ترميم أسرة الأيتام من خلال نكاح أمهاتهم
قال تعالى : [ وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ] النساء 3
إن عنوان النص هو كفالة الأيتام ، وليس إباحة تعدد النكاح كما ذهب إليه الفقهاء واقتطعوا جواب الشرط من النص [ فانكحوا ما طاب لكم من النساء ] عن فعل الشرط [وإن خفتم ألا تقسطوا ] وعدوه نصاً متكاملاً ,فهذا عمل قبيح في واقع الحال ، لأنهم كرسوا مفهوماً لم يرده الشارع من خطابه السابق !! وهذه العملية [ التعضية ] من الفقهاء يستخدمونها في التعامل مع النص القرآني بصورة دائمة فيخرج معهم فقهاً عجيباً وغريباً ويعطونه صفة الفقه الإسلامي, وينشرونه بين الناس على هذا الأساس ، والدارس لهذا الفقه القائم على التعضية للنص القرآني يجده فقهاً شيطانياً وليس فقهاً إسلامياً !!! .
ومفتاح فهم النص هو دراسة دلالة مفرداته الأساسية التي هي :
الخوف ، القسط ، اليتامى ، العدل .
1- خوف : كلمة تدل على حالة شعور الإنسان بجسامة الأمر وعظمته .
فكلمة الخوف لا تعني الذعر والفزع ولو أنهما قد ينتجان عن خوف الإنسان .
قال تعالى : [ و أما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى ] النازعات 40-41
والخوف من الله ليس الذعر والفزع منه ، وإنما استحضار الشعور بعظمة مقام الرب .
2- قسط : كلمة تدل على التجزئة والقسمة ودفع ذلك إلى جهة ما .
إن دلالة كلمة ( قسط ) غير دلالة ( عدل ) كما أنها لا تعني الظلم كما هو شائع في التراث .
قال تعالى : [ فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين ] الحجرات 9
إن كلمة ( القسط ) معطوفة على كلمة ( العدل ) والعطف يقتضي التغاير ، كما أن اختلاف المبنى يؤدي إلى اختلاف المعنى, فالحكم بين الناس ينبغي أن يكون بالعدل ، أما تنفيذ ذلك الحكم على أرض الواقع يلزم له عملية التجزئة والمرحلية ( القسط ) لما في هذا الأمر من خير ونفع للناس وإلا استحال رد حقوق الناس لبعضهم بعضاً .
قال تعالى : [ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً ] الجن 15
أي الذين يتعاملون مع أوامر الله بصورة التجزئة والقسمة يأخذون ما يوافق هواهم ويحقق مصالحهم الشخصية ويعرضون عن الأوامر الأخرى التي تلزمهم بواجبات تجاه المجتمع أي إسلام تقسيطي [ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ]البقرة 85
3- اليتامى : جمع كلمة يتيم وهي تدل على الأولاد الذين فقدوا والدهم وهم دون سن البلوغ والرشد سواء أكانوا ذكوراً أم إناثاً .
فإذا وصل الأولاد إلى بدء سن البلوغ والرشد ارتفعت عنهم صفة اليتم وبالتالي لا تصح تسميتهم يتامى . وبالتالي فالنص لا يتكلم عن نكاح اليتامى لأن دلالة كلمة ( اليتامى ) تشمل الذكور والإناث, غير أن اليتامى ليسوا بمحل نكاح لقصورهن على صعيد البلوغ الجسمي ، والقصور عن سن الرشد [ أطفال ] قال تعالى : [ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم .. ] النساء 6
4- عدل : كلمة تدل على علاقة بين طرفين, ولا يمكن أن تكون في شيء واحد, ومن هذا الوجه نقول : المعادلة . ونقول : زيد عديل عمرو . وعِدل الحمل . أي نصفه .
فكلمة العدل تدل على المساواة بين الأشياء سواء أكان من خلال العطاء والتوزيع للثروات ، أم من خلال الجزاء على العمل خيراً أو شراً ، أم في الحكم على الأمور .
والحكم بالعدل بين الناس لا يعني المساواة بينهم في الأحكام والعطاء !! وإنما المساواة بين الإنسان نفسه والحكم الذي له أو العطاء حسب ما يستحق وحسب جهده أو حاجته.
فالعدل يقتضي التفريق بالجزاء بين الناس حسب عملهم وجهدهم وحاجاتهم . فالقوي لا يأخذ عطاءً مثل الضعيف ، والناجح لا يعامل مثل الفاشل [ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ]الزمر9 .
وبعد معرفة دلالة الكلمات الأربع نأتي لدراسة النص بصورة كاملة .
إن النص فيه فعل الشرط [ إن خفتم ] وجواب الشرط [ فانكحوا ] فما ينبغي التفريق بينهما في الدراسة أبداً .
فعلى ماذا يدل فعل الشرط [ إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ] ؟
بعد أن عرفنا أن كلمة ( القسط ) لا تعني العدل ، ولا تعني الظلم ، وإنما تدل على التجزئة والقسمة والدفع للشيء إلى جهة أخرى تكون دلالة فعل الشرط هي :
إن شعرتم بأنفسكم أنكم تستعظمون وتستبعدون عملية القسمة والتجزئة [ ألا تقسطوا ] للأيتام عن والدتهم وأن لا تأكلوا ثروتهم إن كان لهم ثروة من والدهم بصورة تقسيطية مع الزمن . فأتى جواب الشرط [ فانكحوا ما طاب لكم من النساء ] أي انكحوا أمهات اليتامى بقصد تحقيق العناية والحماية للأيتام وحفظ حقوقهم ، وبهذا التأويل يتم الربط المنطقي بين فعل الشرط وجوابه . ويتابع النص بالحض والتشجيع على ترميم الأسرة التي فقدت أحد ركنيها ( الوالد ) وصار فيها أيتام بأن يتعهد الإنسان أسرتين أو ثلاث أو أربع من خلال الزواج من أمهات اليتامى, ويقوم بالعناية والإشراف عليها, ويعوضهم عن والدهم المتوفى بأب جديد لهم يحنو ويعطف عليهم .
[ فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ] وهذا خطاب لرجل متزوج الأولى بدليل مجيء النص بالتعددية في النكاح الموجه إلى أمهات اليتامى, ويتابع النص توجيهه وتعليمه بقوله : [ فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ] بمعنى إذا شعرتم في قرارة أنفسكم بصعوبة الأمر وشدته عليكم من حيث عدم القدرة على العدل في تربية اليتامى من الأمهات المختلفة فانكحوا أمّاً واحدة وتعهدوا بتربية الأيتام, وكون النص أتى بذكر الواحدة مما يدل على أن الخطاب موجه إلى رجل أعزب إذ لو كان متزوجاً الأولى أم أولاده لكانت أم اليتامى هي الثانية ولم يأت النص بصيغة [ فواحدة ] مما يؤكد على أن الشارع يوجه الرجال الذين لم يستطيعوا الزواج وتأسيس أسرة ابتداء إلى الانضمام إلى أسرة قائمة مع قصور فيها لفقدان الوالد فصارت أسرة مؤلفة من أم وأيتام, وهي بحاجة إلى زوج للمرأة ، وأب للأيتام فيأتي الرجل ويحل محلَّ الزوج والأب ، ويرمم الأسرة ويقوم بالحماية والعناية بها ، ويكسب هو زوجة وأطفالاً ومسكناً, فتكون الفائدة متبادلة بينهما, ويتم حل المشكلة بالنسبة للطرفين معاً بصورة إيجابية . ويتابع النص [ أو ما ملكت أيمانكم ] فإن عجز الرجل عن تعهد أسرة واحدة فليتوجه إلى نكاح ملك اليمين . فمن هي ملك اليمين ؟
إن ملك اليمين هي طبقة من الناس فقدت الحماية والحصانة الاجتماعية من خلال الضعف الاقتصادي بالدرجة الأولى ويتبعها العلم والثقافة . ولها في الواقع صور كثيرة تحقق منها في التاريخ صورة الرق التي كان الإنسان يفقد فيها قدرته على اتخاذ القرار ويتبع في ذلك سيده من حيث الملكية تصرفاً وانتفاعاً, ومع الزمن جفت هذه الصورة وفقد المجتمع صفة حق التصرف بيعاً وشراء لملك اليمين, وبقي محتفظاً بحق الانتفاع بهم خدمة وعملاً . وهذه الصفة لملك اليمين لا يمكن أن ترتفع في المجتمعات أبداً ، لأن من طبيعة الحياة الاجتماعية التفاضل والفروقات بين الناس لتتم عمارة المجتمع . فحض الشارعُ الإنسان الذي لا يستطيع تأسيس أسرة على أن يقوم بالزواج من ملك اليمين وهن النساء اللاتي ينتمين إلى الطبقة المتدنية [ العاملات ، المستخدمات ، الفقيرات ... ] ، وذلك لعلاج ثغرة اجتماعية وتفعيل هؤلاء النساء وخلطهم بالمجتمع والطبقة الأعلى حتى تتقلص ظاهرة ملك اليمين في المجتمع إلى الحد الأدنى, وقد جعل الشارع لملك اليمين أحكام خاصة مثل التهاون بالمهور والتنازل عن بعض الحقوق وهكذا . وتابع النص أن ذلك الفعل الخيري الطوعي من الرجل أمر مرتهن بمقدرته المادية [ ذلك أدنى ألا تعولوا ] أي يصير عندكم عيلة كبيرة مسؤولة منكم وتعجزون عن معيشتها وتصابون بالفقر والعوز .
الخلاصة .
1- اهتمام الشارع بكفالة الأيتام وتأمين الجو الأسري المتوازن لحياتهم المتوفر فيه الحب والعطف والعناية . لذلك لا يجوز فصلهم عن أمهم أبداً, وينبغي على زوج أمهم أن يصير أباً لهم .
2- اهتمام الشارع بتأمين زوج للمرأة الأرملة كي تستعيد توازنها النفسي والاجتماعي .
3- اهتمام الشارع بمتطلبات الرجل, فعالج له ذلك من خلال توجيه وتعليق حل مشكلته بحل مشكلة اجتماعية حيث يتم الحل لكليهما معاً .
4- تعليم للمجتمع بأن يقوم بترميم خلاياه من خلال التكافل والتعاضد وتنازل الأطراف لبعضها ليتم بها التكامل, فوجه الرجل الذي لا يستطيع تأسيس أسرة ابتداء إلى أن يتزوج أم يتامى, وهي أسرة قائمة ابتداء أصابها ضعف وفقر بفقدان الأب فيأتي الرجل لينضم إليها ويصير زوجاً للأرملة وأباً للأيتام .
5- وجه الشارع الرجل الذي لا يستطيع أن يؤسس أسرة أو يقوم بالاعتناء بأسرة يتامى إلى النكاح من ملك اليمين, وهن النساء الضعيفات اجتماعياً ، فيتم حل مشكلة الرجل والمرأة ( ملك اليمين ) على حد سواء وهذا الزواج معفى من كثير من تبعات المسؤولية كالمهر والسكن مثلاً ومتروك تنظيم تلك العلاقة للمجتمع والعرف ولاتفاق الزوجين .
6- وجه الشارع الرجل إلى النظر إلى مآل الأمور [ ذلك أدنى ألا تعولوا ] قبل الإقدام على فعلها ، لأن الأمور تأخذ حكم الخاتمة من حيث النجاح أو الفشل [ إنما الأعمال بالخواتيم ].
7- وجه الشارع الرجل إلى النظر إلى ديمومة الأمر واستمراره وليس إلى مجرد البداية فقط . فالنكاح وتأسيس أسرة لا بد لها من دوام واستمرار ونجاح, ومؤهلات ثقافية ومادية, وإلا قام الرجل بإضافة مشكلة اجتماعية للمجتمع سوف يتبعها ويتولد منها مشاكل أخرى, لأن هذه المشكلة هي نواة تنمو وتتوالد وتتكاثر فتصيب الخلية الاجتماعية بالسرطان, الذي بدوره سوف يؤثر على خلايا المجتمع .
8- سكت الشارع عن التعدد في النكاح من غير أمهات اليتامى ,وبالتالي ليس هو مطلباً شرعياً,و الإنسان غير مأجور عليه ، وإنما هو من الأمور المباحة المتروك تنظيم ممارستها إلى ما يراه المجتمع منعاً أو سماحاً أو وضع شروط له.