لا تحاول أن تفهم المشهد المصري!

محمد عبد المجيد في الأربعاء ١٦ - نوفمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

يـُخــَدِّرونك تحت زعم أنهم حُماة الثورة الينايرية المجيدة، ويمتدحون فيها وهم يمسكون الفأس، ويــثنون عليها وهم يغضــّون الطرف عن مطالبها، ويتغزلون فيها أمامك، ثم يهجونها إذا انصرفتَ!
الجسد المصري لم تنهكه، أو ترهقه مطالب الثورة، لكن الثلاثين عاماً من حكم الطاغية المخلوع بدأت في الإتيان بنتائجها عندما انتابت شعبــَنا حالةٌ من اليأس في أن فرصة التخلص من أزلام النظام تنحسر بسرعة مخيفة، ففي مصر تظل سياسة ســَدّ الأذنين قائمة، والتحكم في الشارع المصري عن طريق الغموض تترك الناس فريسة للحدس والتخمين والشائعات الممزوجة برغبة في الانتهاء من الوضع القائم بأي ثمن.
يصدر حُكم بمنع أعضاء الحزب الوطني المنحل من ممارسة النشاطــات السياسية وعلى رأسها الترشح لانتخابات مجلس الشعب لئلا تعود فلول النظام بصورة أوقح من سابقتها، ولكن رجال مبارك يعلمون مسارب وخبايا وخفايا كل الطرق الثعبانية التي تؤدي إلى انتصارهم في ساحة أعلنت من قبل أنهم وزعيمهم خرجوا منها منهزمين.
وتظن أنت أن هناك قوانين، وقاضيا، ومستشارين، وقراراً عادلا، فإذا بمحكمة أخرى يقوم عليها مفسرون آخرون لنفس القوانين، فيقرأون الحــُكم بصورة مخالفة تماماً، فهي ليس جريمة قتل أو سرقة ظــهرت بعد الحُكم أدلة وقرائن وشهود تثبت براءة متهم، إنما هي أهواء تحت زعم العدالة.
فالشهود الماثلون خارج قاعة المحكمة ناهزوا الثمانين مليونا، فرحوا بالحــُكم الأول، وظنوا أن العدالة ترى بعينين، فإذا هي تغلق واحدة وتعيد النظر بالأخرى!
تقرأ خبراً عن اعتصام أهالي دمياط حتى تقوم الدولة باغلاق مصنع، وتتعهد مصر بدفع غرامة عشرات السفن المتأخرة في ميناء رأس البر بسبب محاصرة الأهالي لها، لكن الإعلام المصري حاليا يعطيك نصف الخبر، بعدما كان في عهد مبارك يلقي في وجهك الخبر الكاذب المفبرك، وأنت لا تستوعب الآن معظم الأخبار غير المعلوماتية التي تنهمر على أدمغتنا من آلة الإعلام العجيبة، ولا تدري حرفاً عن كنه المشكلة أو ملابسات الأزمة الغامضة.
تقرأ عن اقتحام مجموعة مسلحة لمدينة بلطيم، واطــلاقها النار عشوائيا كما في الأفلام الأمريكية، ويسقط ضحايا، ثم يقوم محافظ كفر الشيخ بمحاولة اصلاح الخلاف بين المدينة وسوق الثلاثاء، فلا تستوعب رغم نسبة ذكائك المرتفعة جوانب الخبر، أو صورة واحدة من المشهد، فالإعلام في خدمة الغموض، والمطلوب منك أن تصمت، ولا تسأل عن الخلل في الخبر، فهل مدينة بلطيم تتشاجر مع قرية سوق الثلاثاء من أجل كيلو طماطم، أم هو خلاف قــَبــَلي وعائلي و..؟
تقرأ أن المستشار أحمد رفعت قرر تأجيل النظر في محاكمة أخطر مجرمي العصر حتى يأتي الشهود بأدلة جديدة، وتشج رأسك في الحائط غضبا، ثم تشدّ الشعر حزنا، وكمدا، وغماً على أسخف مسرحية، لكن السلطــة لن تنصت إليك، والمحكمة معزولة عن التاريخ والواقع، ورئيس المحكمة جاءوا به من كوكب بلوتو، فهو لم يسمع عن طاغية يحكي لنا الجنين في بطن أمه أنه آذاه قبل أن يولد.
يتلقى المستشار أوامر بأن الرجل الراقد أمامه بريء حتى تثبت إدانته، وأنه دخل خلسة إلى القصر الجمهوري وقضى فيه أقل من ثلاثة أسابيع رئيساً وزعيما لم يكن خلالها مسؤولا عن مئات أرواح مئات الشهداء من شباب مصر الأبرار، لكنه ، أي المتهم، لم يكن في المشهد المصري طوال ثلاثين عاماً.
الغريب في الأمر أن الناس بدأت في الاعتياد على رؤية الصورة المهزوزة كأنها واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فافتضاح مبارك، وبشاعة حُكمه، ودمامة نظامه الارهابي، وحقده وكراهيته وبغضه للشعب المصري لثلاثة عقود كاملة هي شيء من مبالغات الشارع لا يكترث لها السيد المستشار.
الأغرب أن المصريين كلهم، تقريباً، استجابوا للدخول في سباق الانتخابات، فقد تمكنت السلطــة من اقناعهم بأن من لم يراهن على الحصان الفائز فلن يسمع أحد صوته في مصر المستقبل، ودخلت السباقَ كلُّ الخيول المدربة والمـُسـَوَّمة والمريضة والمــُسنـّة، وتسلل من بينها حمير وبغال وبقر زاعمة أنها أيضا خيل من أصول عربية.
لكن منظمي السباق ليسوا بهذه البلاهة التي تصوّرهم عليها سذاجتنا المفرطــة، وعندما تضعك الدولة أمام ثمانية لصوص، والتاسع مشكوك في نزاهته، والعاشر شريف، فلا تتفائل بنتيجة التصويت.
إنها عبقرية القصر في كل عصر، ولمعان الذهب لكل من ذهب، وأصفار الحسابات عن اليمين لمكافئة الجبناء بكل ثمين.
تزداد حيرتك فتبلغ آهاتك السماء السابعة، والناس لا تبكي على عشرات المليارات المنهوبة من جيوبها المثقوبة، وأصبح الأمر عادياً، ولو أعلنت فرنسا غداً أو ألمانيا بعد غد، أو البحرين بعد أسبوع، وبعدها بدقائق تفجر إسرائيل قضية حسابات مبارك وأولاده لديها، فنحن لسنا في عجلة من أمرنا، والتسول من الأصدقاء فلسفتنا في تبرير عدم المطالبة بأموالنا.
يرتفع ضغط دمي ضعفين أو أكثر لدى التحديق في المشهد المصري عن قرب، فالوجوه كما هي، ومذيعة التلفزيون تشرح للمشاهدين كلمة ( بلطجية) فتقول بأنها من بــَلـْطـَــة، أي تلك التي استخدمها عادل إمام في فيلم ( الغول)، ووصلت مذيعتنا في العهد الجديد إلى منتهى ذكائها، فيرتفع كوليسترولي، وتتساقط دموعي على أطــهر وأعظم ثورات العصر.


تطرح سؤالا عبيطاً لا يوشي بأنك تفهم شيئا مما يحدث: لماذا لا يهاجم البلطجية وهم بعشرات الآلاف المسلحين كبار ضباط الدولة .. ووزراءها ومصارفها ومنتجعاتها ومنازلها الفاخرة التي تصغر بجانبها بيوت الأثرياء في مونت كارلو وجنيف وماربيا؟
الإجابة في بطن الشاعر، أعني في أدراج أعضاء المجلس العسكري!
إشارات هنا و .. هناك بأن هناك قرارا مــُعــَدّاً على طبخة هادئة بشأن اطــلاق سراح ( اللص والكلاب ) وضمهم إلى ( السراب) فهم في كل الأحوال ( أولاد حارتنا)، لا نفرط فيهم، ولو ألقوا بنا في غابات مفتوحة بأدغال أفريقيا، فسنتابع الانتخابات، ونهلل للفائز، ولن نكترث لأصله وفصله وجرائمه وأخلاقه وعقله وثقافته، فاللعبة كالروليت الروسية، تضغط على الزناد مرة واحدة، وفرص نجاتك من الموت لا تزيد عن الخمس.
الثورات تظل باقية ما بقي فيها روح التمرد، أو تنام عندما يقنعها النظام الجديد أنها اجتثت رأس الأفعى وعليها أن تستريح، أو تهدأ قليلا ريثما يجد الشعب بعض فتات الطــعام ليضعها في بطون أطفاله الجوعى وإلا فإن جماهير الشعب ستغضب من الثوريين، وتلقى برأسها على حــِجــْر السلطــة الجديدة.
كيف تقنع عشرات الأحزاب والقوى السياسية والمثقفين والتجمعات الهلامية العجيبة التي نبتت كالشياطين والبلطجية وعجائز المعارضة الفاشلة أن مصر بلدهم؟
إذا احتاج الأمر لثورة جديدة فروحُ مبارك ستــُحــَلــّق فوق رؤوس مناهضيها، لكن للأسف ستكون لهم الغلبة، فالثورة حالة من الفزع الشديد والمخيف والقوي والذكي والصلب والبركاني والانحياز التام لأم الدنيا، فكيف تذهب مرة أخرى إلى من تقاسموا أكثر من نصف الكعكة وتقنعهم بأنها مــِلــْكٌ للجميع وليس للتقسيم بينهم؟
لم يرتفع تفاؤلي بانتخابات مجلس الشعب شعرة واحدة، بل تغلغل الخوف على مصرنا الحبيبة كلما اقترب موعد ( الليلة الكبيرة)، فهي خليط من المهرجان، والكرنفال، والملاهي. وستجد فيها السيرك، والحاوي، والمهرج، والفيل الذي يقوم بتحيتك بخرطومه، والأسد غير المتوحش، والقرد الذي أوهموه أنه يضحك علينا، وأوحوا إلينا أننا نضحك عليه.
صورة الانتخابات مخجلة، وسلالة أكثر المرشحين لعضوية البرلمان يتوارثونها جيلا بعد جيل، فهم مُعينو الظلم، وداعمو الطــغيان، والمهللون للقوانين الظالمة التي تساوي بين كرباج السيد وظــهر العبد.
الكتابة الآن في الوقت الضائع فقد اختاروا جميعا الحصان أو الحمار والبغل الفائز، وباقي من الزمن أيام على حصد نتائج سرقة شرعية الثورة. ومبارك يلتقط قطــعة شيكولاته من علبة قدمها له ملك البحرين، ويتلذذ بها. وعلاء يسأل أخاه الأصغر عن موعد خروجهم، فيطلب منه الصبر والتمهل حتى تستوي الطبخة. فالأموال بخير، والمصريون يضحكون، ويلعبون، ويشاهدون مباراة بين مصر والبرازيل، ويجلسون على المقاهي يتصايحون وهم يصبــّون جَمَّ غضبهم على شباب الثورة الذين حرروهم، فرفضنا الحرية وأعطينا السلسلة لمن خلف مبارك ليربطوا رقابنا من جديد.
المثقفون يبحثون في قاموس الحرية بعد الثورة عن كلمات مناسبة، لكنهم يعودون لاستخدام مفردات المخلوع لئلا يغضب منهم بعد خروجه.
لم يتملكني اليأس بعد، وقناعاتي كما هي وتزداد رسوخا بأن الاعتصام هو كلمة اللــه العليا.. أي التمسك بالحق والعدل ورفض كل صور الحوار مع القتلة واللصوص ومستبيحي دماء شهدائنا.
الثورة أصبحت أضعف الإيمان، والمليونية أضحت كهمسات الحيران.
الاعتصام هو تجديد الإيمان بعظمة وقوة ورفعة ومصرية 25 يناير.
اكتشف المصريون كلمة السحر وكانت ( مش حنمشي .. هو يمشي ) فسقط الهرم المزيف، لكن الشباب تخلوا عن كلمة السحر، وعادوا إلى بيوتهم، فإذا استخدموها مرة أخرى فسيشرق عهد جميل لمصر الحرة والآمنة والمستقرة، و تعود عشرات المليارات من أموال المصريين إلى مصارفهم لتبني أرض الكنانة من جديد، ولن يستطيع ملك أو زعيم أن يزور سفاح مصر في الغرف الملكية لمشفاه الملحق ظاهريا بمعتقل طره.
الكتابة الآن كمن يحاول أن يقنع زوار المولد بفضيلة الصمت، لكن الزوار منشغلون في قلب الضوضاء بالجائزة الكبرى في انتخابات مجلس الشعب وهي لن تخرج عن اثنتين: قطــعة حلوى لا تساوى شيئا، أو صفعة على القفا تختلط بعدها ضحكات الشياطين علينا، ونتبين منها ضحكة عرفناها لثلاثة عقود.. إنها للطاغية المخلوع يؤكد لنا بها أننا نحن المخلوعون.

سكوت .. فالانتخابات على الأبواب!

محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 15 نوفمبر 2011


 

اجمالي القراءات 9298