جزء حتمى مكتوب عليك فى الدنيا هو الحتميات الأربع، وجزء أنت حرّ فيه هو أعمالك وأقوالك ، وهو جزء تتم كتابته وتسجيله ليكون لك أو عليك يوم القيامة
مقدمة
لنا سلسلة مقالات بحثية بعنوان ( لكل نفس بشرية جسدان ) نشرنا منها 18 حلقة ـ وتبقى منها القليل وسننشره لاحقا بعون الله جل وعلا. تثبت هذه السلسلة حقيقة قرآنية ،هى أن عمل الانسان فى الدنيا ترتديه النفس البشرية ثوبا يوم القيامة عوضا عن ثوب الجسد الأرضى الذى سيتحول رمادا ثم يفنى مع هذه الأرض ، وبثوب عملها يكون صلاحها لدخول الجنة إن كان ثوبها أو عملها صالحا نورانيا ،أو به تدخل النار تبعا لعملها الظالم المظلم. هذا العمل إن خيرا أو شرأ تتم كتابته لحظة بلحظة ونحن أحياء،ونصطحبه معنا الى الآخرة كتابا لأعمالنا الفردية والجماعية . ونعطى المزيد من التفصيلات مع كتاب الأعمال فى هذه السلسلة عن معانى(كتب ، كتاب فى القرآن الكريم).ونعرض هنا لتوقف كتابة العمل فى النوم والموت.
أولا : تمهيد بفقه المصطلحات الخاصة بالموضوع:
1 ـ الموت والحياة بين الحقيقة والمجاز للبشر: مصطلح الموت الحقيقى يأتى فى قوله جل وعلا مخاطبا خاتم النبيين:(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ )(الزمر 30 ) ، ويأتى مجازا فى سياق الدعوة فالضال يكون ميتا والمهتدى يكون حيا ، ومن كان ميتا بضلاله ثم إهتدى أصبح حيا بنور الهدى ، ونفهم هذا من قوله جل وعلا :(أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )(الانعام 122 ) . ومن الصفات المجازية للضالين : العمى والصمم ،وقد جاءت فيهم مقترنة بصفة الموت المجازى فى موضعين:يقول جل وعلا مخاطبا خاتم النبيين :(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ)(النمل 80 : 81 )ويتكرر نفس الخطاب فى سورة الروم :(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) ) ، وفيهما يأتى المسلمون بالعقيدة والسلوك مقابل الكافرين الموصومين بالموت والعمى والصمم.
2 ـ أقسام الموت : وفى بحثنا هذا نعنى الموت الحقيقى وليس المجازى. وطبقا للقرآن الكريم فالموت الحقيقى ينقسم قسمين : موت مؤقت بالنوم والإغماء وموت نهائى بانتهاء هذه الحياة برؤية ملائكة الموت. هناك من يدخل فى إغماءة تطول ويظل جسده حيا بالتغذية الصناعية أو بدونها ، ثم يستيقظ ويعود للحياة لأن موعد موته لم يأت بعد . فموعد الموت يكون بحضور ملائكة الموت ، وحين تراهم ترى الموت ولا يمكن أن تعود الى الحياة، فقد إنقطع الخيط الذى كان يربط نفسك بجسدها وتحررت نفسك نهائيا من الارتباط بذلك الجسد ،أو تلك السيارة التى كانت تركبها وتقودها. والنفس البشرية ترى الملائكة فى الموت والبعث . فى البعث يفاجأ الضال بوجود القرين الشيطانى معه:(وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ )(الزخرف 36 : 38 ) كما يفاجأ بوجود رقيب وعتيد وقد تحولا الى سائق وشهيد (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ )( ق 21 : 22 ). ولهذا فإنه عندما كان الكافرون يطلبون رؤية الملائكة عنادا وطلبا لآية حسية يأتى الرد الالهى باستحالة رؤيتهم للملائكة طالما ظل أحدهم حيا يسعى، يقول جل وعلا: (وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ) (الحجر 6 : 8 )،فحين يرون الملائكة بالموت فلا انتظار ولا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.ويقول جل وعلا:(وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ)(الفرقان21: 22) .
3 ـ الموت المؤقت بين النوم والموت وبين اليقظة والبعث : قد يصاب الفرد بإغماء طويل أو قصير من حادث سيارة مثلا أو حين يتعرض لآلام لا طاقة له بها، فهناك حد أقصى فى هذه الدنيا لتحمل الأم إذا تجاوزه الانسان غاب عن الوعى واستراح من الألم ، وهناك حد أقصى للاحساس باللذة ،إذا حاول الانسان تجاوزه فإنه يفقد الاحساس باللذة بل قد تتحول اللذة الى ألم. هذا فى الدنيا. أما فى الآخرة فليس هناك حدّ أقصى لاحساس أصحاب النار بالألم ، وليس هناك حد أقصى ،أو حساب فى احساس أصحاب الجنة باللذة والنعم. فى كل الأحوال فإن الاغماء يعنى غياب النفس مؤقتا ثم عودتها عندما يتهيأ جسدها لاستقبالها طالما لم يأت بعد موعد موتها النهائى ولم تر ملائكة الموت . الله جل وعلا يقول عن الاغماء موتا وعن استعادة الوعى أو اليقظة بعثا فى هذه الآية الكريمة:( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ( البقرة 55: 56 ). طلبوا من موسى أن يروا الله جل وعلا جهرة فأخذتهم الصاعقة وحدث لهم إغماء ثم استيقظوا منه . وهنا يأتى تعبير الموت والبعث وصفا للاغماء ولعودة الوعى أو اليقظة (ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ ). ولأنه موت مؤقت وبعث مؤقت خلال حياتهم الدنيوية يقول جل وعلا (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، أى بعد عودتكم لليقظة من ذلك الموت المؤقت .
وقد يكون الموت الطويل موتا مؤقتا يعقبه بعث أو إستيقاظ من النوم أو الموت المؤقت ، يقول جل وعلا : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ)(البقرة 259 ). هنا نوم استمر مائة عام ،أو موت مؤقت استمر مائة عام ، وأعقبه إستيقاظ أو بعث . ونظيره نوم أو موت مؤقت لأهل الكهف والذى أعقبه استيقاظ أو بعث :(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ) (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ )( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)(الكهف 12، 18 : 19 ، 25 ).
4 ـ بين الوفاة والموت (معنى وأنواع الوفاة ) : وبعيدا عن هاتين الحالتين الفريدتين فى سورتى البقرة والكهف فإن الوضع يتكرر يوميا فى حياتنا . لنفترض زوجين ينامان على وسادة واحدة وفى فراش واحد ، إستغرقا فى النوم ، وفى منتصف الليل مات الزوج وهو فى نومه ، ولم تحسّ به زوجته . حين استيقظت من النوم فوجئت بموته فصرخت ، وتوالت بقية أحداث المسلسل ..!!. هنا إثنان من النفوس ، نفس الزوج ونفس الزوجة . كلاهما نامت (أو ماتت موتا مؤقتا ) ولكن فى منتصف الليل تحول الموت المؤقت (أوالنوم) فى حال الزوج الى موت دائم بينما رجعت فى الصباح نفس الزوجة من نومها أو موتها المؤقت لتفاجأ بموت زوجها. المعنى أن الله جل وعلا (أمسك ) النفس التى قضى عليها الموت فلم تعد لجسدها لأن أجلها حلّ بينما أعاد نفس الزوجة الى جسدها لأن موعد موتها لم يأت بعد. يقول جل وعلا :( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (الزمر 42 )
ولأن الله جل وعلا يقول فى خاتمة الآية السابقة : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (الزمر 42 ) فهنا دعوة للمزيد من التفكر فى الآية الكريمة ، وهى هنا تتحدث عن مصطلح جديد ، هو الوفاة . وللوفاة فى القرآن الكريم ثلاث معان : الوفاة بمعنى الموت والوفاة بمعنى النوم ، وقد جاء المعنيان معا فى الآية السابقة:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (الزمر 42 )، ثم الوفاة يوم الحساب بتوفية كل فرد جزاء عمله بناء على كتاب عمله . ونعطى عنها المزيد من التفصيلات .
5 ـ فعن الوفاة يوم الحساب تأتى التوفية بمعنى توفية الجزاء على العمل إن خيرا فخيرا وجنة ،وإن شرّا فشرّا وجحيما . يقول جل وعلا لنا فى هذه الدنيا :(وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)(البقرة 281 ). الحديث هنا عن لقاء الله جل وعلا يوم الحساب حيث يتم توفية كل فرد جزاء عمله . والله جل وعلا يحذرنا مقدما ونحن أحياء على الأرض نسعى . وهذا الحساب والجزاء وتوفية العمل يشمل الأنبياء ، فالله جل وعلا يقول فى سياق حديث موجّه لخاتم النبيين :(وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)( آل عمران 161 ). وعموما يقول جل وعلا عن يوم الحساب إن كل نفس بما فيها أنفس الأنبياء ستأتى تدافع عن أخطائها ، وفى النهاية يتم توفية كل نفس عملها بالقسط وبلا أدنى ظلم:( يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ )(النحل 111 ). المستفاد هنا أن التوفية تأتى بمعتى توفية الجزاء على العمل الدنيوى يوم الحساب .
ثانيا : توفية أو قفل كتاب العمل عند الموت المؤقت ( النوم ) وعند الموت النهائى :
1 ـ عن الوفاة بمعنى الموت النهائى يقول جل وعلا عن كيفية موت أو وفاة المجرمين وضرب ملائكة الموت لهم :(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ) (الانفال 50 )(فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) ( محمد 27 ). الضرب هنا ليس للجسد عند الاحتضارفكيف يستطيع أقوى جسد فى العالم ضرب الملائكة ؟ الضرب هنا هو للنفس الخاسرة العاصية عند موتها. ونفهم منه أن (نفسك ) تحمل فى عالمها البرزخى نفس ملامح جسدك ووجهك ، ويستمر هذا يوم القيامة ،إذ سنتعرف على بعضنا فيفر المرء من أخيه ومن أمه وأبيه ومن صاحبته وبنيه: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)(عبس 34 : 37 ). الوفاة (أى الموت النهائى ) تعنى إن الانسان قد (أوفى ) أى أكمل العمر المحدد له ، و(أوفى ) أكل الرزق المحدد له ، و(أوفى ) أى دخل فى اختبار كل المصائب المحددة له ، وأنه قد (أوفى ) أى أكمل أيضا كتاب أعماله،وإنه تم تسطير آخر صفحة وتم كتابة آخر سطر فى كتاب أعماله ، وأنه بهذه التوفية يتم قفل كتاب أعماله فلا يقبل الزيادة ولا يقبل النقص .وفى مزيد من الشرح يقول جل وعلا : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)( الانعام 61 ). فالقاهر (فوق) عباده جلّ وعلا يرسل (عليهم ) (حفظة ) أى ملائكة كتاب الأعمال وحفظها ، ويظلون فى عملهم الى أن تأتى ملائكة الموت النهائى فتتم وفاته النهائية.
2 ـ وعن وصف الموت والنوم معا بالوفاة توقفنا مع قوله جل وعلا:( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى )( الزمر 42 ) وبالتالى فإن ما ينطبق على الموت النهائى من توفية العمل وقفل كتاب العمل فإنه ينطبق على التوفية فى موضوع النوم ، أى يتم أيضا قفل كتاب العمل للشخص النائم . الفارق بين الشخص النائم إن نومه أو موته مؤقت لذا فكتاب عمله يتم غلقه مؤقتا الى أن يستيقظ ويستأنف ( السعى ) فى الأرض . أما من يموت فبموته النهائى يتم قفل كتاب أعماله نهائيا . وهناك توضيح أكثر فى قوله جل وعلا :(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ )(الانعام 60 : 62). فالله جل وعلا يقول عن نومنا بالليل إنه وفاة : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ )،أى يتوفانا بالليل ونحن نيام ، ويقول عن يقظتنا بالنهار إنه بعث. وفى هذا البعث المتجدد يعلم جل وعلا ما فعلته جوارحنا وأعضاؤنا :(وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ) ، ويستمر هذا ( كتابة العمل فى اليقظة وتوقفها فى النوم ) الى الموت أو الأجل المسمى المحد لموعد موت كل فرد:( لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ) ويستمر هذا الى انتهاء الحياة وقيام الساعة ومجىء القيامة ورجوعنا الى لقاء الله جل وعلا حيث يخبرنا بكل أعمالنا عن طريق كتاب أعمالنا : (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ). وفى التأكيد على دور ملائكة الحفظ والتسجيل يقول جل وعلا (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ )، ثم عودة الى التأكيد على لقاء الله جل وعلا يوم الحساب : (ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ).
3 ـ ونترك للعلماء المتخصصين توصيح العلاقة بين النوم والموت ، وكشف أسرار النوم كأحد مظاهر القهر الالهى لله جل وعلا فوق عباده ، ومدى حاجة الانسان الى النوم ، ولكن بثقافتنا القرآنية المتواضعة نقول إن ( النفس ) داخل كل منا لا تنتمى الى هذا العالم المادى الثقيل بل تنتمى الى عالم أرفع وأعلى هو البرزخ بطبقاته التى لا نعرفها ، وحيث لا يوجد زمن ،أو لا يوجد الزمن المتعارف عليه بيننا ، بدليل أن ذلك الذى مات مائة عام ثم بعثه الله جل وعلا ظن أن لبث يوما أو بعض يوم ، وأن أهل الكهف حين استيقظوا ظنوا أنهم ناموا يوما أو بعض يوم.النفس فى سجنها فى هذا الجسد المادى تحتاج للراحة والافلات منه لتعود حوالى ثلث عمرها الأرضى الى برزخها فيما يعرف بالنوم . إنّ التسجيل هو للنفس حين تسيطر على جسدها وتسعى بالخير أو الشّر فى هذا الكوكب الأرضى ، وتسجيل عملها لا يكون عند غيابها فى برزخها ولكن عند رصد قيادتها لهذا الجسد فى عالمه المادى وهو يسعى ويتحرك فى يقظته ، فإذا مات مؤقتا أى نام أو دخل فى إغماء توقف التسجيل بقدر هذا النوم وذلك الاغماء .
4 ـ يعزّز هذا أن الله جل وعلا جعل النهار للسعى وجعل الليل للراحة والنوم . هذا فى الأغلب بطبيعة الحال ، والجسد البشرى (مصمم ) ( بفتح الميم الأولى ) على النوم ليلا ،قد ينام بعض الليل وقدرا من النهار، ولكن الانسان الطبيعى لا بد أن ينام جزءا من الليل ، ولا بد له من ساعات كافية من النوم ، ولا يستطيع البقاء محروما من النوم وإلا أصابه الجنون ،أى أصاب الجنون نفسه حين يتم منعها من العودة لوطنها البرزخى . وكثيرة هى الآيات القرآنية الكريمة التى تتحدث عن آيات الليل والنهار والنوم بالليل والسعى بالنهار ، منها قوله جل وعلا :(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً)( الفرقان 47 )، هنا وصف النهار بالنشور أى البعث ، أى وصف اليقظة من النوم أو الموت المؤقت بالبعث والنشور . وتتوالى الآيات : (وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11) (النبأ)،(اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)(غافر 61 )، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا)(يونس 67 ).
5ـ وأغلب السعى بالنهار، والسعى هو العمل الذى يقوم به الانسان فى يقظته . ويصاحبه قصد ونية .ولذلك فلامؤاخذة على السعى الشرير الذى تتم كتابته ولكن لا مؤاخذة عليه ، مثل السعى المصحوب بالنسيان والخطأ غير المقصود: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )( البقرة 186 )، والخطأ غير المتعمد ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( الأحزاب 5) (لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) ( البقرة 225 ) ولا مؤاخذة فى حالة الاكراه (مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )( النحل 106 ) والاضطرار (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة 173)،وفى كل الأحوال سيرى الناس كل أعمالهم فور البعث وفق ما جاء فى سورة الزلزلة:( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه) . ثم يأتى الغفران فيما بعد عند لقاء الله جل وعلا يوم الحساب .
6 ـ وبعودة النفس الى عالمها البرزخى بموتها النهائى فى الدنيا تفقد الإحساس بالزمن مثل أهل الكهف، ويوم القيامة سيظن المجرمون إنهم لبثوا يوما أو بعض يوم: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)( النازعات 46) (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ )(يونس 45) . ولكن النفس الكافرة فى الآخرة ينتهى عهدها بالنوم بموتها وتركها لهذه الحياة الدنيا . فلا حرية لها فى الحركة ولا تستطيع النوم عند البعث والحشر والحساب، ثم عند دخولها النار فلا مجال للنوم داخل النار ، فالنوم راحة من العذاب وكذلك الموت،ولا راحة ولا تخفيف ولا موت ولا نوم لأصحاب النار، يقول جل وعلا: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ)(فاطر 36 ) (مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) ( ابراهيم 16 : 17 )(إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى ) ( طه 74). لا نوم فى النار بل سهر فى خلود وخلود بالسهر ، يقول جل وعلا :(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ )( النارزعات 13 : 14 ).
أخر السطر : تخيل نفسك تسهر تحت عذاب خالدا مخلدا فيه ؟؟