شعور ينتابني ولا يعبّر عن حزني العميق لوحدي، بل هو شعور كل من لاقوا أو يلاقي، فى سبيل العدل والقيم العليا والمباديء الانسانية المتفق عليها، صعوبات كثيرة من العذابات من بني جلدته وقومه وفصيلته التي تُئْوِيه. هذا هو الفارق بين من يبحث عن الحقيقة ويريد الحياة والتقدّم وبين من يزرع الجمود والخمود والتعصّب والتخلّف والموت ويبتغيهن سبيلا!
تجاربنا جميعا تؤكد هذا الألم العميق في وجداننا، والمأساة التي نشعر بعظيم ثقلها. ولعل تجربة الأخ الدكتور أحمد صبحي منصور هي التجربة الأطول، والمعاناة الأثقل بين التجارب الكثيرة. إن جهوده تختصر معاناتنا في ألم معطاء مابرح إلا ولفّنا في عواصفه وقواصمه. وما أتاحه هو في رحاب موقع أهل القرءان يجسّد من ناحية هذه المعاناة الطويلة، ومن جهة أخرى محاولة لإنارة دروب المستقبل، علّه يكون مشرقاً، ولعلّه يكون أقلّ قسوة على الأجيال القادمة. لقد قدّم هذا الأخ جهدا كبيرا (ندعو الله جل وعلا أن يعينه على الخير الأكثر مما ينال به رضاه عزوجل، وما يسمح لنا بالإستفادة منه كما سلف واستفدنا)، في هذه الدروب الشائكة. إنها معاناة عظيمة أن تخوض في هذه الصعاب باسمك الحقيقي، لأن الأخطار تحدق بين حين وحين، والرقباء على الكلام متيقظون في كل كمين. فعذراً لأنه لدي الكثير مما أود قوله، لذا فإنني اتوارى متخفياً باسمٍ مستعار الى أن يقضي الله تعالى أمراً كان مفعولا.
همّي هو (توصيل أو ايصال الفكر الموجود في الكتابات ولم يكن يعنيني أن يعرفني الناس أو أن يكون انتماء الكتابات أو المقالات اليّ. مع أن الشهرة حق شخصي مباح، لكن الأولوية في الأساس هي لنشر الفكر والموضوع وهذا هو المغزى في النشر باسم مستعار).
اهل القرءان، هم (جيل الحوار)، الذين لخّصوا للأجيال القادمة (جيل الاختيار) مكتبة ووطناً ممدداً تحوي آلاف الدروس والقرطاس ليطلعهم على أسرار وحقائق قرءانية غائبة في الأذهان والأمخاخ لم تكن تخطر ببال، لولا هِمم المفكرين وقدرات المجتهدين الذين فقّهوا عوائق الانطلاقة الاسلامية الكبرى. هؤلاء الذين طلّقوا الصمت والرعب والركون الى السلطات، وباعوا النفيس وشمروا على سواعد الأفكار، من أجل التدبر والعمل الدؤوب ــ ومنهم من فضل الكتمان لحاجة في نفسه! ــ للخوض في سبر أغوار الكنوز القرءانية الغائبة، ونقد التراث وغربلة التأريخ، بمنظار القرءان مع السير على الاسلوب العلميّ والنهج الموضوعي المتّبع. ولاشك انّ كل الرحيق سيكون موضع أخذ وردّ ومثار جدلٍ لايهدأ، وتجارب تتجدّد ولايملّ أصحاب الأقلام والفكر من الكتّاب والباحثين حديثها. فهؤلاء، ومن معهم ومن سبقهم من الفلاسفة والعلماء المجتهدين، والمفكرين، أصحاب العقول المستنيرة، أصبحوا نبراساً يستضاء به في دهاليز (الوثن المعبود/ المرويات) ودياجير الأساطير والحكايات التي رانت على القلوب وطغت خزعبلاتها على الأمخاخ! ظننا بهؤلاء لن يخيب بإذن الله تعالى، لأنهم حاملوا لواء الاصلاح في كل حين ومين.
أحبتي، انّ الذي يفصل بين أهل القرءان وبين "هؤلاء القوم/ اهل الحديث" الذين خاضوا في شعاب السند وتيه المرويات، المحشوة بالشطحات والخرافات، هو هذا الصنم الذي يعبدونه من دون الله "صنم السند" الذي طال سجودهم في محرابه من دون الله عز وجل. حيث تغلغلت الخرافات في اعتقادهم، وأرست أساطيرها في نفوسهم، وأزكمت رائحتها أنوفهم، ورفعوا شعار "الأوثان/العنعنات!" حتى باتوا لا يفقهون معنى (السنة والحديث) في القرءان وما معنى: ((إِنّي أنا ربّك فاخلع نعليك إِنّك بالواد المُقدّس طوى)) ولا معنى: ((وأنا اخترتُك فاستمِعْ لِما يُوحى)) [طه/ 12-13]. ولا يفهمون فحوى: ((إِنّا سنُلقي عليك قولا ثَقِيلا إِنّ ناشئَةَ اللّيلِ هي أَشدّ وطْئا وأَقومُ قيلا)) [المزمل/ 5 – 6]. ولا يتدبرون قول الله العظيم على لسان رسوله ونبيّه الأمين: ((وأوحي إِلَيَّ هذا القرءانُ لأنذركُم بهِ ومنْ بلغ)) [الأنعام/ 19]. أين هم في رياض: ((وإنك لتلقى القرءان)) [النمل/6]. وروْح: ((أو زد عليه ورتل القرءان ترتيلا)) [المزمل/ 4]. ومن شكوى: ((وقال الرسول يا رب ان قومي اتخذوا هذا القرءان مهجورا)) [الفرقان/ 30]. وفوْح: ((ان هذا القرءان يهدي للتي هي أقوم)) [الاسراء/ 9]؟ يالها من سمفونيات كونية بديعة ونغمات قرءانية بليغة تعجز الكلمات عن وصف قيمتها التي فاقت التصوير!
فالروايات، هي من الاسباب الرئيسة التي جعلت القلوب نائية عن القرءان الكريم مذ القرن الثالث الهجري بالضبط وحتى الآن. لا اريد الخوض في متاهات الروايات التي قصمت كواهل المسلمين برمّتها! فالأنكى هو ما نتج عن داء العنعنات والمرويات في عهد بني امية. حيث بدأت دولة بني امية بتوزيع ما يسمى (الأحاديث النبوية ــ مشافهة) تبريراً لأفعالهم وتثبيتاً لايديولوجيا الدولة التي جسّرت أفكارها ــ كون الدولة جاءت بمباركة الهية! ــ في الانتهازية السياسية وتجسّدت أوتادها لتوسيع مُلكهم وترسيخ دعائمهم في ظل توظيف تلكم الأحاديث والروايات المفبركة واضفاء الشرعية الالهية المزيّفة. فكان لزاماً على الانتهازيين ــ بعد فقدان الأمل مما يساند ويعاضد ويثبت دعائمهم في القرءان الكريم ــ ان تختلق "أحاديث نبوية" ضد الثائرين على الثيوقراطية الأموية التي اغتصبت السلطة والحكم باسم الدين! وقتها كانت الروايات لتعميم مبدأ الجبرية وترسيخ فكرة خليفة الله/ السلطة المقدسة! في قلوب المسلمين. (لكن الثورة الفكرية، التي فجرها أئمة الأعلام من المفكرين الثوار، قدّمت مفاتيح معرفية للخلاص من الاستبداد الجبري الذي كان يحكم به الاموييون المسلمين، وأيقنوا ــ المسلمين ــ ان ذلك الاستبداد والظلم والجور ليس من عند الله وليس جبراً عليهم ــ كما أشاع ذلك خلفاء بني امية وبني العباس لاحقاً ــ، لكن فقهاء ذلك العصر لاسباب مختلفة سايروا رجال الحكم في تعميم مبدأ الجبرية على العامة والإقرار ضمناً بخطورة مبدأ القدرية على مكانة السلطة ودور أولي الأمر). يُنظر "هل للعقل دور في الاسلام ــ سمير السعيدي"
واليوم، القرءانييون كامتداد لأفكار أبي حنيفة واجتهادات محمد عبده ــ تلك العقول النيّرة التي لولاها لطغت الحشوية والمذهبية والمفاهيم الجامدة وقتها على الأمخاخ ــ، قد اعطوا يراعهم عصارة جهدهم وفكرهم. وخلدتهم أعمالهم، لانهم لايخشون في الله تعالى لوم لائم ولا عذل عاذل، شريطة: )ان يموتوا لتعيش أفكارهم. وأن يطعموا أفكارهم من لحومهم ودمائهم. وأن يقولوا ما يعتقدون أنه حق، ويقدموا دمائهم فداءاً لكلمة الحق. وبذلك يستطيعون أن يصنعوا شيئا كثيراً... سيد قطب). وهذه سنة الله تعالى في خلقه وعباده الذين اجتباهم ليكونوا قدوة حسنة لمن خلفهم وحلقة وصل توصل عقلاء العصر بغرباء النّجد! انّ تدبّر الآيات القرءانية من داخل القرءان بمفهوم القرءان ومصطلحاته فريضة غائبة حقّاً خاصة بعدما أماتته الروايات وبِدَع العَنْعَنيين، لحقود طويلة.
كتاب الله، يرسم لنا جوهر الاسلام ومعالم الانسانية وقد رسّم لنا خط الثقافة "ثقافة القراءة بالقلم" بدءاً بأول كلمة جاءت في طيات "اللوح" محفوظة لكي نتذوق طعم العزة والكرامة والحرية التي ألفينها من الذكر الحكيم. "اقرأ" كانت أول كلمة علّم بها الانسان. فمن هنا ينبغي أن نتدارك أهمية القراءة الكثيفة وتأثيرها في حياة الفرد، وبالذات قراءة الثقيل على كاهل الفكر كما نوّه اليها الدكتور في ثنايا تعليقه. فالتكوين الثقافي والبنية المعرفية يتولّد عند الانسان خلال مواظبته على القراءة المستمرة كما يقول هنري ميلر، الكاتب الروائي الأمريكي، "يجب أن نقرأ لنعطي أنفسنا فرصة لترتقي". هكذا تكون القراءة. فالمطالعة الكثفية والقراءة الثقيلة عل الأفكار هي التي تعطي المرء العلم والخبرة. وتعطي قلمه حرارة التطلّع ولهفة السؤال والقدرة على العطاء. وهي التي تشكل الركائز الأساسية للتكوين الثقافي والبُنى المعرفية والفكرية للشخصية. فالكتابة من غير القراءة لا تنفع لأن الكاتب المحترف لابد من أن يقرأ حتى يوسع دائرة معرفته ويكتسب خبرات الآخرين ويتعلم منهم... والأهم من كل ذلك هي القراءة باسم الخالق الذي أكرمنا جميعا فــ (ما أروع وصية الأنبياء والحكماء الذين لم يكتبوا فهم قد خطوا أفكارهم على رق الوجود واللوح المحفوظ ولذلك ظلت حكمهم خالدة لا تموت! ألا يجوز لنا الآن فقط أن نثني على سقراط هذا الذي لم يكتب و نسلم على أمية محمد الذي لم يكن بقارئ فتلك هي نبوته وذلك هو وحيه الذي لم يكتبه انسي لأن ذلك هو إعجازه وذلك هو سر خلود كلامه؟). [زهير الخويلد/ لعبة الكتابة والقراءة].
ينقل الكاتب الموهوب "زهير الخويليدي" في لعبته "المقال البحثي الفلسفي" عن "رولان بارت" في لذته "لذة النص" المقولة التالية: (النصّ تميمة وهذه التميمة ترغب في ويخطب النص ودي عن طريق ترتيب كامل لشاشات غير مرئية وعن طريق مماحكات انتقائية تتصل بالمفردات وبالمراجع وبقابلية القراءة…).
ويخطّ قلم الخويليدي، مشهداً رائعاً بين القاريء والنص! وكيف تتجلّى من امتزاجهما الحقيقة وتتربى همة القاريء وتعلوا بكلا الجناحين. وكيف تتولد الحلاوة والشغف بين النص والقاريء الغارق في مرمى المراد من البحر اللّجّي "النص": (لقد بلغت القراءة هنا درجة العشق بين النص وقارئه وانه لنهج ممتع يلفت الانتباه ويثير الأشواق انه تفاعل مع النص و"تعبير عن لذة قد تحققت فضاء المتعة" رولان بارت/ لذة النص) من [لعبة الكتابة والقراءة].
في نهاية المطاف، أنا حرّ وافكّر. مسلمٌ من قبل وفي هذا. فوق القوميّة والمذهب والايديولوجيا. انسانيّ الإنتماء، تحت مظلة السماء، متدبّرا ومتأمّلا في ظهور الخالق البديع الجميل في كونه المشهود والمقروء: ((الله نور السموات والارض))، باحثا وكاشفاً عن مدلول فحوى قوله: ((هو الاول والآخر والظاهر والباطن)). وكيف برحمة منه تبارك اسمه، أرسل الرُسل وأنزل الكتب السماوية المقدسة وبيّن من خلالها سنة الأولين وتجارب الأمم الغابرة وأطوار الخلائق والأفلاك وسُبل الفكاك والنجاة لإسعاد العباد واتّباع السبيل والمسلك للوصول الى سعادة الانسان في الحياة بعيداً عن اراقة الدماء باسم الحروب المقدسة المزيفة التي هي من إحدى الكُبر التأريخية، تدار رحاها باسم الدين وتحت مظلة التقديس! فيا ويلتى على سفك الدماء باسم الحروب المقدسة، فالمقدّس هو عدم إراقة الدماء وليس قتل الانسان وسفك دمه! فهذا ليس من المقدس في شيء. ففروا الى الله وصراطه المستقيم. انه الحق المبين الذي لا مناص للانسان من الإصغاء اليه. وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.