القاموس القرآنى : الحلف بالله جل وعلا : (1 ) فى الاسلام

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٠٣ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة : طبقا للشريعة السّنية السلفية فالحاكم المستبد هو الذى يحكم باسم الله زورا وبهتانا ولذا فله أن يتحكم فى الناس فى مجالات العقيدة والعبادات والمعاملات فيما بينهم ، أى إكراه الناس فى الدين . وهذا منهى عنه فى الاسلام وشريعته، وفى أكثر من ألف آية قرآنية تأكدت حرية الرأى والفكر والعقيدة والدين فى العقائد والعبادات . وخلافا للدين السّنى وشريعته فإن معظم تطبيق الشريعة الاسلامية ينصبّ فى العقائد والعبادات ـ أى حقوق الله جلّ وعلا ، وهو شأن فردى ، لا يجوز للمجتمع أو السلطة السياسية التدخل فيه . السلطة السياسية فى الدولة الاسلامية مجالها محدود فى تطبيق الشريعة الاسلامية الحقيقية،وهوفيما يخص حقوق الأفراد والمجتمع ، مثل عقوبات القتل والسرقة و القذف للمحصنات والارهاب ـ اى قطع الطريق . والتطبيق هنا يخضع لعوامل أساس هى العدل وكفالة الحقوق وإسقاط العقوبة عند التوبة . وسيأتى التفصيل فى كتاب لنا قادم عن تطبيق الشريعة الاسلامية ، ولكن نتوقف هنا مع مثال بسيط للتطبيق الفردى للشريعة الاسلامية الحقيقية، وهو الحلف بالله جل وعلا.

أولا : حكم الحلف بالله جل وعلا بالنسبة للمؤمن المسلم  

 1 ـ المؤمن الحق هو الذى يخشع قلبه عند ذكر إسم الله جل وعلا:(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) ( الأنفال 2 )، وبالتالى فهو لا يستخدم إسم الله فى الحلف به فى كل صغيرة أو كبيرة ، لذا يقول جل وعلا فى سورة البقرة:(وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )( البقرة 224 )هنا نهى عن إدمان الحلف بالله جل وعلا.

2 ـ إدمان الحلف بالله جل وعلا عادة سيئة تسود فى المجتمعات التى يسيطر عليها النفاق الاجتماعى وتتحكم فيها ثقافة الأديان الأرضية ، إذ تجد الناس يقسمون باسم الله جل وعلا فى الصغيرة والكبيرة ، فى الحق وفى الباطل ، بل فى الباطل  أكثر حيث يشيع استخدام الحلف بالله وسيلة للتجارة بالدين وتحقيق الطموحات السياسية والحطام الدنيوى ، ويكون (الزعيم ) هو من يتطرف ويدمن ( الزعم ) أو الادعاء بالباطل ، وهو أكثرهم  مهارة فى سبك الباطل حيث يؤكده بالحلف بالله جل وعلا، أى يستخدم إسم الله جل وعلا فى خدمة طموحه السياسى. ويعتلى هذا ( الحلاّف المهين ) ظهر المجتمع متحكما فيه ، ولكى يستمر سلطانه فهو يصدّ عن الحق مكذّبا به ساخرا بكلام رب العزّة ، حتى لو كان قائل الحق رسولا كريما فى قامة خاتم النبيين محمد عليه السلام . والله جل وعلا فى بداية ما نزل من القرآن الكريم نهى رسوله الكريم عن طاعة هذا الحلاف المهين ووصفه بأسوأ مساوىء البشر،يقول جل وعلا : ( فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)(القلم 8 ـ ). وتنتهى مصداقية الحلف بالله بشيوع الحلف باسم الله فى المجتمعات والدول التى يستبد بأمورها ( الزعماء ) من السياسيين ورجال الدين الأرضى المتخصصين فى التكذيب بآيات الله والافتراء عليه جل وعلا كذبا ،ولا تصبح له  قيمة أو تأثير حيث تعود الناس الكذب ، وتعودوا تسويغ الكذب باستعمال إسم الله جل وعلا.

3 ـ وهنا يأتى النهى من البداية تحريم جعل إسم الله عرضة للحلف والأيمان: (وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ )، أى لايكون الحلف والقسم باسم الله إلا فى الأمور الخطيرة والهامة حتى يكون لاسم الله جل وعلا قدسيته وحتى يكون لاستعماله فى الحلف والقسم هيبته ومصداقيته ، وحتى يتم تأسيس العلاقات بين الأفراد على الثقة المتبادلة والاصلاح وليس الفساد ، وهذا معنى قوله جل وعلا:(أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ).  ولأن التطبيق لهذا النهى هو شأن خاص بين الفرد وربه جل وعلا فإن الله هو الذى يتولى حساب الفرد والناس ، لذا يأتى ختم الآية بقوله جل وعلا : (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ). والمتقى هو الذى يؤمن بأن الله جل وعلا رقيب عليه يسمع ويعلم أفعاله وحركاته.

4 ـ وتأتى الآية التالية لتعطى الحكم فى الحلف بالله جل وعلا:( لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ )(البقرة :225 ). فالأيمان قسمان ، قسم يأتى بلا قصد وبلا تعمد، أو يمين اللغو ، وهذا يعفو الله جل وعلا عنه طبقا للقاعدة القرآنية فى عدم المؤاخذة عند النسيان والخطأ غير المقصود وعند الاكراه :( لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ )،ولكن يؤاخذنا باليمين المتعمد الذى يعيه القلب:(وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ).ولأن التعامل هنا مباشر بين الفرد وربه جل وعلا فإن المؤمن يعلم إن الله غفور حليم ، أى عليه أن يسارع بالتوبة لو حنث فى يمين تعمد فيه الحلف بالله جل وعلا. وواضح هنا أن التطبيق البشرى لهذا التشريع داخل فى النطاق ( القلبى ) للفرد فى علاقته مع ربه جل وعلا بلا واسطة، فالفرد هو الذى يتحكم فى لسانه ، وهو الذى يحدد بينه وبين نفسه ما هو اللغو وما هو اليمين المتعمد ، وبالتالى هو الذى يقرر بينه وبين نفسه أن يتوب أو أن يحترف الخداع باسم الله عزوجل. لا مجال هنا لسلطة بشرية فى تطبيق هذا الشرع على الفرد .

5 ـ كان هذا فى سورة البقرة ، وهى من أوائل ما نزل فى المدينة . بعدها فى أواخر ما نزل من القرآن جاءت تفصيلات فى موضوع الحلف أو القسم بالله ، يقول جل وعلا فى سورة المائدة :( لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ) وهو تأكيد على ما جاء من قبل فى سورة البقرة . ولكن الجديد هنا هو الإتيان بحكم لذلك الذى عقد بقلبه يمينا قاله متعمدا ثم حنث فيه ، ماذا عليه ؟ الجواب أن يدفع كفّارة تكون دليلا على توبته. و(الكفّارة ) من ( كفر ) أى (غطى ) وهو نفس معنى (غفر ) أى غطى ايضا ، وبالتالى فإن هذه الكفارة ستغطى يوم الحساب على سيئة الحنث فى اليمين. يقول جل وعلا :( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(المائدة 98 ).فالكفارة هى إطعام عشرة مساكين من نفس نوعية الطعام المعتاد لأهله ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ـ لو كان هناك رقيق ـ وعند عدم الاستطاعة فصيام ثلاثة أيام،. ثم يأمرنا رب العزة بأن نحافظ على أيماننا ،أى لا نحنث بها،ولا نلغو بها ولا نتخذ اسم الله عرضة لأيماننا.

6 ـ ويختم رب العزة الآية بالتنويه على البيان القرآنى ، أو تبيين الله جل وعلا لنا أحكامه فى القرآن حتى نشكره جل وعلا:( كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ). فبيان القرآن داخل القرآن الذى يفسّر بعضه بعضا ويفصّل بعضه بعضا ويبين بعضه بعضا ، وهذا تكرر كثيرا فى القرآن،والله جل وعلا هو الذى أكّد أن  عليه مسئولية البيان:(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ)(القيامة 19 ). فبيان القرآن هو من الله جل وعلا الذى أنزل القرآن وجعله كتابا مبينا ، وسمّى آياته بينات ، وليس بيان القرآن خارجا عنه من مصدر بشرى،كما يزعم أرباب الدين السّنى الذين يؤمنون بأن الله جل وعلا أنزل كتابا غامضا مبهما محتاجا للبشر فى تفسيره ومحتاجا لأقوالهم والى سنتهم المخبولة فى بيانه.

ثانيا : لمحة عامة عن الحلف عند المشركين 

1 ـ من ملامح الشرك تقديس البشر من أولياء وأئمة ، ومن ملامح تقديس البشر لآلهتهم وأوليائهم وأئمتهم الحلف بأسمائهم كما يحلف المؤمن المسلم باسم الله ربه جل وعلا. ويلاحظ مما سبق أنه لم يرد حكم شرعى لمن يحلف بالآلهة والأولياء لأن هذا خارج نطاق الاسلام، فأحكام الاسلام خاصة بمن يؤمن به قلبيا فلا يقسم إلا بالله ولا يتوسّل إلا به جل وعلا. أما المشرك الذى يقسم بآلهته وأوليائه فلا فائدة من التشريع له لأن علاقته بالاسلام والتقوى مقطوعة فى الأساس. والمعهود أن المشرك حين يتوسل بالضريح أو القبر المقدس يكون حاضر الذهن خاشعا متبتلا ، أما عندما يصلى لله فذهنه مشغول بكل شىء سوى الخشوع لله جل وعلا. ونفس الحال فى الحلف بالله جل وعلا ، فهو يستسهل الحلف بالله لغوا وعرضا وفى الصغيرة والكبيرة ، أما عندما يقسم بالولى الذى يقدسه فهو يخشى من غضبه فلا يقسم به إلا صادقا خاشعا .

2 ـ والمشرك عندما يقسم بالله جل وعلا وهو جاد وواع بما يقول فلا يفعل ذلك عن خشوع وتقوى، بل يهدف للتلاعب وتحقيق غرض دنيوى يتنوع حسب وضعه: فإن كان مستضعفا خائفا فهو يحلف باسم الله كذبا ليغطى على خطأ وقع فيه يستحق المساءلة ، أو ليبرر تقاعسه عن واجب . وهذا ما إعتاده المنافقون فى المدينة . وإن كان المشرك صاحب جاه أو سلطان فليس محتاجا فى الأصل للحلف بالله ليقنع غيره بشىء، فمعه الجاه والسلطان .وفى الدولة الدينية المعتدية ـ  أوالتى يسيطر عليها المشركون المعتدون ـ تراهم يستسهلون نقض العهود والمواثيق التى تم توثيقها باسم الله جل وعلا . وقد يكون هذا المشرك أو أولئك المشركون خارج السلطة ولكن يسعون لامتلاك الجاه والسلطان ، وعندها يقومون باستغلال اسم الله جل وعلا ، يخدعون به الناس ليركبوا ظهورهم باسم دين الله ، وهو براء منهم.

3 ـ وهذا الخلط بين الدين ( الأرضى ) والطموح السياسى رذيلة سادت فى العصور الوسطى فى الشرق والغرب ، وفى أوربا وبلاد المسلمين ، ثم تحررت منها أوربا البرجوازية ولعنتها الشيوعية التى اعتبرت الدين ( الأرضى ) أفيون الشعوب . وكان المسلمون على وشك اللحاق بالعلمانية الغربية التى تتفق مع الاسلام ، فتمنع استغلال الدين فى السياسة و تجعل الهداية والضلال فى الدين شأنا فرديا شخصيا وعلاقة خاصة بين الفرد وربه ، ولا تجعل من أهداف الدولة إدخال الناس الى الجنة لأن من اهتدى فقد اهتدى لنفسه ومن ضلّ فإنما يضل على نفسه. ولكن المسلمين مالبث أن عادوا الى التخلف واستخدام اسم الله جل وعلا فى السياسة، وقام بهذا الوزرالوهابيون السعوديون واستمر عليه السلفيون والاخوان المسلمون .

4 ـ وتفاصيل أخرى فى الحلقة القادمة .

اجمالي القراءات 42676