إدارة الحضارة ..والترتيب التوقيفي
هناك ثمة مقالة تقول
أنه إذا أردت أن تعرف كيفية بناء الحــضارة ، فاقرأ القرآن بترتيب النزول ..!
أما إذا أردت أن تعرف كيفية إدارة الحضارة التي تم إنشاءها بالفعل ، فاقرأ القرآن بترتيبه التوقيفي ..!!
ذلك لأنبناء الحضارة يحتاج من كل فرد في مجتمع ما .. تركيبة نفسية آمله وتغيرا جذريا في مفاهيمه واهتماماته ، بل وفي أحلامه وطموحاته ، وقد اهتم رسول الإسلام الخاتم بذلك في بداية الدعوة واضعا نصب عينيه مضمون الآية 11 من سورة الرعد
{ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
وجاءت الآيةبصيغة الجمع لتشير إلى أن الجموع إذا تغيرت - إلى الأحسن - صارالتقدم حتمية بديهية ولن تتغير الجموع بطبيعة الحال إلا إذا تغيرت مفاهيم كل فرد فيها .
لذا بدأ الإسلام منذ بدأ.. على يد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في تقصي عملية تغيير الفرد كل في ذاته ، بإبدال ما كان عليه من عادات وأعراف ومسلـَّمات ، إلى معتقد جديد وعقيدة سامية ، بنوابع ذاتية وتغيرات وجدانية تحدث في النفس البشرية بمجرد استماعها لآيات الذكر الحكيم وتسمُعِها لها ، وفي هذا سر ديمومة بقاء الآية مادام في الدنيا بقاء.
فآية القرآن تختلف عما سبقها من آيات رسل الله والذين بعثوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، فكلها جاءت مشاهدة منظورة لقوم النبي والذي تجري على يديه الآية ، والآية بهذا المفهوم تكون قهرية الإيمان ، أي هي قاهرة لمن يشاهدها على الإيمان برسالة النبي والذي تجري على يديه الآية وكلماته ، فما هو الحال مع من لم يشاهدها ؟
أما القرآن الكريمفتقع معجزته الأولى في منطقة أخري من البناء الإنساني ، فهو جاء مسموعا ليتخلل الوجدان ويحدث التحول داخليا إلى الإيمان بوحدانية الله ذاتيا ، ومثل هذه الشخصية التي تم تبدلها دون قهر ودون إلحاح وبحرية كاملة
{ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) }
مثل هذه الشخصية ، والتي انبعثت بداخلها أنوار الإيمان ، هي بذاتها التي سوف تسعى إلى التغيير وتسعى إلى البناء وتسعى إلى الأفضل، ولا يقتصرهذا التحول الوجداني الذاتي على فرد بعينه أو زمن معين ،أوجماعة محددة ، أو بقعة خاصة من بقاع الأرض ، كما وأنه لا يتوجب وجود رسول الله بنفسه ليباشر هذا التغيير وإنما الفضل كل الفضل يرجع إلى الإستماع إلى آيات القرآن بإنصات وتمعن ، أو قراءتها بتدبر وتفكر كان ما كان الشخص ، وكان ما كان الزمن . وإن شئت المزيد من التفاصيل فارجع إلى كتاب
(( تفسير القرآن الكريم بين القدامى والمحدثين ،،، الأستاذ جمال البنا
دار الفكر الإسلامي ،،، رقم الإيداع 17012 / 2003 ))
كانت هذه أول ما في القرآن من دلائل المعجزة ، أما ثاني هذه الدلائل هي في
ثبات الصيغة اللغوية للنص مع حركة المحتوى
وذلك لأن الأولى إنما تعبر عن علم الله المطلق ، وهو كمال المعرفة
أما حركة المحتوى فتشير إلى طابع النسبية في الفهم الإنساني .
وبهذا المفهوم ، فإن الكتاب ( القرآن ) لا يعد تراثا ،
إنما التراث هو الفهم النسبي للناس له في عصر من العصور.
وللمزيد إرجع إلى السفر العظيم للمؤلف الفذ الدكتور مهندس / محمد شحرور في كتابه
(( الكتاب والقرآن ..قراءة معاصرة ،،، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع سورية – دمشق ))
وهكذا تواترت آيات القرآن في البداية لتكريس هذا التكوين الإنفرادي ، والذي ما لبث أن وجهته الآيات إلى تشكل روح الفريق وإلى حتمية العمل الجماعي ، ذلك لأن عقلانية التوجيه بعدما أشبعت حاجاته الوجدانية ، أتجهت به إلى إشباع إحتياجاته الحياتية ..، فكان أن بنيت الشخصية الجماعية الراغبة في التعديل والمستحثة على التغيير ، والتي تم بها بناء الدولة على أسس حضارية ، ومقومات انسانية ، فتوجب بعدها وقد تم البناء ، أن تكون هناك الدساتير المنظمة ، واللوائح المفسرة والتي تدار بها الحضارة .
إن الناس في صدر الإسلام في شبه جزيرة العرب ، تفاعلوا مع الكتاب ( القرآن ) وكان تفاعلهم هو الإحتمال الأول ، الثمرة الأولى للإسلام ، وليس الوحيد ، وليس الأخير ، وقد كان هذا التفاعل إنسانيا في محتواه ، إسلاميا قوميا في مظهره ، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بهذا التفاعل وكان لنا الأسوة الحسنة .
فالملحظ المهم أن الآيات المكية ( والقصود بها أنها هي التي تنزلت قبل الهجرة) كلها جاءت لتغيير العقيدة ، وابدال الشخصية مما كانت عليه ، إلى شخصية جديدة واعدة ، ولنا أن نقف كثيرا أمام أول ما تنزل من الذكر من حث على القراءة { إقرأ } وفيها أهم مفاتيح المعرفة ، حيث لن يكون هناك تغيير إلا بالنهل من العلم المسطور وأيضا بتأمل الكون المنظور ، ومن هذا وذاك تكمل الحلقة المعرفية والتي توجد الثقة بالنفس ، للتحليق في سماوات الإبداع وانبثاق الأفكار الجديدة والمتجددة والتي بها .. وبها فقط يكون التغيير .
أما السور المدنية فجاءت كلها دستورا ينظم الحياة من زواج وطلاق وعتاق إلى إرث وملكية ومعاملات تجارية وإبرام للعقود ، لتغطي بذلك كل مناحي الحياة تنظيما وتقليما ( وضع مواصفات للشئ وتعظيم أسلوب استخدامه ) ، وهذا الترتيب يتناسب مع فكرة وبديهية بناء الحضارة .
أما الترتيب التوقيفي ( وهو الترتيب الذي عليه كتاب الله حاليا) ، فنلاحظ أنه قدَم السور المدنية ، في أول الكتاب ، فبعدما تم بناء الشخصية المسلمة ، وبناء الدولة المتحضرة ، كانت الحاجة إلى إبراز أهمية الإلتزام باللوائح والقوانين المنظمة ، فجاءت سورة البقرة ثم آل عمران ثم النساء ثم المائدة وفي هذا إشارة إلى كيفية إدارة الحضارة التي تم إنشاؤها بالفعل.
ومما يؤكد لنا ذلك أيضا ، أن فروض العبادات جاءت متأخرة عن بداية الرسالة ، فالصلاة مثلا فرضت بالنظم الذي نؤديها به في العام العاشرللبعثة ، وفريضة الصوم فرضت في العام الثاني الهجري أي الخامس عشر للبعثة ، أما الزكاة فلم أقف على موعد محدد لفرضها لكن الثابت أنها جاءت لصيقة بالصلاة في ستة وعشرين موقعا قرآنيا من أصل إثنتين وثلاثين مرة هو عدد ظهور لفظ الزكاة في القرآن مما يشير إلى ارتباطهم زمنيا في الفرض.. ، أما فريضة الحج فجاءت كآخر فرض فرضه الله على المسلمين حيث جاء فرضه في العام التاسع الهجري ، وخرج وفد الحجيج الأول بقيادة الصدِيق ( أبو بكر بن أبي قحافة ) ، ولما جاء العام التالي ( العاشر الهجري ) وفيه خرج رسول الله قائدا لوفد حجيج ذاك العام ،حيث قال " خذوا عني مناسككم " ونحن وعلى هدي رسول الله ننسخ هذه المناسك وكما أداها رسول الله تماما ، وتواتر عنه أنه كان يقول عندما يستفتيه أحد سائلا التخفيف
"إفعل ولا حرج " تسهيلا وتهوينا على المسلمين .
هذه الحجة التي أطلق عليها ( حجة الوداع ) حيث أنه قبض بعدها بثلاثة أشهرعلى أرجح الأقوال. .
وهذا يعني أن أول فرض عبادي فرض على المسلمين جاء في العام العاشر للبعثة ، ويعني أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يتبع آيات الله المنزلة علية تباعا كان مهموما بتغيير الشخصية الإنسانية القائمة ذاك الحين في عملية أشبه ما تكون بعملية (غسيل مخ ) متتابعة بأوامر تتنزل من السماء.
كان في مرحلة إنشاء لشخصية جديدة آملة ، وبمجرد ما أن حدث التغيير لشخصية تلو شخصية ، فكان أن تكونت شخصية جماعية نابضة بالحياة وبالرغبة في التطور إلى الأفضل والأكمل والأحسن .
وكان يعني هذا إنشاء حضارة لشرذمات قبلية وتجميعها وصهرها ليعاد تشكيلها في صورة دولة متحضرة جاهزة للإنطلاق إلى نشر دعوة الحق والعدل والمساواة والوحدانية كانت جاهزة تماما لنشر دين الله .