إذا أعدنا قراءة تاريخنا بحثا عن موقع حرية المسلم فيه سنندهش من غياب حريته وحقوقه . فقد عاش المسلمون في تناقض هائل بين دين يحدثهم عن مثاليات من الحق والعدل والحرية والمساواة , وواقع بائس مليء بالقهر والظلم بعد أن تم تفويض السلطة إلى الخليفة وغض الفقيه الطرف عن سوء استخدامها , ولم يدعُ الناس إلى تقييدها , ولم يطلب هو نفسه تقييدها . فالحرية تكشف عن الأخطاء التي يخفيها القهر
وكان مفهوم الحرية عند العرب هو عكس مفهوم الرق , فالحر هو غير الرقيق , والحرية في التراث العربي معناها أخلاقي وبعيد عن المفهوم السياسي . أما الحرية بمعنى حرية الاختيار والقول والعمل والانتقاد , فهي أمور لم يعرفها المسلم إذ حوصر منذ وقت مبكر وحرَمه الخليفة بسند فقهي من حرية اختيار الحاكم , أو الخروج عليه , أو حرية انتقاده .
وتفاوتت درجتا الحرية بين الحاكم والمحكوم , ففي الوقت الذي ضاقت فيه دائرة حرية الفرد في الدولة الإسلامية حيث انحصرت في المراوحة بين اختيار أن يجوع أو يظمأ , اتسعت دائرة حرية الخليفة حتى وسعت كل شيء : أموال الناس وأرواحهم , فللخليفة نهب ما في بيت المال , مثلما له الحق في ضرب عنق من يريد ولو بالظنة . وبهذا المعنى كان السلطان هو الحر الوحيد في السلطنة.
وكان المجتمع بأسره بمنزلة القاصر أو السفيه الذي يحق تقييد حريته أو سلبها بدعوى الحفاظ على مصالحه وحقوقه , وإذا كان القاصر يبلغ رشده بعد حين , فإن الشعوب الإسلامية بقيت دون سن الرشد طوال أربعة عشر قرنا , فالقصور والعجز هما قدرها المقدور الذي يفرضه كل من يحكم بلاد المسلمين .
وإذا كان بعض الفلاسفة يرون جواز"اتخاذ الاستبداد وسيلة مشروعة لحكم الأمم الهمجية طالما كان الإصلاح هو الغاية المقصودة من ذلك , وأن تحقيق هذه الغاية يبرر الوسيلة التى تتخذ في هذا السبيل" , فإنه لم يتحقق إصلاح لأمة تسلط عليها الاستبداد والمستبدون طوال أربعة عشر قرنا , وأبقيت في حالة - صحيح أنها لا يمكن وصفها بالهمجية - إلا أنها حالة مواتية لاستمرار الاستبداد إذ كانت ركائزها هي الجهل والأمية والامتثال لتضليل الفقيه "عميل الخليفة النبوي" الذي أخفى على الناس , أو ربما لم يعرف , أن شرور الاستبداد لا تزول من تلقاء نفسها , وإنما يجب مناهضتها عمدا , فمن قُتل دون ماله أو عرضه فهو شهيد , وإن كان ثمة أمر أوضح من أن يحتاج دليلا , فهو عدم جواز الامتثال لاستبداد السلطان طمعا في أن يزول من تلقاء نفسه دون أن ينهض الناس أنفسهم بمهمة تحرير أنفسهم بأنفسهم , فليست الحرية هبة من السلطان , ولكنها حق أصيل لا يجوز التهاون في طلبه وبذل الأنفس لنيله , إذ يفوز بالدر غائصه ويحوز الصيد قانصه .
وكانت علاقة الحاكم بالمحكوم علاقة إكراه يستغل فيها الخليفةُ الناسَ على نحو بشع , والقمع فيها يمثل أداة أساسية لتثبيت واقع الاستغلال على ما هو عليه , أي لإحكام قبضة الحاكم على قرني البقرة ليضمن الاستئثار بحليبها للأبد , فممارسة السلطة الباغية غير ممكنة دون القمع أو التضليل . وما من طاغية يقترف الشر المحض إلا ويسبقه بكلام عن الخير والعدل وطاعة الله . ومن حاز السلطة بسيفه حق له الاحتفاظ بها , ومن لم يحزها يحرَّم عليه التطلع إليها .
وانصرف جل اهتمام الناس إلى شخص "مَن" يحكمهم , ولم يشغلهم "كيف"يحكمهم . وحَكَمَ خلفاء حازوا كل السلطة شعبا مجردا من أي سلطة , فكان العسف والجور الذي ما جاءت الأديان إلا لتقويضهما. ولم يكن أمام المسلم غير الطاعة المطلقة والإذعان التام للخليفة فسيق إلى مصير لم يختره بنفسه ولم يصنعه أو يُردْه , وهي طاعة مذلة مهينة , ولكن الفقهاء صوروها للناس على أنها من طاعة الله , وما أكثر ما قالوا : لعل ما صُرف عنا أعظم مما ابتلينا به! وتعوّد المسلم المقهور الحرمان من الحرية بقوة الدين والسلطان , ولم يشعر بحاجته إليها إذ غابت عنه مدة أربعة عشر قرنا , حتى كانت في وجدانه من المستحيلات التي لا وجود لها إلا في الخيال كالعنقاء والخِل الوفي .
وسمعنا ونسمع عن "سيادة" القانون و"سيادة" الشعب و"سيادة" الدولة, وكلها "سيادات" بعيدة عن السيادة الفعلية التي حَكمت وسادت طوال تاريخنا , وهي سيادة الطبقة المالكة للسلطة . فسيادة القانون قد يراد بها سيادة الطبقة التي سنت القانون لصالحها . وسيادة الدولة يراد بها سيادة من جعلوا من أنفسهم الدولة (أنا الدولة والدولة أنا), وسيادة الشعب هي سيادة من سرقوا صلاحيات الشعب وأوهموه أنهم المنافحون عن مصالحه , في حين أنهم يسرقون باسم الشعب ويحكمون باسم الله . نبيل هلال