طالعتنا الصُحف اليومية (المصرى اليوم/ الشروق) بأخبار مفادها أن المجلس العسكرى، ووزيرة من فلول النظام المخلوع، ووزير العدل، مُنهمكون فى تتبع ما تتلقاه بعض منظمات المجتمع المدنى فى مصر من منح وإعانات خارجية. وذكرت نفس المصادر أن نشطاء من المجتمع المدنى، منهم محمد محيى الدين، وماجد سرور، وأحمد سميح، وشباب ٦ أبريل، وسعد الدين إبراهيم، تتم مُخاطبة البنوك للكشف عن حساباتهم، وما تلقوه من تحويلات من الخارج.
وطبعاً، من حق أى مواطن، ناهيكم عن جهات سيادية، الاستفسار عن أى مُعاملات أو أنشطة لهؤلاء الأشخاص أو المُنظمات التى يُديرونها.
لكن يا حبذا لو طبّقنا نفس المعايير على أعضاء المجلس، وعلى الوزيرة الحائرة بين النظام السابق والنظام اللاحق.
ونرجو ألا يختبئ هؤلاء وراء «عباءة الأمن القومى»، فمُعظم سلاحنا، وغذائنا، ودوائنا يأتى من الخارج. والمعلومات عن ذلك مُتاحة سنوياً فى «دائرة جنيز». وإذا كانت منظمات المجتمع المدنى المصرية، وعددها طبقاً لسجلات وزارة التضامن حوالى ٢٥.٠٠٠ مُنظمة، وما تتلقاه من تلك المصادر الخارجية لا يتجاوز مائة مليون دولار، أى بمتوسط أربعة آلاف دولار لكل منظمة، فإن الجهات الحكومية تتلقى ٣٠٠٠ مليون دولار سنوياً- أى ما يوازى ثلاثين مرة مما تتلقاه كل المنظمات غير الحكومية، وبينما تخضع منظمات المجتمع المدنى المصرية لرقابة صارمة من الجهاز المركزى للمُحاسبات ومن الجهات المانحة نفسها، فإن القوات المُسلحة لا تخضع لأى رقابة. أليس المسؤولون هنا مواطنين وهناك مواطنين؟ أو هل يُضفى الزى العسكرى على صاحبه وطنية وطهارة، ليست لغيره من أبناء مصر المحروسة؟
هذا كله من ناحية الشكل، فماذا عن المضمون؟ إن حكومة مصر المحروسة تتلقى دعماً خارجياً يصل إلى ثلاثة مليارات دولار سنوياً. أى أنها تلقت منذ توقيع مُعاهدة السلام مع إسرائيل (١٩٧٧) ما يصل إلى مائة مليار دولار أمريكى، فهل استخدمت الحكومة هذا المبلغ الهائل فى تنمية مصر أو مُحاربة الفقر بين المصريين؟
فى مُقابل هذا العجز الحكومى، واقترانه بالتبذير، وشراء السيارات الفارهة للوزراء الحيارى، فإن منظمات المجتمع المدنى هى التى:
- تسدّ العجز فى تقديم الخدمات للمواطنين.
- تخلق فُرصاً للتدريب والعمالة فى المشروعات الصغيرة والمتوسطة.
- تُدافع عن حقوق الإنسان، وتكشف الانتهاكات التى يتعرض لها المواطنون.
- ترفع وعى الناس بحقوقهم، وفى مُقدمتها حقوقهم السياسية والمدنية.
ولولا جهود هذه المُنظمات لما قامت ثورة ٢٥ يناير بالشكل المُتحضر الذى قامت به، فتلك الثورة لم يقم بها أمثال الوزيرة الحائرة، أو أعضاء المجلس العسكرى الأعلى، أو أى موظف فى الدولة، إن الذى قام بها هم شباب مصريون لم يحسبوها بنفس معايير «الموظفين». فالموظف قد يُصيبه الإحباط أو الغضب أحياناً، ولكنه لا «يثور» ولا «يُبدع»، فالثورة والإبداع فى أى مجتمع هما عادة من خصال الشباب، ولذلك قيل فى أدبيات الثورات: «لا تثقوا فيمن هم فوق الأربعين». وفى قول آخر: «إذا كنت دون الأربعين ولم تكن ثائراً فإنك تكون بلا قلب.. أما إذا كنت فوق الأربعين ومازلت ثائراً فإنك تكون بلا عقل»!
خُلاصة القول أن شباب مصر هم قوام المنظمات غير الحكومية والحركات الاجتماعية، وهم مخزن الإبداع والثورة، فليتركهم الموظفون وشأنهم، حتى لو كان هؤلاء الموظفون بدرجة وزير أو حتى بدرجة رئيس جمهورية. ولسنوات طويلة من تولى حسنى مُبارك منصب رئيس جمهورية، وبسبب انعدام المُبادرة والخيال كان المصريون يتندرون عليه بأنه «موظف بدرجة رئيس جمهورية».
وعودة إلى الجمعيات والمُنظمات غير الحكومية، التى يُريد موظفون بدرجة وزراء تكبيلها، ومُلاحقة المسؤولين عنها، فليعلم هؤلاء الموظفون:
١- أن القائمين على هذه الجمعيات هم «متطوعون»، أى أنهم يبذلون من الطاقة، ويُنفقون من أوقاتهم دون مُقابل، بل إن بعضهم، ومنهم هذا الكاتب، يتبرّعون دورياً بآلاف الجُنيهات للعمل التطوعى.
٢- أننا لم نسمع ولا نعرف أن الوزيرة الحائرة أو زميلها وزير العدل قد أسسا فى حياتهما جمعية أو مُنظمة غير حكومية. وقديماً قالوا: «فاقد الشىء لا يُعطيه»، فأين لهما ولأمثالهما أن يفهما، ناهيكم أن يُقدرا أو يستطيعا تقييم طبيعة ودور المنظمات التطوعية؟
هذا لا يعنى أن القائمين على شؤون هذه المُنظمات «ملائكة مُطهرون»، لكن هذه المُنظمات نفسها لديها من وسائل الضبط والرقابة الذاتية ما يضمن سلامة أدائها.
إن المجتمع المدنى فى مصر، وتحديداً مركز ابن خلدون، هو الذى استحدث مُصطلح الشفافية فى اللغة العربية، قبل ثلاثين عاماً، وهو يعنى «الحُرية والصراحة» فى الكشف عن المعلومات الخاصة «بالشخوص المعنويين»، فليسأل من يُريد أن يسأل عن تمويل مُنظمات المجتمع المدنى، لكن، وبنفس المعايير، فإننا نطلب أن يُفصح كل مسؤول فى الدولة عما يؤول إليه من رواتب وبدلات وعطايا، من الداخل أو الخارج.
وعلى الله قصد السبيل