(كتب/كتاب ) فى القرآن الكريم (6 : 9): كتاب العمل والاتّباع عبر الزمن

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢١ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 أولا : حفظ العمل  يعنى حفظ الشخص بعد موته فى كتاب عمله ، وليس ما أنتجه عمله

1 ـ أثناء الطوفان رفض ابن نوح الركوب مع أبيه والمؤمنين ، ومات غريقا كافرا مع الكافرين ، وبعد انتهاء الطوفان دعا نوح ربه أن يغفر لابنه وأن يكون من أهله فجاء اللوم من رب العزة :(قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) (هود 46 ). لنتأمل الوصف الالهى لابن نوح (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ). تحوّل ابن نوح بعد موت جسده وفنائه الى (عمل غير صالح ). وقلنا إن العمل الذى يبذله الانسان فى سعيه فى الدنيا هو طاقة تخرج من جسده المادى الذى يتكون من مادة وطاقة ،أى أن هذه الطاقة أوذلك العمل يكون فى حياة الانسان جزءا منه ولكن انفصل عنه وتم حفظه فى كتاب عمله ، وبعد موت جسد الانسان لا يبقى معبرا عنه سوى عمله المحفوظ فى البرزخ مع نفسه، فاذا مات صالحا بشرته الملائكة بالفلاح وقفل كتاب أعماله فأصبح ذلك الشخص (عملا صالحا )،وإن مات خاسرا وقد بشرته ملائكة الموت بالعذاب وتم قفل كتاب أعماله أصبح ( عملا غير صالح ). وفى الحالتين إنتهى سعيه بموته،وأصبح عملا محفوظا لا مجال لأعمال أخرى تضاف اليه أو عليه. وهذا معنى الحفظ ، حفظ الشخص بعد موته فى كتاب أعماله ، وليس مجرد تصويره كما نفعل نحن فى حفظ ذكرياتنا فى صور فوتوغرافية وأفلام .

2ـ وهذا هو أيضا الفارق بين العمل أو السعى وما ينتجه العمل أو السعى . يتم حفظ عمل الميت فيصبح الميت عملا صالحا أو عملا سيئا ، ولكن قد يبقى منتج ( بفتح التاء ) السعى بعد موت صاحبه قائما يستغله آخرون بالخير أو بالشّر ، أى تكون المتابعة والاتّباع . فهل هذا الاتباع يعنى إنه إذا مات ابن آدم استمر عمله بالخير أو بالشر ببقاء منتج عمله ؟ وهل تظل مسئولية الميت قائمة بعد موته بالخير أو بالشّر طبقا لحديث كاذب آخر يفترى أنّ من سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها الى يوم القيامة ؟ .

نقول : لا . فلو ترك الميت مسجدا للصلاة فإن من يصلى فيه هو الذى ينال نتيجة صلاته بالقبول أو بالضياع حسب إخلاص قلبه أو نفاقه ، ولو أوقف أرضا زراعية تدر صدقة جارية فإن تلك الأرض وهى نتيجة سعيه والتى جعلها وقفا فى حياته لم تعد ملكا له بموته ، انتقلت ملكيتها والاشراف عليها لآخرين يقومون على استغلالها ، ولهم سعيهم فيما يخص تصرفهم بالخير أو بالشر فى هذه الصدقة الجارية . أى يصبح المنتج مقطوع الصلة بمن كان صاحبا له فى الدنيا بموت ذلك الصاحب وتحول الملكية والاشراف والاستغلال والمسئولية لآخرين مع وجود ذلك المنتج . يسرى هذا حتى على العقائد والكتابات فيها بالحق أو بالباطل . فالذى يكتب مؤلفات فى الضلال يصدّ عن سبيل الله يتم تسجيل سعيه فى حياته سواء كان كفرا أو تحريضا على الكفر. ثم يتم قفل كتاب أعماله ، ويبقى تأليفه فى كتبه ، فإذا قام على نشرها وترويجها آخرون من الدعاة والعلماء فإن سعيهم سيتم تسجيله فى كتاب أعمالهم ، ولا شأن للمؤلف الأصلى للكتاب بما فعله أتّباعه بعد موته لأن مسئولية المؤلف فى حياته فقط  فى تحريض أتباعه الذين عايشهم ، أما بعد موته وقفل كتاب أعماله فقد انتقلت مسئولية القيام على المنتج ( اى الكتاب المؤلف ـ بفتح اللام ) الى الدعاة بعد موت المؤلف ( بكسر اللام ).

3 ـ والعادة أن للبشر (عادة ) فى التقليد وإتّباع ما وجدوا عليه أسلافهم ، بل يجعلون من السلف أو السلفية عنوانا لدينهم كما تفعل فرق السلفية فى عصرنا البائس. فهل يتحمل أئمة الضلال وزر أتباعم اللاحقين عبر القرون ؟ يقول جل وعلا : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)(الطور 21 ). أى لو كنت مؤمنا صالحا عشت ومتّ على الايمان والصلاح ، وجاءت ذريتك مؤمنة صالحة فإنهم بإيمانهم وصلاحهم سيلحقون بك . والعكس صحيح ، فالذين كفروا واتبعتهم ذريتهم بالكفر والعصيان سيلحقون بآبائهم ليكون الجميع أخسر الخاسرين:(قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) ( الزمر 15 ). ولو مت مؤمنا تقيا وعاشت ذريتك على الكفر والعصيان فإن هذه الذرية ستكون عملا غير صالح مثل ابن نوح. وفى النهاية فكل من إتبع الحق ومات مؤمنا صالحا فسيكون مع الأنبياء وفى رفقتهم يوم القيامة :( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ) ( النساء 69 ). الفيصل  هو عمل الشخص وسعيه، وهو رهين بهذا السعى فى حياته الدنيا ، ولا شأن له بعد موته باستغلال الآخرين لمنتج سعيه . 

 ثانيا  ـ أمثلة قرآنية من قصص الأنبياء :

1 ـ إمتحن الله جل وعلا ابراهيم عليه السلام بابتلاءات هائلة فنجح فيها ، ومات وقد (وفّى ) أى أوفى عمله بأحسن ما يكون ،فقال عنه ربه جل وعلا فى القرآن بعد موت ابراهيم بقرون طويلة:( وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) ( النجم 37 ). ولكن هل (عمل ) ابراهيم الذى (وفّاه ) بقى بعد موته لتنتفع به ذريته ؟ الجواب لا . ابراهيم نفسه طلب ذلك ورفض رب العزة ، فبعد أن أتمّ ابراهيم النجاح فى كل الاختبارات التى تعرض لها كوفىء على سعيه بأن جعله الله جل وعلا إماما للناس ، فطمع أن تكون هذه المنزلة لذريته فجاء الرفض الالهى أن الله جل وعلا لا يعطى عهده للظالمين:(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة124)،أى يعطى الله جل وعلا عهده للمؤمنين الصالحين ، أى هو بالعمل وبالسعى ، فالورثة لا بد أن يعملوا صالحا ليكونوا مع الصالحين من آبائهم:(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)(الطور21 ) عمل الآباء لا ينفع الذرية فى الآخرة ، وعمل الآباء ينقطع بموتهم ويتعين على الذرية ان تعمل لنفسها ، وكل نفس لها حرية الاختيار وهى بما كسبت رهينة:( لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)(المدثر38 ) .

2 ـ سعى ابراهيم كان لنفسه،وحين شاركه ابنه اسماعيل بعض السعى كان لاسماعيل سعيه ، يقول  جل وعلا عنهما :( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(البقرة 127 ). عملهما من حيث الظاهر المادى رفع قواعد البيت ، ومن حيث القلب ومشاعر النفس هو إخلاص ودعاء لأن يتقبل الله جل وعلا عملهما . أما منتج العمل وهو (الكعبة ) فهو شىء آخر ، بعد تطهيرها من الأصنام بيد ابراهيم واسماعيل، وبعد موتهما ما لبث أن زحفت الأصنام نحو الكعبة ، بل تحولت الكعبة نفسها الى وثن مقدس فى قلوب الأجيال اللاحقة. ليس ابراهيم واسماعيل مسئولين عن هذا التحريف وذاك التخريف . المسئول هو من أساء التعامل مع ( الكعبة )،(منتج العمل). فى حياته وعند الاحتضار كان ابراهيم يوصى أبناءه بالاسلام ، وهكذا فعل حفيده يعقوب عند موته:( وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)( البقرة 132 ـ ). هذا هو السعى ، وبهذا يختم المؤمن سعيه، أما نتيجة أو منتج السعى فتتعلق بمن قام بسعى آخر يتم تسجيله فى كتاب أعماله ، أى قد يظل المنتج بعد موت صاحبه وبعد اكتمال سعيه ، ويتحمل اللاحقون نتيجة سعيهم بالخير أو بالشّر فى تعاملهم مع المنتج .والله جل وعلا بعد أن قصّ لمحات عن   بعض الأنبياء قال:(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) ثم قال عن الخلف اللاحقين :(فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ) ( مريم 58 : 61 ). تحمّل الأئمة المرسلون عملهم ، وتحمل الخلف عملهم ، وكل إمرىء بما كسب رهين .

3ـ المنتج من عمل ابراهيم كان خيرا ( وهو بناء الكعبة ) فتحول المنتج الى وثن أو ساحة للأوثان بفعل الأجيال اللاحقة أو (الخلف ) بفتح اللام . أحيانا يكون المنتج ضلالا ، ويتمسك به الخلف يشاركون أسلافهم نفس العمل ، يكررون نفس الضلال متمسكين به ، وتلك سمة أساس فى قصص القرآن عن الأمم السابقة ـ وهذا موضوع يطول شرحه ، ولكن ما يخصنا هنا هو تلك اللمحات القرآنية عن المشركين فى عهد النبى محمد عليه السلام وفى قصص الأنبياء السابقين ، وكيف ردّد ويردد معظم المسلمين نفس الملامح فى أديانهم الأرضية بعد موت خاتم النبيين عليه وعليهم السلام ، أى ينطبق عليهم قوله جل وعلا : :(فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ) ( مريم 58 : 61 ).

4 ـ والأمم السابقة لا شأن لهم بنا ، فقد تم حفظهم فى كتب أعمالهم ، ولكن لا تزال بعض  معابدهم وقصورهم باقية بعد هلاكهم. وهى المنتج الذى نتج عن عملهم وسعيهم فى الدنيا. والله جل وعلا يعظنا بأن نسير فى الأرض لنرى تلك الآثار ونتعظ ونهتدى: (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ) (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(غافر 21 : 82 ) . ويحذرنا رب العزة من السير على ملتهم حتى لا يقال لنا يوم القيامة تأنيبا وتبكيتا:(وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ)(ابراهيم 45).

5 ـ وتعبير(وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ) غاية فى الابداع ، فلا يعنى مجرد أن تسكن ماديا وجسديا ومكانيا فى مساكن الظالمين الهالكين بل أن تعايش نفس الثقافة وان تمارس نفس الظلم وأن تحترف نفس الفساد ، وأن تتنفس نفس المناخ فيكون كتاب عملك بنفس الظلم والظلام . وهو حال اليهود فى عصر النبوة ، وهم عصاة بنى اسرائيل فى عهد خاتم النبيين . سكنوا (وجدانيا وثقافيا ودينيا ) فى مساكن أسلافهم العصاة الذين كانوا يقتلون الأنبياء ويقدسون العجل ، ولأنهم كانوا على نفس الملّة ويمارسون نفس الثقافة فآخذهم بها رب العزة ، حين رفضوا الايمان بالقرآن ، وذكّرهم بما فعله أسلافهم ، وخاطبهم كأنهم هم الأسلاف الجناة عبدة العجل وقاتلى الأنبياء ، للتدليل على أنهم سكنوا فى مسكن الذين ظلموا و تشربوا دينهم ،أى ألفوا آباءهم ضالين فساروا على دينهم يهرعون ، يقول جل وعلا عن يهود العرب وقت نزول القرآن:(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)(البقرة 90 :93 ) (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (آل عمران 181 :183). وانظر الى عصرنا الراهن،حيث تغلب الدين السلفى فأعاد ثقافة العصور الوسطى فى النقاب والحجاب واللحية والجلباب وطريقة الخطاب ، أى سكنوا فى مساكن الذين ظلموا أنفسهم . لا شأن للسلف بهم ، ولكن أولئك المضلين دعاة السلفية سيتحملون وزر دعوتهم وتحريضهم وإضلالهم العوام .

أخيرا :الضالون والمضلون : الملأ والعوام ، الأئمة والعلماء والأتباع

1 ـ ومن حقائق القرآن الكريم أن الأغلبية العظمى من البشر ضالة مضلّة تستطيع إضلال النبى نفسه لو أطاعهم : (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ)(الأنعام 114 : 116 ). أى الأكثرية لها مقدرة على إضلال النبى نفسه فكيف ببقية البشر من الضالين الضحايا للمضلين ؟وكم عدد المؤمنين بعد هذا ؟ ذلك يعنى ان حوالى 99% من البشر ضالون مضلون ، وأن أقلية الأقلية هم المهتدون:(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ )(ص 24)، وستنقسم هذه الأقلية يوم القيامةالى سابقين واصحاب اليمين:(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ)(لأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنْ الآخِرِينَ)(الواقعة 10 : 14 ، 38 : 40) . أصحاب النار أيضا قسمان : ضالون غاوون من الأتباع والعوام ، ومضلون من السادة والملأ والأئمة المقدسين والعلماء. ووسيلة الاضلال الكبرى إختراع وحى مزيف يتخذونه بديلا للوحى الالهى الحقيقى مع محاولة تحريف الكتاب السماوى، ومن أجل كتبهم المقدسة ووحيهم الكاذب يتخذون كتاب الله مهجورا،ويكذبون بآياته، يقول جل وعلا عنهم :(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ )( يونس17). فإذا طولبوا بالاحتكام للقرآن الكريم رفضوا،مع أنه فرض على من يريد الهداية :(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً)(الانعام 114 ).

2 ـ هذه الكثرة العددية وأجيالها المتلاحقة عبر الزمن مع اتفاقهم فى الضلال إلا إن كل ضال سيحمل وزر عمله وضلاله فى سعيه الدنيوى، وسيتم إلقاؤهم فى جهنم طبقا للتتابع الزمنى الذى كانوا عليه فى الدنيا . يتم أولا فصل المؤمنين عن الكافرين، ثم يتم تجميع الكافرين فى طبقات يتكدس بعضها فوق بعض كتجميع القمامة:( لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)(الأنفال 37) ثم يلقى بهم فى الجحيم أفواجا فوجا بعد فوج حسب ترتيب أزمانهم جيلا بعد جيل ،وعندها يلعن كل جيل الجيل الآخر يعتبره مسئولا عن إضلاله:(قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِفِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَاادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاءأَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْف وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ ) (الأعراف: 38)، أى لا يحمل أحد شيئا من عذاب أحد ،ولا يحمل مثقل بالأوزارعن آخر وزره ، ولهذا يحذرنا ربنا مقدما من هذا فيقول:(وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)( فاطر 18 )، من تزكى فلنفسه،أى تكون تزكيته لنفسه فى الدنيا نورا فى كتاب عمله يؤهله لدخول الجنة ، ومن ضل فإنما يضلّ على نفسه ويكون كتاب عمله وزرا يدخل به الجحيم، وفيها كل يعانى من وزره، أى من سعيه الشخصى فى دنياه والذى تحول الى عذاب له فى الآخرة، وكل له ضعف العذاب، أى عذاب مزدوج ولكنهم لا يعلمون ، ونحن أيضا.

3ـ  ثم وهم فى داخل النار يتخاصم الأتباع مع سادتهم وأئمتهم وآلهتهم وشفعائهم ، يلعن التابعون أئمتهم وأوليائهم الذين اتخذوهم آلهة مقدسة معصومة.ونعطى التفاصيل من سورة الشعراء : يقول جل وعلا عن بروز الجحيم فجأة أمام الضالين :(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ )، ثم يقال لهم استهزاءا أين شفعاؤكم وأئمتكم المقدسون:(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ)، ثم يتم إلقاؤهم فى جهنم كالقمامة والزبالة ومعهم أئمتهم شياطين الانس والجن ، جند إبليس ناشروا وحيه الضال:(فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ )وفى سعير جهنم يختصمون :(قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ ) أى قال الغاوون الضالون لأئمتهم المقدسين:(تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، أى يقسمون إنهم كانوا فى ضلال مبين فى الدنيا حين كانوا يساوون أولئك الأئمة ـ كالبخارى وابن تيمية وابن عبد الوهاب والغزالى والبدوى ـ برب العالمين، ثم يلتفت أولئك الغاوون الضالون الى علماء السوء الذين عكفوا على كتب الأئمة ينشرونها ويدعون اليها على أنها الحق والوحى،والعلماءالذين دعوا الى تقديس القبور،فيقولون يشيرون اليهم :(وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ ). ثم يتحسرون على حالهم وضياع مزاعمهم الباطلة فى الشفاعة فيقولون:( فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) ثم يتمنون الرجوع الى الدنيا :(فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء 94 : 102 ). الشاهد هنا أن أولئك الضالين فى حياتهم الدنيا اتبعوا مضلّين من علماء السوء زينوا لهم الباطل حقا والحق باطلا ، وعلماء السوء أنفسهم عكفوا على ما كتبه أئمة سابقون فحوّلوهم من مجرد علماء الى آلهة مقدسة لا يجوز انتقادهم أو مناقشة كتبهم . وأولئك العلماء الذين كانوا بلا تقديس فى عصرهم يتحملون وزر ما كتبوه فى الضلال وما دعوا اليه من صدّ عن سبيل الله ، ولكن أثناء حياتهم فقط ، ثم يأتى العلماء الضالون بعد موت أولئك المؤلفين المضلّين ليسعوا فى الضلال والاضلال جاعلين العلماء السابقين أئمة معصومة وآلهة لا يجوز نقدهم أو مناقشتهم ، ومن يناقشهم يكون خارجا عن الدين كافرا به . أى يقوم الدعاة بسعى يجمع بين الكفر والصّد عن سبيل الله، فتمتلىء كتب اعمالهم فى حياتهم الدنيا بهذا السعى،ويكونون مسئولين عن إضلال معاصريهم وتحريضهم على الفسوق والعصيان.وأولئك الأتباع الضالون هم ضحايا الفريقين،أى المضلين من الأئمة والعلماء .

4 ـ وهنا نفهم حكمة القصص القرآنى المحفوظ من لدن الله جل وعلا الى يوم القيامة ليكون حجة على من يزعم الاسلام وهو يكرر سلوكيات وعقائد المشركين والكافرين والمنافقين التى شرحها وفضحها رب العزة فى القرآن الكريم . لقد جعل رب العزة تدبر القرآن فريضة : (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا)(النساء 82)(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(محمد 24) وجعل من تلاوته عبادة (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا)(الكهف 27)(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ)(العنكبوت 45)وجعل من التمسك به والانصات اليه رحمة : (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الاعراف  52 ، 204 ).

5 ـ ثم يوم القيامة سيكون الكتاب السماوى ميزانا يقابل كتاب العمل . وهذا موضوعنا فى المقال القادم :(الميزان والكتاب والرحمة والعذاب ).

اجمالي القراءات 13815