هل الديمقراطية هى مجرد صندوق انتخاب أم أنها مناخ عام يسمح بالحرية حتى ولو خالف رأى الفرد باقى الثمانين مليون مواطن؟ يضمن هذا المناخ له الحماية بل يضمن له نشر آرائه مادام لم يستخدم العنف والتنظيم المسلح فى نشرها، يضمن له عدم الاضطهاد والتمييز بسبب دينه أو لونه أو جنسه، لكن أن نختزل الديمقراطية فى صندوق يسبح فى مناخ مسمم بالعنصرية وفضاء ملوث بالفاشية الدينية أو العرقية أو الذكورية أو العسكرية...
فهذه هى الخدعة الكبرى، فصندوق الانتخابات فى ألمانيا جاء بهتلر فى مناخ فاشى عنصرى، روج لنظرية الجنس الآرى الألمانى المتميز، وهى النظرية التى تحولت إلى شبه عقيدة ودين مثلما يروج البعض الآن لنظرية الإخوانى الأنقى الذى لا يتزوج إلا الإخوانية الأطهر، وأن غير المحجبة لا تستطيع تربية الأبناء، كما صرح الشيخ حازم أبوإسماعيل، أمس الأول، فى برنامج مجدى الجلاد، وأن على مرشحى التيار الإسلامى الثبات أمام كفار قريش فى موقعة أحد كما صرح المرشح الإخوانى «أيها الإخوان إن المعركة مازالت دائرة فى الميدان، فلا تبرحوا أماكنكم يا رماة الجبل»!!!
قصة هتلر وصندوق الانتخابات لابد أن تحكى لعل فيها العبرة والعظة –المعلومات والتواريخ مصدرها كتاب لرئيس جمعية الحقوقيين العراقيين - فى ٣٠ يناير ١٩٣٣ انتخب هتلر كمستشار لجمهورية ألمانيا، وقبل أن يصبح هتلر مستشاراً كانت ألمانيا دولة ديمقراطية ولها برلمان منتخب يضم مختلف الأحزاب السياسية، وكانت القوانين تشرع من خلال البرلمان وتتخذ القرارات بالأغلبية
لقد حقق هتلر سيطرته على مقاليد الحكم فى ألمانيا من خلال مرحلتين رئيسيتين، الأولى مرحلة التمركز فى السلطة، فبعد انتخاب هتلر كمستشار لألمانيا استغل ما نصت عليه المادة ٤٨ من الدستور الألمانى التى خولت للمستشار فرض حالة الطوارئ فى البلاد لحماية النظام الديمقراطى من الانهيار، وكان الغرض من وضع هذه المادة فى الدستور هو تفادى أى ثورة شيوعية قد تحصل فى ألمانيا، حيث قام هتلر بإقناع رئيس الجمهورية فى حينه المارشال بول فون هندربرج Paul Von Hindenbrng بإصدار مرسوم جمهورى يقضى بتخويل وزير الداخلية وأجهزة الشرطة والأمن صلاحية منع أى تجمع عام أو مظاهرة قد تؤثر على الأمن الداخلى، بدأ هتلر بتصفية معارضيه بشكل تدريجى ومدروس تمهيداً للسيطرة الكاملة على زمام الأمور وفرض ديكتاتوريته·
افتعل هتلر حادثة حرق البرلمان الألمانى فى ٢٧ فبراير ١٩٣٣ التى اتهم فيها الحزب الشيوعى مما منحه الفرصة لاستصدار مرسوم جمهورى لتحريم نشاط الحزب الشيوعى وإعلان الأحكام العرفية فى البلاد والذى قيدت بموجبه الحريات العامة ومنعت التجمعات والمظاهرات واتخذت الإجراءات المشددة بمراقبة الهواتف والرسائل وتفتيش الدور دون الرجوع إلى المحاكم، وقد صودرت الحريات بشكل كامل، ونتيجة هذه الممارسات التى أبعدت الحزب الشيوعى والحزب الاشتراكى من ساحة العمل السياسى أصبح الحزب النازى يتمتع بالأغلبية فى البرلمان·
المرحلة الثانية هى الديكتاتورية والاستبداد، وهى المرحلة التى تتميز بتشريع قانون التخويل أو قانون الصلاحيات المطلقة Enabling Act، إذ بعد اعتقال وتشريد أعضاء البرلمان من الشيوعيين والاشتراكيين أصبح الحزب النازى له الكلمة الأخيرة فى البرلمان الذى اجتمع فى ٢١ مارس ١٩٣٣ وأصدر قانونه المعروف Enabling Act الذى صوت لصالحه ٤٤١ عضواً بينما صوت ضده ٩٤ عضواً فقط، وبموجب هذا القانون منح هتلر الصلاحيات المطلقة فى تشريع القوانين دون الرجوع للبرلمان، وأن أى قانون يوقعه هتلر يصبح نافذ المفعول خلال ٢٤ ساعة، فأصدر القوانين التى تمنع نشاط أى حزب سياسى عدا الحزب النازى الذى أصبح الحزب الوحيد المسيطر والمسؤول عن جميع الإدارات المحلية
وخضعت جميع النشاطات فى المجتمع إلى رقابة أعضاء الحزب النازى، وقد سيطر هذا الحزب على جميع مفاصل الدولة والمجتمع الحيوية كالمحاكم والجمعيات المهنية والاتحادات والنقابات والجامعات والجمعيات التجارية والنوادى ونشاطات الشباب والكنائس، وإلى جانب الحزب أنشأ هتلر مجموعة من الأجهزة الأمنية والعسكرية والقضائية التى تعمل فوق الحزب وتحت إشراف هتلر مباشرة، وبهذا تمت له السيطرة وماتت الديمقراطية وحل الخراب على ألمانيا.