عندما تقرأ تفاسير القرآن فإنك لا تقرأ كلام الله , بل تقرأ آراء المفسرين وهي رهن بالمستوى المعرفي للمفسِّر ومدى رجاحة عقله,وهي أمور قد لا تسمح باقتناص المعاني الحقيقية للقرآن,فما توفر دائما للمفسر العلمُ ورجاحةُ العقل ولا سيما في العصور الخوالي التي سادها ظلام التخلف , ولم تسلم أمة من الأمم من الجهالة عبر تاريخها. وتبايُن التفاسير لا يقدح في ثبات النص وقدسيته ,إنما يعني اختلاف العقول المنتجة لها كما أسلفنا . ولا يُلام المفسرون إن أخطأوا ,فقد كان عليهم الاجتهاد فاجتهدوا,ولكن ليس علينا التسليم بما انتهوا إليه .ولا يمكن اقتناص معاني النص مالم تبحث عنها ,فهي لن تسقط عليك كتفاحة نيوتن ,بل هي كالكنز المدفون عليك أن تنبش الأرض كي تحصل عليه .وعليه ,جاء في القرآن الكريم ما فهمه البعض بأنه حض على ضرب المرأة { وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً }النساء34 .ولما كانت معاني الفاظ القرآن تُستخلص من القرآن نفسه , فبتتبع معاني كلمة (ضرب) في المصحف وفي صحيح لغة العرب , نرى أنها تعني في غالبها المفارقة والمباعدة والانفصال والتجاهل,خلافا للمعنى المتداول الآن لكلمة (ضرب ) ,فمثلا الضرب على الوجه يستخدم له لفظ (لطم) ,والضرب على القفا(صفع) والضرب بقبضة اليد (وكز),والضرب بالقدم (ركل) . وفي المعاجم : ضرب الدهر بين القوم أي فرّق وباعد ,وضرب عليه الحصار أي عزله عن محيطه . وضرب عنقه أي فصلها عن جسده . فالضرب إذن يفيد المباعدة والانفصال والتجاهل .
والعرب تعرف أن زيادة (الألف)على بعض الأفعال تؤدي إلى تضاد المعني :نحو (ترِب)إذا افتقر و(أترب )إذا استغنى ,ومثل ذلك (أضرب )في المكان أي أقام ولم يبرح (عكس المباعدة والسياحة في الأرض). اسمع معي :( وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَّا تَخَافُ دَرَكاً وَلَا تَخْشَى )طه 77 ,أي افرق لهم بين الماء طريقا. (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) (الشعراء 63-67, ,أي باعد بين جانبي الماء.والله يقول (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ) أي مباعدة وسفر, { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ }المزمل20,{ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ }الحديد13,أي فصل بينهم بسور.وضرب به عُرض الحائط أي أهمله وأعرض عنه احتقارا.وذلك المعني الأخير هو المقصود في الآية المظنون أنها حض على ضرب الزوجة(فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ) والآية تحض على الهجر في المضجع والاعتزال في الفراش ,أي لا يجمع بين الزوجين فراش واحد وليس كناية عن عدم ممارسة العلاقة الزوجية كما فهم البعض ,وإن لم يجدِ ذلك فهو (الضرب )بمعنى المباعدة والهجران والتجاهل , وهو أمر يأخذ به العقلاء من غير المسلمين. ولاستكمال البحث نلفت النظر إلى بعض موضع جاءت فيه كلمة (ضرب) قريبة مما ألفناه من معنى الضرب , وهو في وصف لضرب الملائكة لأهل النار ,وهو أمر غيبي يحدث في عالم الغيب ولا نقف على كيفية حدوثه فكل ما يحدث في غيب يوم الحساب إنما ورد في القرآن عل نحو تمثيلي (ولا خطر على قلب بشر) , (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ }الأنفال50, {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ }محمد27. وقانا الله شر أن نكون من شهود ضرب الملائكة ,آمين .
المراجع:لسان العرب –ابن منظور
المعجم الوسيط
الصاحبي في فقه اللغة –ابن زكريا
من كتاب المسكوت عنه في الإسلام – لنبيل هلال هلال