ولاتكرهوا فتياتكم على البغاءإن أردن تحصناً

سامر إسلامبولي في الإثنين ١٥ - يناير - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

[ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً ]النور 33

إن مفتاح دراسة هذا النص يكون من خلال شرح المفردات التي قام عليها النص وهي: الفتاة ، البغاء ، التحصن .

إن كلمة ( فتيات ) في النص من كلمة ( فتى ) التي تدل حسب دلالة أصوات أحرفها بهذا الترتيب على فتح خفيف, ودفع خفيف منته بامتداد واستقامة على ذلك, وفي الواقع تدل على نشاط الإنسان في الحياة الاجتماعية من حيث الضعف والفتور, وعدم امتلاك القدرة والإرادة على اتخاذ القرار, والعيش على هذا النمط من الحياة التابعة لإنسان آخر قوي يملك الإرادة والقدرة . قال تعالى : [ وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه ] يوسف 30 وقال : [ وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها ... ] يوسف 62 وقال : [ فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً ] الكهف 62

فالفتى هو الإنسان التابع لآخر في الحياة الاجتماعية والمسؤولية ، يعيش ضمن دائرة لا يملك فيها القرار والإرادة نحو الخدم والمستخدمين بصورة عامة . فهم من طبقة اجتماعية متدنية على صعيد العلم أو الثقافة أو الاقتصاد, لذا لا يصح إطلاق كلمة ( فتى أو فتاة ) على الأبناء أبداً ، لأن مصطلح ( الفتيات ) يطلق على النساء المتدنيات اجتماعياً مثل الإماء أو الخدم أو العاملات وما شابه ذلك ، وينبغي التنبه لهذا الفرق الاصطلاحي لما يترتب عليه من أحكام مختلفة بين النساء ذوات المقام الاجتماعي الرفيع والوسط ، والنساء ذات المقام الضعيف اجتماعياً . قال تعالى :

[ يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ]الأحزاب 32 ونساء النبي هن من المقام الاجتماعي الرفيع المستوى ، لذلك نجد لهن أحكاماً خاصة بهن . وكذلك نساء المؤمنين عامة فهن ذوات مقام اجتماعي وسط قال تعالى : [ يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين]الأحزاب 59 لاحظ لم يأت في النص ذكر ( الفتيات ) لأن الحكم لا يتناولهن ، وإنما هو خاص لسيدات المجتمع الرفيعة المستوى ( نساء القادة والعلماء وكبار القوم ) والنساء الحرائر عامة اللاتي يملكن القدرة والإرادة والاستقلال في اتخاذ القرار .

لذلك فرق الشارع بين المقامات الثلاثة للنساء في الأحكام والعقوبات ,نحو عقوبة الضعفين لنساء النبي إذا مارسن الفاحشة [ من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين ] الأحزاب 30 وعقوبة الوسط للنساء عامة [الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ] النور 2 ونصف عقوبة للفتيات ومن هن بمقامهن إذا أُحْصِنَّ [ تزوجن ] [ فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب]النساء 25 وإذا لم تكن الفتيات متزوجات [محصنات] فتكون عقوبتهن وفق مقصد الشارع ، وتشريع العقوبات نصف ما على الفتيات المحصنات ، أي ربع العقوبة الأساسية التي هي مائة جلدة ، ما ينبغي تجاوزها, وهي من باب التأديب والردع ليس أكثر . أما كلمة ( البغاء ) فهي من كلمة ( بغى ) التي تدل حسب دلالة أصوات أحرفها وفق هذا الترتيب على : جمع متوقف غائب منته بامتداد واستقامة . وفي واقع الحال تدل على جمع إرادة الإنسان في نفسه على شيء معين والاتجاه نحوه عملاً ,ومن هذا الوجه تم تفسير كلمة ( بغى ) بمعنى قصد وطلب ، وذلك من باب تفسير الشيء بمآله . ولكن يوجد فرق بين : أراد وبغى وقصد وطلب ... الخ فالابتغاء هو إرادة مجتمعة موجهة نحو الطلب بقصد العمل ، فهي من هذا الوجه أعم من الإرادة والقصد والطلب لأنها تدل عليهم كلهم مجتمعين . قال تعالى :[ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ] البقرة 173 أي لم يرد ذلك ولم يطلبه ولم يقصد فعله قال تعالى : [ أفغير الله ابتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا] الأنعام 114 وقال : [ يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم ] يونس 23 إذاً كلمة ( بغي ) لا تدل بالضرورة على الفحش ، وإنما تدل على مجرد الإرادة المقترنة بالطلب والقصد والعمل وكذلك قوله تعالى [ فقاتلوا التي تبغي ]الحجرات9 أي قاتلوا التي تريد القتال وتطلبه وتقصده وتعمله .

فالفئة الباغية هي الفئة البادئة بالعدوان والهجوم وتريد الهلاك والأذى للآخرين. والمرأة الباغية هي المرأة التي تريد وتطلب وتقصد العمل سواء أكان عملاً شريفاً أم فاحشة وسوءاً.

قال تعالى :[قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسني بشر ولم أك بغيا] مريم 20

فقولها [ لم يمسني بشر ] يشمل المس بصورة شرعية أو غير شرعية في الوقت الحالي فيكون قولها [ ولم أك بغيا ] ضرورة يدل على غير الفاحشة ، وإلا اقتضى التكرار للمعنى ، وذلك مخل في إحكام النص القرآني المنزه عن اللغو والحشو . مما يؤكد أن دلالة كلمة [ بغياً ] أي امرأة عاملة ومستخدمة ومتدنية في المجتمع ، وبالتالي هي مظنة للاتهام إذا حملت دون زوج ، وذلك لامتهانها وضعفها اجتماعياً ومحل طمع لمن في قلبه مرض من أفراد المجتمع . فتتساءل السيدة مريم عليها السلام كيف يكون لي غلام وأنا امرأة نزيهة غير متزوجة ولم أمارس الفحشاء ، ولست امرأة متدنية اجتماعياً ومستخدمة لأحد . قال تعالى : [ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق ] الأعراف 33 انظر لكلمة (البغي بغير الحق ) كيف أفردت لوحدها بعد الفواحش مما يدل على انفرادها بدلالة غير الفاحشة . وانظر أيضاً لكلمة ( بغير الحق ) بعد كلمة ( البغي ) فذلك يدل على وجود بغي بحق ، وبغي دون حق ضرورة , وإلا اقتضى الحشو واللغو للنص القرآني !! والبغي بحق هو الإرادة والقصد والطلب والعمل والابتداء لنصرة الحق والعدل ! .

قال تعالى : [ وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ... ] النحل 90

لاحظ انفراد كلمة ( البغي ) بعد الفاحشة والمنكر ,مما يؤكد ما ذكرت آنفاً من أن دلالتها الإرادة والقصد والطلب والعمل ابتداء ، فإذا جاءت بصياغة النهي والذم , فيعني أنها العدوان على الآخرين, وهي من باب البغي بغير الحق .

أما كلمة [ التحصن ] فهي من الحصن التي تدل على الستر والمنع والحماية والحرز . ومن ذلك الباب سمي سور المدينة العالي حصناً لتحقق صفة الحماية والمناعة والستر للمدينة به .

وكلمة ( محصن ) في القرآن أتت على وجهين :

1-إحصان بواسطة العفة والأخلاق.

قال تعالى [ ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم ... ] النساء 25

2-إحصان بواسطة الزواج. لأن الزواج للمرأة والرجل منعة وحرز من الوقوع في الفاحشة . قال تعالى : [ حرمت عليكم أمهاتكم ..... ، والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ] النساء 24 وبعد معرفة المفاتيح الثلاثة للنص المعني بالدراسة ، نأتي الآن لمحاولة تشكيل فهم كلي لتمام النص بعد ذكره ضمن سياقه, وهي خطوة هامة في دراسة النصوص : قال تعالى : [.. والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم . ] النور 33

أول أمر ينبغي استحضاره واستصحابه أثناء دراسة النص هو : أن ممارسة الفحشاء حرام بين الناس عموماً لا علاقة لذلك باختلاف دين أو عرق ! كما أن السماح والرضى بالفاحشة ضمن دائرة مسؤولية الإنسان [ زوجة ,أخت, بنت, فتاة ] يحرم شرعاً . قال تعالى :

[ قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن .... ] الأعراف 33

[ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ] الأنعام 151

[ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ] النور 19 وهذا يؤكد أن كلمة ( البغاء ) في النص السابق لا تدل على الفاحشة أبداً ، والقول بأن النص لا مفهوم مخالفة له ، يدل على سماح ورضا المسؤول عن الفتاة بسلوكها إذا أرادت الفاحشة من تلقاء نفسها !! لأن المهم هو عدم الإكراه فقط !!! وكما ذكرت آنفا أن الشارع حَمَّل المسؤولية للإنسان الذي تجري الفحشاء ضمن سلطانه وإدارته, ولو لم يأمر بها لأنه يستطيع أن يمنعها ، وهو عمل مطلوب منه أن يفعله ليحافظ على أخلاق المجتمع ويمنع انتشار وشيوع الفاحشة فيه !!

فكلمة ( البغاء ) تدل على الإرادة والقصد وطلب العمل وممارسته . وكلمة ( التحصن ) في النص يقصد بها ( الزواج ) . وكلمة ( فتاة ) يقصد بها النساء المقطوعات اجتماعياً والضعفاء والمستخدمين الذين فقدوا الحماية الاجتماعية نتيجة كوارث طبيعية, أو حروب مدمرة ,أو غير ذلك,فلجَؤوا إلى أسر أخر,ودخلوا تحت حمايتها ومسؤوليتها, فصاروا تابعين لهم من حيث المطعم والملبس والمسكن والمسؤولية, فهؤلاء الفتيات إذا أردن التحصن بواسطة الزواج فما ينبغي على المسؤولين عنهن أن يكرهوهن على الاستمرار بالعمل ويمنعونهن عن الزواج من أجل إبقائهن يد عاملة رخيصة أو وسيلة لجلب المال دون تعب من المسؤولين, بحجة أن ذلك ثمن للمعروف الذي عملوه معهن سابقاً . لذلك أنهى الله عز وجل النص بقوله [ لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ] وهذا دليل على وقوع فعل الإكراه لهن مما يعني حصول البغاء في واقع الحال . وعند حصول ذلك فإن الله غفور رحيم إشارة إلى أن لا يستمر المؤمنون في فعل الإكراه للفتيات على العمل ، ويدعونهن للانطلاق بحياة جديدة ، وتأسيس أسرة ، وتشكيل حماية ومنعة لهن ، من خلال الزواج ، وبالتالي يتم معالجة مشكلة اجتماعية وترميم لبنة من لبنات المجتمع . هذا هو منطوق النص على الوجه الصواب . وبالتالي يصح أن يكون له مفهوم مخالفة وذلك بأن يقوم الرجال بإكراه الفتيات على العمل الشريف إذا لم ترد الزواج فعليها أن تكون إنسانة فاعلة في المجتمع . أما إذا أصرَّ الفقهاء على أن كلمة ( البغاء ) هي الفاحشة . وكلمة ( التحصن ) هي العفة . وكلمة ( الفتاة ) على النساء عموماً فإن النص يفقد صفة مفهوم المخالفة لانتفاء ورودها في واقع الحال من حيث أن الفتيات اللاتي لا يردن التحصن وبالتالي يردن الفاحشة فعلى الرجال أن يسكتوا ويرضوا عن ذلك العمل, وليسوا بحاجة لإكراه الفتيات على ذلك لأنهن يفعلن الفاحشة من تلقاء أنفسهن ، والنص بناء على هذا المفهوم يبرئ ذمة ومسؤولية الرجال عن هذا الفعل الذي جرى ضمن دائرتهم الاجتماعية ! وهذا مخالف للنصوص السابقة .

[إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم] النور19

********************************************************

اجمالي القراءات 25297