نســــــــاء غير النســــــــــاء
لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قصص أنبيائه السابقين، تلك القصص تمدنا بالدروس والعبر التى سجلها القرآن الكريم بين ثنايا تسجيله للاحداث ليستخلصها كل متدبر لكتاب الله عز وجل.
وصدق الله حيث يقول" نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ" 12:3
وفى ختام سورة يوسف عليه السلام يقول سبحانه:
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (12:111
عندما نقرأ لكثير من الكتاب والباحثين إن كتبوا عن هذه القصص، نجد أن معظمهم يبحث ويتدبر فى كل نواحى القصة ولكن بعيدا عن العامل الرئيسى لحوادث هذه القصة وعن المحرك الذى بدأ تكوين هذه الأحداث. فمثلا إذا قرأنا لأى باحث يتكلم عن الدروس المستفادة مثلا لقصة موسى عليه السلام يركز بحثه على شخصية موسى وشخصية فرعون وتناسى أن وراء هذه القصة من قبل موسى، إمراة جليلة نبيلة ضحت بالغالى والثمين وهى أم موسى من قبل موسى أن يُخلق. هذا مجرد مثال يوضح الفرق بين ما سنتناوله فى هذا المقام عما جاء به معظم الكتاب والباحثين.
والآن نعيش مع قصة إمرأتين مثالا لكل مؤمن وكل مؤمنة أن يتدبروا فى أحوال ومشاعر وملابسات هاتين الإمرأتين مثالا يُحتذى بهن وإستنباط الدروس والعبر لتكون بمثابة دُعامة فى الحياة ومبادئ ومُثل يُحتذى بها.
القصة الأولى إمرأة عمران جدة الرسول عيسى عليه السلام، والقصة الثانية مع أم موسى عليه السلام. والملاحظ من هاتين القصتين أن العامل المشترك فيهما هو المولود الطفل الذى لم يبلغ من العمر إلا أيام أوساعات ولكن الدروس المستفادة من هاتين القصتين مختلف عن بعضهما برغم هذا العامل المشترك.
وبالطبع، كل هذا يحدث تحت نظر وتوجيه من الله سبحانه وتعالى وتبعا لمشيئته وقدره، والمعونة الذى قدمها من أول القصة حتى نهايتها فكانت كل الأحداث تحت رعايته وتوجيهات القوى الخبير العليم، سبحانه الله وما أعظم أن تكون أداة يستخدمك الله فى تنفيذ مخططه ومشيئته ونحن لا نقدر الله حق قدره ونوجه لغيره بطلب المعونة والمساعدة وهو الذى أنعم على بنى آدم النعم التى لا تعد ولا تحصى ويقول سبحانه معاتبا هذه البشرية جمعاء:
الاعراف (آية:10): وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ."
لنبدأ بقصة جدة عيسى عليه السلام...
القصة الأولى: قصة إمرأة من عامة نساء اليهود، ولكن لم تكن كباقى النساء فى الماضى والحاضر، هى جدة الرسول عيسى عليه السلام. ينبغي أن نقتدي جميعاً بهذه المرأة العظيمة ! أرادت أن تقدم ما في بطنها لله ، تصورته مولوداً ذكراً يكون في خدمة الخلق ، وفي الدعوة إلى الله. نعيش بعض اللحظات مع حوادث القصة والتى سينحصر كلامنا حول الأحداث التى عاشتها هذه المرأة الجليلة ولم نتدخل فى هذا البحث عن أشخاص آخرين حتى يتم التركيز على إمرأة عمران- ويقال من أسمائها تدعى " حنا " – وليس هذا ما يهمنا لأن القرآن لم يفصح عنه لأنه ليس بذات أهمية فى القصة ولكن ذكرته من باب العلم بالشيئ.
يقول الله سبحانه فى سورة آل عمران الآيات 35 و36
إذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًافَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(35)فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(36)
هذا قول الله سبحانه على لسان إمرأة عمران، ولنلقى نظرة سريعة على الآيتين، نجد أن قول إمرأة عمران حتى نهاية قولها " قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى " ثم تتدخل جملة إعتراضية " وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ " ليست من كلام إمرأة عمران، ثم يكتمل قول إمرأة عمران ب " وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ(36)
هذه مجرد نظرة سريعة فى طريقة صياغة بعض الايات فى القرآن الكريم، ويوجد من ذلك وغيره الكثير الكثير الذى يجب علينا أن نتدبر هذا الكتاب على قواعد وأسس من القرآن ذاته وليس من خارجه.
أول ما نلاحظ أنها قالت فى البداية " إنى نذرت " النذر من الأصل نذر، والنذر معروف لدينا. أرادت أن تقدم ما في بطنها لله ، تصورته مولوداً ذكراً يكون في خدمة الخلق ، وفي الدعوة إلى الله! أنت عليك أن تنوي نية طيبة ، وتعمل جاهدا على تحقيقها وانتهى الأمر ، وعلى الله الباقي.
وقصة النذر تكشف لنا عن قلب "امرأة عمران" - أم مريم - وما يعمره من إيمان ، ومن توجه إلى ربها بأعز ما تملك . وهو الجنين الذي تحمله في بطنها . خالصا لربها محررا من كل قيد ومن كل شرك ومن كل حق لأحد غير الله سبحانه.والتعبير عن الخلوص المطلق بأنه تحرر تعبير موح . فما يتحرر حقا إلا من يخلص لله كله ويفر إلى الله بجملته وينجو من العبودية لكل أحد فلا تكون عبوديته إلا لله وحده . . فهذا هو التحرر إذن . وما عداه عبودية وإن تراءت في صورة الحرية.
إذْ قَالَتْ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا
قدمت ما في بطنها لله عز وجل محرر من كل شائبة ! لا تبتغي إلا وجه الله. ثم قالت:
فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ....أدب الخطاب مع الله القوى الجبار، أدب وكأنها تقول لو سمحت ربى تقبل منى ما فى بطنى، أعز شيئ على أى أم مهما كانت هذه الأم.
تصور هذه السيدة ، امرأة عمران أنها ستنجب ولداً ذكراً يكون في خدمة الخلق في المعبد ، يعبد الله ، ويدعو إليه ، فلما وضعتها قالت :... رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى.... اختلف الأمر... الله يطمئنها أنها وإن كانت أنثى ، لكنها سيكون من نسلها أنبياء كبار فأنت قد تأتيك أنثى ، وأنت لا تعلم أنه قد تنجب ولداً ذكراً يملأ الأرض علماً .
الله يطمئنها... وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ... أنت عليك أن تنوي نية طيبة وتعمل لتحقيق هذه النية، وانتهى الأمر ، وعلى الله الباقي .
ثم قالت:... وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ.... ذلك بعد أن طمأنها ربها فلابد ان يزداد إيمانها وصدقها وثقتها بالله سبحانه الذى لا مثيل لها . هذه المرأة المؤمنة بعد هذا الإطمئنان الربانى، بدأت تدعو ربها فتقول: ... وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ... الدعوة ليست للمولود فقط ولكن إمتدت إلى الذرية، مثال رائع فى العبودية لله سبحانه ومثال لقوة العزيمة من إمرأة عادية وصدق النية مع الله العلى القدير ثم وكلت القوى الجبار ليحمى إبنتها وذريتها وإن لم يكن الله السميع العليم القادر على ذلك فمن يقدر غيره سبحانه وتعالى.
وتتوالى الأحداث وحين علِم علاَّم الغيوب بصدق النية والإخلاص فى التوكل عليه، قال سبحانه:
" فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا " هذا القبول المبارك، نتيجة صدقها مع ربها وهذا مثال لكل من يؤمن بالله إيمانا خالصا أن الله سبحانه يستجيب ويزيد. أي تقبلها بأعلى أنواع القبول ، وحينما تكون مخلصاً لله عز وجل يتقبل الله عملك، لماذا تقبلها ربها بقبول حسن ؟ لأن التي نذرت ما في بطنها محرراً من كل شائبة ، من كل شرك ، خال من مطالب دنيوية ، فكلما ارتقت نياتك الطيبة كان القبول حسنَا.
ولننظر إلى قول الله سبحانه فى هذه المقولة البسيطة قليلة الكلمات:
1- قبول حسن ، 2- أنبتها نباتا حسنا....ما معنى ذلك، نقرأ سويا معنى هذا الكرم الإلهى:
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ " 3:43
ويقول عز من قائل ليوضح لنا القبول الحسن فقال: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (21:91
هنا كلام دقيق يصهر القلوب المتحجرة عن عبادة الواحد الأحد، فالقبول الحسن والنبات الحسن يتضح بإختصارفى الإصطفاء الأول والطهارة ثم الإصطفاء الثانى على نساء العالمين ثم نفخ فيها من روحه وجعلها وإبنها آيه للعالمين... سبحان الله العظيم، وفوق كل ذلك حفظهما من الشيطان الرجيم.
لم يكتفى سبحانه بالإصطفائين والطهارة وحتى تتم مشيئة الله ويكتمل الإنبات الحسن أمرها بالقنوت لرب العباد وبالسجود والركوع وليتم كل هذا تحت عنايته سبحانه فكفلها زكريا...
3- كفلها زكريا... زكريا النبى يتكفل هذه الإمرأة المؤمنة من سلالة آل عمران الذى إصطفاهم ربهم على العالمين، كما إصطفى آل إبراهيم.
" كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ".
" أنى لك هذا... " لماذا سأل النبى زكريا هذا السؤال؟ كانت مريم تتعبد فى محرابها، وهذا المحراب لا يستطيع أحد الدخول إلا عن طريق النبى زكريا، فلما وجد عندها رزقا وهو لم يأتى به فكان هذا السؤال، ولننظر فى الإجابة من هذه المرأة المؤمنة القانتة وإبنة إمراة صادقة مع الله سبحانه فى نيتها وتوكلها على ربها، فكانت الإجابة ... هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ". يا لها من إجابة يجب علينا نحن معشر المسلمين أن نقتدى بهذه المبادئ الروحانية التى لا مثيل لها فى مجتمع مهما كان من التقدم الظاهر الدنيوى، وهي كلمة تصور حال المؤمن مع ربه واحتفاظه بالسر الذي بينه وبينه . والتواضع في الحديث عن هذا السر لا التنفج به والمباهاة ! كما أن ذكر هذه الظاهرة غير المألوفة التي تثير عجب نبي الله زكريا . هي التمهيد للعجائب التي تليها في ميلاد يحيى وميلاد عيسى. مبادئ وإيمان وعقيدة سليمة ونية خالصة لله سبحانه بدون طلب أجر أو ثواب أو مصلحة شخصية دنيوية.
فماذا كان تصرف النبى زكريا بعد كل ذلك؟
" هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ " 3:83
كلمة يجب أن نتوقف معها قليلا، هُنَالِكَ ،هنالك فى هذا الموضع تشير إلى أن النبى زكريا دعا ربه فى نفس الوقت وفى نفس المكان- المحراب- والنبى زكريا كان رجلا مسنا ووهن العظم منه وإمرأته عاقر، لذلك فكر فى الأسباب وقال له عقله المجرد بالرغم أنه نبى، بأنه لا يمكن أن ينجب طفلا يورثه لوجود هذه الأسباب. ونسى - والله أعلم- أن مسبب الأسباب هو الذى لا أسباب عند المشيئة الربانية ولا أسباب تحده من أن يُدبر الأمر.
نجدنا أمام حادث غير عادي . يحمل مظهرا من مظاهر طلاقة المشيئة الإلهية , وعدم تقيدها بالمألوف للبشر الذي يحسبه البشر قانونا لا سبيل إلى إخلافه ومن ثم يشكون في كل حادث لا يجيء في حدود هذا القانون فها هو ذا "زكريا" الشيخ الكبير وزوجه العاقر التي لم تلد في صباها . . ها هو ذا تجيش في قلبه الرغبة الفطرية العميقة في الخلف - وهو يرى بين يديه مريم البنية الصالحة - فيتوجه إلى ربه يناجيه ويطلب منه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة. لقد استجيبت الدعوة المنطلقة من القلب الطاهر الذي علق رجاءه بمن يسمع الدعاء ويملك الإجابة حين يشاء.
لقد استجيبت الدعوة ولم يحل دونها مألوف البشر الذي يحسبونه قانونا . ثم يحسبون أن مشيئة الله - سبحانه - مقيدة بهذا القانون ! وكل ما يراه الإنسان ويحسبه قانونا لا يخرج عن أن يكون أمرا نسبيا - لا مطلقا ولا نهائيا - فما يملك الإنسان وهو محدود العمر والمعرفة وما يملك العقل وهو محكوم بطبيعة الإنسان هذه أن يصل إلى قانون نهائي ولا أن يدرك حقيقة مطلقة . فما أجدر الإنسان أن يتأدب في جناب الله . وما أجدره أن يلتزم حدود طبيعته وحدود مجاله فلا يخبط في التيه بلا دليل وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطارا من تجاربه هو ومن مقرراته هو ومن عِلمِهِ القليل.
الخلاصة:
بدأت امرأة عمران تدعو ربها أن تنجب، وإذا بمفاجأةٍ عجيبةٍ، أن يستجاب الدعاء، وإذا بالجنين في أحشائها يتحرك،ولاحظ أن كل هذا بدأ بنيتها، وعندما استجاب الله لها وهبت ما في بطنها لله. عادةً ما ينذر الناس من أجل أمورٍ دنيوية، كأن ينذر أحدٌ بشيء ما إذا وفق في العمل الفلاني مثلاً، لكن لم نر قط نذرًا من أجل الدين كما فعلت امرأة عمران التي نذرت إن كان ذكرًا ستكون حياته كلها من أجل الله، وهي من الأصل لم تطلب الإنجاب لحاجةٍ في نفسها، وإنما دعت الله لترزق بولدٍ تكون حياته في سبيل الله.
إن لإمرأة عمران قضيةٌ أخرى تشغلها ألا وهي القبول، فهي تخشى ألا يتقبل الله منها ما نذرته، فهي امرأةٌ صاحبة رسالة، تمكنت منها وسيطرت على كيانها والله تعالى يعلم صدق النوايا، فإن كانت النية خالصة، سيبارك الله ويتقبل،كما في نية ونذر امرأة عمران، حيث امتدت العائلة وستبقى ليوم القيامة.
تخلصت امرأة عمران من كل شريك في نيتها، وأخلصت أن يكون ما في بطنها لله وحده، لا لعزوةٍ تستشعرها بولد، ولا لمتاعٍ في الدنيا.
وتأتي دقة استخدام كلمة (مُحَرَّرًا) لأن كمال الحرية يكمن في أن يكون الشيء لله وحده خالصًا له وحده، فكلما كان المرء أسيرًا لشيءٍ ما، كأن تكون أسيرًا لشهرةٍ، أو أسيرًا لمنصبٍ، أو معصية، أو أسيرًا لكرسي فقد فقدت حريتك.عدما نذرت زوجة عمران ما في بطنها لله وسألته تعالى القبول جاء الرد مباشرةً، فهي استجابة من السميع العليم.وما أرادته امرأة عمران لا تستطيع الأنثى أن تفعله، لكن كأنها رسالةٌ من الله لنا، يريد فيها أن يعلمنا أن ليس الذكور فقط هم من باستطاعتهم النصر والعزة، فها هي مريم التي ستصبح سيدة نساء العالمين، وستدل على صفة الله الخالق بما سيحدث لها من معجزة ولادتها لعيسى عليه السلام، الذي سيكون لها أثرٌ بالغٌ في الأرض.
وكل هذا الامتداد وتلك البركات بسبب نية الجدة المخلصة لله، وباكتشافها أن ما حملته أنثى، خشيت ألا يكون الله تقبل منها ما نذرت، لكن لأنها ثابتة على ما نوت، رغم أنها وضعت أنثى فهي مصرةٌ على هدفها، فإن لم تستطع هي تحقيق الهدف، فلعل يخرج من ذريتها من يحقق ذلك، وأول ما دعت به للمولودة أن يصرف الله عنها وذريتها الشيطان.
درسٌ آخر، فالدعاء بلا شك مستجاب، وإن تأخرت الإجابة، فلله قوانينٌ في أرضه، ولكل شيء وقت وموعد، فزمن عيسى لم يكن وقتها، والتغيير لم يحن آنذاك، ولكنّ التجديد موجودًأ ودعوتها لم تذهب سدىً، وستجاب بعد حين، وستصبح ابنتها هي أم عيسى؛ فالتغيير والإصلاح يحتاج إلى وقت، وربما الجيل الموجود في ذاك الوقت ليس هو من استحق النصر، وقد يكون هو المسئول عما يحدث، قد يكون جيلاً متخاذلاً لم يعمل، وقد يكون جيلاً عاملاً، لكن الأمر احتاج إلى وقتٍ لجني ثمار ما زرع.
فى جملة واحدة نستخلص من هذه القصة، النية الصادقة الخالصة لله سبحانه وتعالى هو الطريق إلى الله العظيم وإعلم انه يستجيب ويزيد طالما النية خالصة والتوكل محررا من أى شيئ غير الواحد القهار.
إلى هنا تنتهى قصة جدة عيسى عليه السلام ونتوقع قريبا إن شاء الله تعالى قصة أم موسى عليه السلام ثم نستنبط العبر والدروس من إمرأتين - جدة عيسى عليه السلام وأم موسى عليه السلام – ليكونا قدوة للمؤمنين والمؤمنات وخاصة فى عصرنا هذا عصر الجاهلية المعاصر.