ثالثا : أنواع عبادة المال :
1 ـ البخل السلبى : وهو عبادة سلبية فردية ، هنا فرد يقدّس المال ، فيكنزه ولا يتصدق منه. ومصيره أن يتعذب بماله فى الدنيا (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )(وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)(التوبة 55 ،85 )،وان يتعذّب به فى الآخرة : (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)( آل عمران 180) (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) ( التوبة 34 ـ ) .
2 ـ عبادة نشطة معتدية على الناس : مثل ذلك البخيل الذى يأمر الناس بالبخل : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا)(النساء37 ). أو ذلك الذى يتسلط على الناس يسلبهم أموالهم علنا أو ضمنا ورسميا بالضرائب المجحفة ، أو سلب المال ضمنا برفع الدولة للاسعار بلا استحقاق ، وبالتطفيف فى الكيل والموازين، ولنتذكر هنا سورة ( المطففين )( وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ).وإذا كان هذا على مجرد التطفيف فى الميزان فكيف بمصادرة الأموال و الممتلكات ، وهى عادة سيئة للمستبد العربى والمسلم ، أدمنها منذ العصر الأموى ..ولا يزال ؟
3 ـ كل هذا شنيع وفظيع ، ولكن الأشنع أن تفعل ذلك باسم الله منتحلا دينه ،أى أن تسرق باسم الله ، وتحلف كذبا فى البيع لتخدع المشترى ، وفى النهاية أن تصل الى الحكم مستغلا إسم الله ، وعندها تحتكر لنفسك السلطة والثروة وتمتلك الأرض ومن عليها . هنا تكون عبادة المال تعديا على الناس وعلى رب الناس. وهذه حرفة الملاعين الذين يكتمون الحق الذى بيّنه رب العزة فى القرآن الكريم الكتاب المبين :(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )(البقرة 159 : 160 )،ومنهم الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا، وسيتعجب ربّ العزة من صبرهم على النار(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ )(البقرة 174 : 175 ). وهناك فرق بين هذه السرقة باستغلال الدين ، والسرقة العادية ( العلمانية ) التى لا تستغل الدين ولكن تستغل النفوذ السياسى والصلة بالحاكم ، وهذا منهى عنه فى قوله جل وعلا : (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة 188 ).
أخيرا : صلة ذلك بالحلف باسم الله تعالى كذبا :
1 ـ لم نبتعد عن موضوعنا الأصلى ، وهو حلف المشركين كذبا بالله جل وعلا . قمنا فقط برصد تطورات هذا الحلف التى تصل الى استغلال الحلف بالله جل وعلا وإسمه ودينه فى السياسة للوصول الى التحكم فى الثروة والسلطة، وعرضنا لجذور ذلك ، وهو الكفر وكفران النعمة وعبادة المال. ونرجع الى البداية البسيطة ، وهى الحلف بالله جل وعلا وارتباطها بالكفر وتكذيب القرآن وعبادة المال . وهنا نستعرض سورة القلم ، وهى من أوائل التنزيل .
2 ـ بنظرة سريعة نجد السورة الكريمة فى بدايتها وفى نهايتها وفى وسطها تركز على القرآن الكريم ، وموقف الملأ القرشى (الرأسمالى ) منه ومن خاتم النبيين .
3 ـ فى البداية يقول جل وعلا (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) ( القلم 1 : 7).هنا القسم بالقلم وبما يسطره القلم ، والمستفاد منه ان رب العزة يخاطب قوما يكتبون ويعرفون القلم ، وبالتالى فإن وصف العرب بالأمية لا يعنى الجهل بالقراءة والكتابة، بل لأنهم لم يأتهم كتاب سماوى منذ عهد اسماعيل عليه السلام ، مقابل (أهل الكتاب )( آل عمران 20 ، 75 ). وحين جاءهم خاتم النبيين بالقرآن اتهموه بالجنون ، فأقسم رب العزة لرسوله إنه بنعمة ربه ـ أى القرآن ـ ليس مجنونا ، بل هو على (خلق ) أى ( دين ) عظيم ، وهو القرآن الكريم . واتهموه عليه السلام بالضلال بسبب نزول القرآن عليه ، وردّ رب العزة على ذلك فى مفتتح سورة ( النجم ) ، وردّ هنا أيضا فى سورة القلم:( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَييِّكُمُ الْمَفْتُونُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )..
4 ـ وفى وسط السورة نقاش مع الملأ القرشى (البرجوازى الرأسمالى ) فى تكذيبه للقرآن ، جاء فيه قوله جل وعلا لهم مهددا: (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ )( القلم 44 : 47 )،مع نصائح للنبى بالصبر،الى أن يقول جل وعلا فى خاتمة السورة يصف كراهية الملأ القرشى للنبى عند سماعهم تلاوة القرآن :(وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ).
5 ـ نترك بداية السورة ووسطها ونهايتها لنتوقف مع الآيات الكريمة التى تربط الحلف بالله جل وعلا بتكذيب القرآن وعبادة المال. يقول جل وعلا:( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) أى المكذبين للقرآن الكريم ، أى نهى للنبى عن طاعة المكذبين للقرآن . والنهى يعنى أن شيئا وقع وجاء النهى عنه . وهذا أمر خطير أن يقع النبى فى طاعة الكفار ( وقد تكرر هذا النهى فى سورة الاحزاب 1 ، 48 والكهف 28 ). والحقيقة إن مكرهم بالنبى كان شديدا ، فقد وزعوا بينهم الأدوار . منهم من يجهر باتهام النبى بالجنون ، وسبق فى بداية السورة دفاع رب العزة عنه ، ومنهم من يداهنه وينافقه خداعا ، وينتظرون منه أن يستجيب لهم بالمثل ،أى أن يداهنهم كما يداهنونه:( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).وهذا المداهن هو خبير بالخداع وفى إقناع الناس بالباطل ، وفى حالة رجل مؤمن مستقيم سليم القلب فالطريقة المثلى أن ينفذ الى قلبه بالقسم والحلف بالله جل وعلا.وهنا يتكرر النهى عن طاعة ذلك الذى أدمن واحترف الحلف كذبا بالله جل وعلا أو بالتعبير القرآنى (حلاّف )، يقول ربى جل وعلا :( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ ). وتتوالى صفاته السيئة المشينة :(هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ ) وهذا يذكرنا بالبخيل الهمزة اللمزة الذى جمع مالا وعده يحسب أن ماله أخلده. وهذا البخيل هو منّاع للخير يمسك يده عن الصدقة مع تسلطه على الغير بالعدوان:(مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ )، ثم يوضح رب العزة أن هذا الحلاف المهين يكذب بالقرآن لأنه صاحب مال وجاه،ويخشى على ماله وجاهه من الاصلاح الذى نزل به القرآن الكريم ، يقول جل وعلا :( أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ) ثم يشير رب العزة الى جانب من تعذيبه وإهانته يوم القيامة فيقول :( سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ).
ثم يضرب رب العزة لهم مثلا بجماعة ورثوا، وطمعوا فى احتكار ثمرها لأنفسهم ، فأقسموا بالله جل وعلا أن يحرموا من ثمارها المساكين الذين اعتاد أبوهم أن يتصدق عليهم من ثمر الحديقة. فاتفقوا على أن يتسللوا مبكرا لجنى ثمارها قبل أن يأتى المساكين لأخذ صدقاتهم . وذهبوا عازمين فوجدوا حديقتهم قد تدمرت . فندموا ، والله جل وعلا يتوعدهم بعذاب آخر يوم القيامة . يقول جل وعلا عن القرشيين الكفرة:( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) ثم يقصّ قصة أصحاب الجنة: ( إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَن لّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَن يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِّنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ( القلم 8 : 33 ). نحن هنا أمام أناس يعرفون الله جل وعلا ويسبحونه ، ويعترفون بالخطأ ، ولكنهم وقعوا فى تقديس المال ، فأقسموا على منع الخير أو حجب حق النعمة أو كفران النعمة . فهنا ( قسم بالله ) على فعل معصية ، وسببه البخل وكفران بالنعمة. وجاءت القصة تحذيرا لمشركى قريش المكذبين للقرآن ، وزعيمهم الحلاّف المهين صاحب المال والبنين ..
أليس فى هذا عبرة لمن يخشى ؟