إن السارق إنسان ينتمي إلى المجتمع ، وبالتالي فالمجتمع مسؤول عنه . وإذا أراد المجتمع أن يردع أحد أفراده عن سلوك شائن ، يختار الأسلوب الرادع الزاجر المترافق مع العلاج النفسي لهذا الإنسان ، وما ينبغي أن يترتب على العقوبة التي مورست على الإنسان المريض عاهة تجعله عالة على المجتمع ، فيخلق المجتمع لنفسه مشكلة هو في غنى عنها ، لأن من واجب المجتمع أن يعتني بأفراده ، فكيف إذا كان الفرد الذي أصيب بعاهة نتيجة العقوبة ، متزوجاً وعنده أطفال وصار عاجزاً وكلّاً على المجتمع ، ولا يستطيع أن ينفق على أسرته أو يدير شؤونها !!.
فيكون المجتمع قد عالج مشكلة فردية بجلب مشكلة اجتماعية أكبر من الأولى ، وفجع الأسرة بمعيلها وجعلها أسرة مريضة وعالة على المجتمع سوف تكلفه الكثير من المسؤولية والمصروف ، وإذا أهملها المجتمع يكون قد حول المشكلة الفردية إلى مشكلة أسروية مع احتمال أن يصاب أفراد الأسرة بالمرض النفسي الذي يدفعها إلى الجناية فيما بعد ، فضلاً عن ظهور أفراد في المجتمع مبتورة الأيدي ، تكون وصمة عار على جبين هذا المجتمع !! فهل يعقل أن يأتي الشارع الحكيم بمثل هذه العقوبات البعيدة عن الرحمة والنظرة الإنسانية والاجتماعية ؟!.
قال تعالى : [ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم ] المائدة 38
فالنص ظاهر في أن دلالة كلمة ( قطع ) هي الجزاء والنكال من الله ، وليست هي ثواب ومكافأة ، ولكن لا ينفي ذلك وجود العلاج النفسي المترافق مع العقوبة . والسؤال المعروض هو ماذا تعني كلمة ( قطع ) ؟
قطع : كلمة تدل على قطع أو وقف شديد مع دفع وسط منته بعمق .
انظر إلى تلك الآيات :
1- [ أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل ] العنكبوت 29
2- [ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ... ] البقرة 27
3- [ ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ... ] التوبة 121
4- [ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ] محمد 22
5- [ ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون ] النمل 32
فكلمة ( قطع ) تدل على توقف الأمر ودفعه بصورة وسط نحو جهة معينة منتهية بعمق . ومن هذا الوجه أتى الاستخدام لكلمة ( قطع ) بمعنى المنع والانتهاء والإبرام نحو قولنا : نص قطعي الدلالة . أي لا يحتمل إلاَّ وجهة واحدة من المعنى ، فهو منتهي ومبرم عليها .
لذلك أتى وصف النساء اللاتي رأين يوسف بكلمة ( قطعن ) في قوله تعالى :
[ وقطّعن أيديهن ] بمعنى أنهن قمن باعتراض أيديهن بالسكين إلى درجة عميقة حيث أصابتهن بحرح ولم يبترن أيديهن
ولو كان المقصد من كلمة ( قطع ) فصل اليد بصورة كلية عن الساعد لاستخدم الشارع كلمة ( بتر ) التي تدل على جمع متوقف خفيف منته بتكرار تلك العملية .
قال تعالى [ إن شانئك هو الأبتر ] الكوثر
أو أتى استخدام كلمة ( بتك ) التي تدل على جمع متوقف بدفع خفيف منته بقطع أو ضغط خفيف .
قال تعالى : [ ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ] النساء 119
إذاً كلمة ( قطع ) لا تدل على عملية ( البتر ) لليد ، وإنما تدل على عملية المنع والتعطيل والتوقيف لفاعليتها ، والعقوبة موجهة إلى نفس الإنسان لا إلى يده الجارحة !! فتكون عقوبة هذا الإنسان بإيجاد صورة رادعة زاجرة مؤلمة نفسياً نحو السجن لمدة معينة ، أو اختراع جهاز الكتروني يوضع على اليد فيكف حركتها ونشاطها لمدة من الزمن ، أو توضع اليد بقالب من حديد يتم توقيف فاعليتها لفترة من الزمن ، أو ما شابه ذلك مما يراه المجتمع عقوبة زاجرة ورادعة ومؤلمة نفسياً لهذا الإنسان ، حيث يترتب على العقوبة قطع يد السارق من وجهين : الأول توقيف ومنع فاعلية اليد وظيفياً ، الثاني : جعل السارق يتألم نفسياً من خلال شعوره بالخزي والعار أمام أسرته والمجتمع . والنتيجة أن هذا الإنسان هو ابن المجتمع يجب احتضانه والاعتناء به ، لا بتر أحد أطرافه !!
*********************************