تأصيل معنى ( كتب ، وكتاب ) فى القرآن الكريم(6/ 2 ) أنواع كتاب الأعمال

آحمد صبحي منصور في الخميس ٢٤ - نوفمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

جزء حتمى مكتوب عليك فى الدنيا هو الحتميات الأربع، وجزء أنت حرّ فيه هو أعمالك وأقوالك ، وهو جزء تتم كتابته وتسجيله ليكون لك أو عليك يوم القيامة

مقدمة

لنا سلسلة مقالات بحثية بعنوان ( لكل نفس بشرية جسدان ) نشرنا منها 18 حلقة ـ وتبقى منها القليل ،وسننشره لاحقا بعون الله جل وعلا. تثبت هذه السلسلة حقيقة قرآنية ،هى أن عمل الانسان فى الدنيا ترتديه النفس البشرية ثوبا يوم القيامة عوضا عن ثوب الجسد الأرضى الذى سيتحول رمادا ثم يفنى مع هذه الأرض ، ويتم بعث كل نفس وقد ارتدت عملها جسدا جديدا أو ثوبا جديدا ، وبه يتم صلاحها لدخول الجنة إن كان ثوبها أو عملها صالحا نورانيا ،أو به تدخل النار تبعا لعملها الظالم المظلم. هذا العمل إن خيرا أو شرأ تتم كتابته لحظة بلحظة ونحن أحياء،ونصطحبه معنا الى الآخرة كتابا لأعمالنا الفردية والجماعية .

وهنا نتوقف بالمزيد من التفصيلات مع كتاب الأعمال فى هذه السلسلة عن معانى ( كتب ، كتاب فى القرآن الكريم). وبعد مقال عن فقه المصطلحات الخاص بموضوع كتاب الأعمال نشرح نوعى كتاب الأعمال . 

أولا : كتاب الاعمال الجماعى

1 ـ الفرد يعيش فى جماعة ، ويكتسب حسناته وسيئاته من احتكاكه بالمجتمع الذى يعيش فيه. ولكى يكون ظالما لا بد من ضحية له يكون مظلوما، ولو فعل خيرا فلابد ان يكون هناك مستفيد من خيره. ومن هنا يرتبط كتاب الاعمال الفردى بكتاب أعمال جماعى يرصد الفرد وتحركاته فى محيط مجتمعه وتفاعله فيه بالخير أو بالشر. يقول جل وعلا يحض المؤمنين ـ كمجموعات ومجتمع ـ على فعل الخيرات : (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا )(الأحزاب 6 ).أى ما يفعلونه من خير يتم تسطيره وكتابته. ويقرر رب العزة جل وعلا عن كتاب العمل الأثر الباقى من كل فرد ومن كل أمة عاشت وتعامل أفرادها فيما بينهم :( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)( يس 12 ).أى إن رب العزة ـ عن طريق ملائكة كتاب العمل ـ يكتب ما يقدمه الناس قبل موتهم ويحفظ آثارهم ، ويحصيها فى كتاب يكون أمامهم يوم القيامة ، ويكون مرفوعا أمام وجوههم يوم العرض على الله جل وعلا . وبينما ينسى الفرد ذنوبه فإن كتاب أعماله لا ينسى شيئا ، فقد أحصى رب العزة كل شىء،يقول جل وعلا:(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) ( المجادلة 6 )

2 ـ وهذا الاحصاء يشمل تحركات النبى فى تبليغه الرسالة،وإحاطة الملائكة بالرسول لضمان ذلك التبليغ . ففى معرض التأكيد الالهى على أنّ محمدا خاتم النبيين لم يكن يعلم الغيب ، ولم يكن ضمن بعض الأنبياء الذين كشف الله جل وعلا لهم بعض الغيوب ، يقول جل وعلا :(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا)(الجن 26 : 28 ). ويشمل هذا الاحصاء تعداد جميع أفراد البشر واحدا واحدا ، وكل واحد منهم سيواجه حسابه الفردى مزودا بكتاب أعماله : (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) ( مريم 93 : 95 )، ولن يغيب فرد منهم عن حضور ذلك اليوم : (  وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)(الانفطار ).

3 ـ ويوم العرض سيرى المجرمون كتاب أعمالهم الجماعى يفضح كل أسرارهم وكل تآمرهم ومكائدهم ، سيرونه حاضرا فى شريط مسجل واقعى بالصوت والصورة ، مجسدا ما فعلوه ، سيتعجبون من هذا الكتاب الذى لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ويتيقنون أن الله جل وعلا لا يظلم أحدا ، فهى اعمالهم مسجلة متجسدة تشهد عليهم ، يقول رب العزة : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) ( الكهف 49 ). لن تحدث هذه المفاجأة للمتقين لأنهم فى دنياهم كانوا يخشون ربهم بالغيب ،أى يخافون ربهم وهم فى خلواتهم لا يراهم أحد إلا الذى يعلم السّر وأخفى : (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ)( يس 11 ).أى فهؤلاء فقط هم المستحقون للانذار والوعظ ، عكس الذين يعاندون وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون:(وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) ( يس 10 ).

4ـ ونعطى أمثلة من القرآن الكريم لتسجيل جماعى لأعمال مجموعات من الناس ، منها :

4/1 : تندر بعض اليهود فى عصر النبى محمد عليه السلام على حث رب العزة على إعطاء الصدقة باسلوب: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )( البقرة 245 )، فقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء لأنه يحتاج الى الاقتراض منا ، فنزل قوله جل وعلا :( لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ )(آل عمران 181 ـ ) . ربما قالوها فى خلوة أو علانية .لا يهم . المهم تسجيلها عليهم ، سواء من قال ومن سمع ورضى بما قيل دون إعتراض أو إستنكار. كلهم تحملوا مسئولية هذا القول الفاجر وتم تسجيله . وهى قاعدة عامة فى كل مكر الكافرين ، يقول ربنا جل وعلا يحذرهم مقدما :(إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ )( يونس 21 )، وإنهم مهما كتموا تآمرهم وأخفوا سعيهم فإنه لا يخفى على الله جل وعلا لأن رسل أو ملائكة الحفظ تكتب وتسجل : ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (الزخرف 80 ).

4/2 : وكانت مشكلة المنافقين أفدح ، لأنهم كانوا يتظاهرون بالاسلام والطاعة ثم يتآمرون خفية معتقدين أن الله جل وعلا لا يراهم ، فكان ينزل الوحى يفضحهم ، مبينا حتى حركاتهم وإيماءاتهم كقوله جل وعلا : (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُون)(البقرة 14) (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون) (التوبة 127 )( وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا) (محمد 16 ). نزلت آية لا تكتفى بفضحهم ولكن تؤكد مقدما إن الله جل وعلا يكتب تآمرهم ،يقول جل وعلا : (وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ )  ( النساء 81 )، فقد كانوا يدخلون على النبى يقدمون له فرائض الطاعة والولاء ثم يخرجون من عنده يتقولون عليه وينسبون له أقوالا لم يقلها ، وهو سبق قرآنى يؤكد أن الكذب على النبى محمد عليه السلام بدأ فى حياته على يد المنافقين ، وفضح رب العزة هذا الكذب فى القرآن الكريم ، وبعد إنتهاء القرآن نزولا إتسع المجال للكذب والافتراء عليه السلام فلم يعد الكاذبون يخشون نزول الوحى ليفضحهم .

4/3 :ولم يقتصر الأمر على المنافقين من الصحابة ،بل شمل مؤمنى الصحابة أيضا . ارتكب رجل جريمة سرقة فانكشف أمره وافتضح ، وشعر أهله بالعار، فتآمروا على وضع المسروق فى بيت رجل برىء ، ورتبوا ضبط المسروق ثم إلصاق الجريمة بهذا الشخص البرىء ، ولم يكتفوا بتلفيق تهمة لهذا البرىء بل ذهبوا للنبى يشكون له اتهام ابنهم ظلما وجعلوا النبى يدافع عن ذلك الشاب (الجانى ) وهو لا يعلم حقيقة الأمر . وهى قصة تتكرر دائما حيث يدخل البرىء المظلوم السجن ظلما وعدوانا بتهم ملفقة بينما ينجو المجرم صاحب النفوذ من العقاب ،بل يستحوذ على التمجيد والتعظيم . لذلك نزل الوحى يعرض القصة بمنهج القرآن الوعظى ، أى إغفال أسماء الشخصيات وزمنها ومكانها تركيزا على العبرة والعظة حتى تعلو القصة موعظة فوق الزمان والمكان ويستفيد منها الانسان . جاء الوحى فى البداية تأنيبا للنبى حيث تعجل فى الحكم وانخدع بوشاية الظالمين ، يقول جل وعلا له فى سورة النساء:( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105) أى لا تدافع عن الصحابة الخائنين المزيفين . وأمره ربه بالاستغفار:(وَاسْتَغْفِرْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) ونهاه ثانيا عن الدفاع عن أولئك الصابة الخونة الآثمين :(وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107)، ويصف رب العزة جريمتهم واستخفاءهم من الناس بينما لا يأبهون برب العزة وهو معهم يسجل مكيدتهم وتآمرهم وتلفيقهم:( يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)ثم يعيد رب العزة التأنيب للنبى وآخرين ممن دافعوا عن المجرم وآله ، فإذا كانوا يدافعون عنه فى هذه الدنيا فهل سيجرأون على الدفاع عنه والشفاعة فيه يوم القيامة:(هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109). الشاهد هنا هو قوله جل وعلا فى تسجيل عمل سىء شرّير لبعض الصحابة حين ارتكبوا ذلك العمل السىء:( يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً )( النساء  108)

4/4 : وذكر رب العزة جل وعلا ـ مقدما ـ تسجيل عمل صالح لبعض الصحابة ، فقال :( مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ) أى لا ينبغى لهم ( أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )(التوبة 120 ـ121)، أى إن أى عمل صالح يقومون به سيتم تسجيله فى صحائف أعمالهم ، أو فى كتاب عملهم الجماعى .

ثانيا : كتاب الاعمال الفردى :

1 ـ القاعدة هنا أن كل نفس ـ فى حياتها الدنيوية ـ  تتسلم أوّلا بأوّل نسخة تخصها من كتاب الأعمال الجماعى تتعلق بتفاعلها مع المجتمع ومشاركتها فى أحداثه وفعالياته ، تضاف الى أحداث أعماله الفردية، وبهذا يتكون كتاب الأعمال الفردى الخاص بكل نفس . عن كتاب العمل الفردى يقول جل وعلا:(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)(آل عمران 30 ) ، فكل عمل صالح ستراه النفس وتفرح به ، بينما سيصيبها الرعب والخزى من عملها السىء،وتود التبرؤ منه ـ بعد فوات الأوان. ويقول جل وعلا :(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ ) ( التكوير14 ). هنا (تعلم ) النفس (علم اليقين ) ما قدمته من عمل صالح ومن عمل سىء . كل ذلك قبل أن يأتى غفران الله جل وعلا لذنوب وسيئات المتقين الذين تابوا وأنابوا فى الدنيا ، وفى وقت مناسب يعطيهم زمنا لعمل الصالحات التى تغطى السيئات وتبدلها حسنات . الغفران يأتى بعد رؤية كل نفس كل أعمالها .

2 ـ والآية المحكمة فى كتاب العمل الفردى هى قوله جل وعلا : ( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً )(الاسراء 13 ـ ). يهمنا هنا هو قوله جل وعلا :( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً ). ففى الدنيا فإن كل ما يطير من جوارح الانسان من عمل وما يطير من قلبه من مشاعر يتم تسجيله وحفظه ليصبح معلقا برقبة صاحبه ويكون مسئولا عنه:( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) ثم يوم القيامة سيخرج له كتاب أعماله الفردى متضمنا حركاته وسكناته وكلماته فى يقظته وسعيه فرديا وفى تفاعله مع مجتمعه:(وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً).

وعن تلك النسخة الفردية المنسوخة من كتاب العمل الجماعى يقول جل وعلا :( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ )( الجاثية 27 : ـ ). والشاهد هنا قوله جل وعلا (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ). أى أثناء حياة كل فرد يتم أوّلا بأوّل فصل نسخة من مشاركته وتفاعله مع مجتمعه بالخير أو بالشّرلتضاف الى كتاب أعماله الشخصى.

3ـ ونعطى أمثلة من القرآن الكريم لكتاب الاعمال الفردى للمؤمن عموما،يقول رب العزة:( فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ) ( الأنبياء 94 ) ، معنى ( لا كفران لسعيه ) أن الله جل وعلا سيغفر له عمله السىء ويبقى له على عمله الصالح ، وذلك لأنه حافظ على إيمانه وتقواه فتاب وأناب ، وتقبل الله جل وعلا توبته وغفر له ، ولم يضيّع سعيه. ومع إنها حالة عن فردية كتاب الأعمال فإنها قاعدة عامة تسرى فى كل زمان ومكان.

ويقول جل وعلا عن تسجيل عمل سىء لكافر فى عقيدته ومات على كفره دون توبة :( أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ) ( العلق 9 : 14 )، هنا لمحة عن أحد مشركى مكة كان ينهى النبى محمدا عن الصلاة فى البيت الحرام لأنه عليه السلام كان يصلى لله جل وعلا وحده دون أن يقرن صلاته بتقديس لأولياء قريش وآلهتها . ولقد استمرت قريش بعد هجرة النبى ومعظم المؤمنين الى المدينة ـ تمنع المؤمنين من دخول المساجد فى مكة :( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ )( البقرة 114 ). هذا الكافر كان ينهى النبى عن صلاته الخالصة لله جل وعلا . والشاهد قوله جل وعلا (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ). فالمؤمن المتقى يعلم أن الله جل وعلا يراه ، لذا يخشى الله جل وعلا بالغيب حرصا منه على أن أن يكون المسجل فى كتاب أعماله من الصالحات وليس من السيئات.

ويقول جل وعلا عن تسجيل كلمة سيئة لكافر : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ) (مريم77 :  79 ).  تلك كلمات قالها كافر ثرى يعتقد إنه سيكون غنيا ثريا فى الآخرة كما هو حاله فى الدنيا ، وأنه سيؤتى فى اليوم الآخر مالا وولدا وجاها وثروة . ولذا كذّب بالقرآن . ويأتيه الرد على زعمه : هل يعلم الغيب ؟ هل إتخذ عهدا من الرحمن بأن الله جل وعلا سيعطيه كذا وكذا. ثم يؤكّد له رب العزة بأن ما قاله ستكتبه الملائكة عليه ،ويبشره رب العزة مقدما بعذاب شديد ينتظره . وواضح إنه قد تحكم فيه الشيطان وطبع على قلبه فلا أمل فى هدايته .

4 ـ والأمثلة السابقة هى حالات فردية إلا إنها تعبر عن ظواهر توجد فى كل مجتمع يسيطر عليه الدين الأرضى بتدينه السطحى المظهرى الاحترافى . فى هذا المناخ يعانى المؤمنون المخلصون لربهم من الاضطهاد لأنهم لا يقدسون ما يقدسه المجتمع من كتب وأئمة وأسفار وقبور وأنصاب. وفى هذا المناخ يؤمن أثرياء التدين الأرضى السطحى النفعى الاحترافى إنه بأموالهم يستطيعون شراء الجنة ، طبقا لظاهرة (تبرع يا أخى لبناء مسجد كذا ) وأكذوبة ( من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له قصرا فى الجنة ) ، والزعم بأن : ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع (عريانا ) كيوم ولدته أمّه ) . أى بأمواله الحرام يستطيع أن يتملك الجنة . وصاغ المثل المصرى هذه الأكذوبة فى مثل شعبى يزعم "إن سعيد الدنيا هو سعيد الآخرة". ومن صاغ هذا المثل الكاذب الفاجر ستسجله عليه ملائكة الحفظ فى كتاب أعماله.

اجمالي القراءات 17467