-1-
نعم: لا تنتخبوا العَلْمانيين في مصر!
نداء وجهه "مولانا ": الشيخ يوسف القرضاوي.
وقبل هذا النداء، كانت هناك دعوات صريحة، وهامسة، وسرية، لزعماء الإخوان المسلمين وحزبهم الجديد (الحرية والعدالة) بعدم انتخاب العَلْمانيين في انتخابات مصر التشريعية، في نهاية هذا الشهر (نوفمبر). ويقال بأن جماعة الإخوان المسلمين اشترت عشرات الآلاف من الخرفان لتوزيع لحمها على الناخبين في بلد لا يعرف فيها معظم الناس اللحم الأحمر، والمشوَّح بالشحم الأبيض، إلا في المسلسلات التلفزيونية، والأفلام السينمائية، وفي فترينات اللحم في السوبر ماركت الفخم، وعند الجزَّارين، وفي سواعد الأمهات، والأخوات، والقريبات، المكشوفة!
-2-
سبق لجريدة "الشروق" الصادرة عن "دار الشروق"، المحسوبة على الإسلامويين، والناشرة لمعظم تراث "الإخوان المسلمين" الديني والسياسي، أن قالت : " أن عدداً من الملصقات في مساجد كليات جامعة القاهرة، تروِّج لأفكار تهاجم الدولة المدنية، وتصف العَلْمانية بأنها دعوة لحرية الإلحاد والفجور، وتدعو لقيام دولة إسلامية لا مدنية، على أساس أن المدنية هي اللادينية، والإلحاد، ، طبقا لما جاء في الملصقات."
واعتبر ملصق آخر، العَلْمانية رفضاً للديانات السماوية، والاهتمام بالدنيا على حساب الآخرة، ونفي الدين عن كل مجالات الحياة، وطالب الملصق بدولة إسلامية في مصر، ورفض بوضوح قيام دولة مدنية، طبقا لفتوى منسوبة لأحد رموز التيار السلفي، في الإسكندرية، ياسر برهامي.
-3-
إذن، لا جديد في نداء "مولانا" الشيخ القرضاوي، حيث دعت لهذا ، ونادت به، معظم الفئات والأحزاب السلفية في مصر "المتدينة" تديناً شعبياً كاسحاً، كما قالت الباحثة التونسية زهيّة جويرو في كتابها "الإسلام الشعبي". فهذه هي مصر الكارهة – شعبياً - للحداثة والعَلْمانية والديمقراطية العصرية بالتالي، لفقرها وعوزها، وانتشار الأمية فيها، والعيش بين القبور، وتحت الكباري، وفي المناطق العشوائية الكثيرة.
وقد سمعنا، وقرأنا، وشاهدنا، كيف أن الأحزاب السلفية الجديدة في مصر، تعتبر كل من سينتخب مرشحاً عَلْمانياً بأنه كافر، وسيدخل النار(عدنا بذلك إلى القرون الوسطى، حيث كانت تُوزع صكوك الغفران لدخول الجنة، وغفران الخطايا. وكانت هذه الصكوك تباع بأثمان مختلفة. فصك غفران خطيئة الزنى بمائة وخمسين دوكية [الدوكية = 1.4 دولار]. وصك غفران قتل ابنتين بـ 800 دوكية.. الخ. وكانت الكنيسة تردد، لكي تبيع أكبر عدد من صكوك الغفران: "إن الله لا يريد موت الخاطيء، بل يريده أن يحيا، ليدفع ثمن خطيئته". وكانت تتم عمليات الدفع بواسطة البنوك. وفتحت الكنيسة حسابات لها في معظم بنوك أوروبا. وهكذا، باءت بالفشل كافة محاولات التكفير عن الذنب بالحج إلى روما، كما كان ينادي البابا ليو العاشر 1475-1531).
-4-
وسبق في مصر، أن كفَّر الشيخ السلفي عبد الصبور شاهين المفكر العَلْماني الراحل نصر حامد أبو زيد ("البعبع"، الذي منعته الكويت من دخولها) لدفاعه عن العَلْمانية، وحصل الشيخ السلفي شاهين من المحكمة المصرية، على فتوى بتفريق أبي زيد عن زوجته، مما اضطر الراحل (أبو زيد) إلى الهروب بريشه، والهجرة إلى هولندا ليعمل استاذاً في جامعة ليدن عام 1995.
-5-
كان هناك خيار بين الوضع الدكتاتوري القروسطي الراهن في عالم الثورات العربية، والمستقبل الغامض الذي نراه الآن في بلدان الثورات العربية المتلاحقة، والذي وعد الإسلامويون بزهوره وطيوره. في حين كانت أحزاب المعارضة العَلْمانية ضعيفة، وهزيلة، وفقيرة، ومنافسوها من الإسلاميين أقوياء نتيجة لضعف هذه الأحزاب، وهزالها. وهؤلاء "الأقوياء" أنشأوا آلية اجتماعية لخدمة الناخبين الفقراء الجائعين في مصر، والأردن، والمغرب خاصة. فوزعوا في مصر الأغذية، والأضاحي في "عيد الأضحى" الماضي، ووفروا معظم الخدمات التي قصَّرت فيها الدولة، لكي يقولوا للناخبين: "نحن دولة الخير والرفاة". وفي الآونة الأخيرة، وجدت الأحزاب الإسلامية نفسها في مقدمة الركب الثوري التغيري، وقاب قوسين من استلام السلطة، بعد أن تم إقصاؤها في السابق، وعدم الاعتراف بشرعيتها السياسية، فارتعبت!
وكانت هذا الأحزاب الإسلاموية/السياسية تلقى – وما زالت - من الدكتاتوريات العربية الملكية والجمهورية، العزل، والممانعة، والسجن والتعذيب. ولكن رغم ذلك، ظلت وفية وحليفة – إلى حد ما – للأنظمة الملكية الخاصة التي - يقول الإسلامويون - أنها تُمثِّل جوانب من الخلافة الراشدية، التي يحلمون بها، ويتخيلونها. ففي الأردن - مثلاً – سُمح في بعض الأحيان لزعماء من الإخوان المسلمين الاشتراك في الوزارة. ولكن الأردن تحرك ضدهم عدة مرات. وأحياناً تمَّت مضايقتهم، عن طريق سحق أنشطتهم الاجتماعية والخيرية الحيوية، التي تزيد من شعبيتهم، ومنح الأصوات الانتخابية لهم من الفقراء والأميين والطامعين بدخول جنة السماء، بعد أن حُرموا من جنة الأرض!
-6-
ويواجه الإسلاميون مشكلة أخرى، وهي أنهم فريسة للشكوك الإيديولوجية المثيرة للقلق في الغرب خاصة - كما يقول الناشط السياسي المصري عمرو حمزاوي- فحزب "العدالة والتنمية" التركي – مثلاً- ، كان قد ناقش مع الغرب طويلاً "إسلامية" حزب "العدالة والتنمية"، وما تعني هذه التسمية. وفي لقاءات مختلفة مع الصحافيين الغربيين، أكد زعماء هذا الحزب، أنهم أبرياء من الإرهاب الديني، الدائر في الفضاء العالمي.
أما الإسلاميون في مصر، فقد دار جدل داخلهم بين من يتمسك بشعار "الإسلام هو الحل"، وبين من يرى ضرورة وضع برنامج سياسي أكثر تفصيلاً. ويُحتمل أن ينتهي هذا الجدل بانقسام حول سياسات الإدارة الاقتصادية، وحول حقوق المرأة، وحول حقوق الأقباط.
-7-
لا شك أن الإسلامويين مرعوبون وخائفون من النصر السياسي الساحق الذي حققوه في تونس، كما قال المفكر التونسي العفيف الأخضر (رسائل تونسية: لماذا ارتعبت "النهضة" من انتصارها؟ 17/11/2011). ولا يدرون ماذا يفعلون بالحكم والسلطة – وهم الجهلة في السياسة التطبيقية - التي جاءتهم بأكثر مما يتمنون ويحلمون. ولكن تلك الأيام تُتداول بين الناس. وهذا التداول مفيد جداً للعَلْمانية حيث سيكشف للشارع العربي فشل الخطاب الإسلاموي المتشنج والرومانسي، وهو ما يحاول الابتعاد عنه بذكاء الثعالب راشد الغنوشي، حين دفع بحزب "المؤتمر من أجل الجمهورية" إلى الأمام، ليتولى زعيمه (منصف المرزوقي) رئاسة الجمهورية، من أجل إحراقه في أتون الفوضى والصراع التونسي. وكان الإخوان المسلمون في مصر يقظين وفطنيين، فأعلنوا منذ بداية الثورة المصرية، في فبراير الماضي، بأنهم لن يتولوا السلطة، وإن كانت لهم لينة طيعة عاشقة الآن، وقد كشفت لهم عن ساقيها، بدعم من المجلس العسكري، كما سبق وقلنا لكم منذ ستة أشهر، ولكنكم سخرتم من قولنا ذاك. وتم إدراجنا في قائمة العملاء، وعبدة، وسدنة البيوت: الأبيض، والأسود، والأخضر، والأحمر!
-8-
يا "مولانا" الشيخ القرضاوي:
نداؤكم حق، ودعوتكم حق.
وهي عكس ما قلتموه تماماً في كتابكم الكريه والسيء ( الإسلام والعَلْمانية وجهاً لوجه) فلا أنت فهمت روح الإسلام المعاصر، ولا فهمت العَلْمانية العربية (هناك أكثر من عشرة أنماط للعَلْمانية). وتمسّكْتَ – كعادتك وكأصولي عتيق – بحرفية النصوص التراثية، وليس بروحها، وأفقها الواسع المطل، ليس على جهة واحدة، ولكن على كل الجهات الأربع.
وكنت بذلك، كـ "المُنْبَت، فلا أرضاً قَطَع، ولا ظهراً أبقى.
ولكن دعوتك للمصريين بانتخاب الإخوان المسلمين والسلفيين – لحرقهم من حيث لا تدري - وعدم انتخاب العَلْمانيين، هي أكبر خدمة يمكن أن تقدمها - أنت الأصولي العتيق - للحداثة والعَلْمانية في مصر والعالم العربي، وتُتوجك ملكاً للحداثة، ورسولاً كريماً للعَلْمانية العربية المعاصرة.
السلام عليكم.