مقدمة 1ـ اللفظ القرآنى ( كتب ) ومشتقاته يلعب دورا أساسيا فى حياتنا . فالله جل وعلا (كتب ) علينا الفرائض من صلاة وصيام وزكاة وحج ،وكتب على (نفسه ) إلتزاما ، وأنزل لنا ( كتبا ) أو ( كتابا ) سماويا ، كما إنه جل وعلا ( كتب ) علينا الحتميات أو القضاء والقدر الذى لا مفرّ منه ، ثم إنه جل وعلا له ملائكة (تكتب ) اقوالنا وأعمالنا.ولا يخلو الأمر من قيام البشر ب( كتابة ) رسالة أو خطابا أو تحريف فى الكتاب السماوى . جاءت تفصيلات هذا كله فى القرآن الكريم. وفى هذا المبحث سبق نشر أربع حلقات .
2 ـ ولأننا ندخل البحث القرآنى بلا فكرة سابقة ، ولأننا نترك أنفسنا لآيات القرآن تسير بنا الى آفاق ليس لنا بها علم من قبل فإن العادة أن يطول بنا البحث بتولد أفكار جديدة جاءت بها آيات القرآن الكريم . لذا فهى ظاهرة مألوفة لمن يتابع كتاباتنا أننا نبدأ مقالا بحثيا فيتحول الى عدة مقالات ، وقد يطول الى سلسلة تكتمل أو أترك استكمالها الى وقت آخر. حدث هذا فى موضوع ( كتب / كتاب فى السياق القرآنى ). كان فى الأصل مقالا واحدا يشرح المفاهيم الأربعة الأساس لكلمة (كتب ومشتقاتها )، ثم تحول الى أربع مقالات عكسته المقدمة المتكررة فى كل مقال ،أى كتاب بمعنى الفرض والالتزام ، وكتاب بمعنى الكتاب السماوى . ويبقى مقال عن كتاب بمعنى كتاب الاعمال ومقال عن كتاب بمعنى كتاب الحتميات المقدرة سلفا . ولكن حين توقفت مع معنى كتاب بالكتاب السماوى إتسع البحث ليكون مقالين الثالث عن تصديق القرآن بالكتب السماوية ، وجاءت الحلقة الرابعة عن كتاب القرآن و(أهل الكتاب )، وختمنا الحلقة بقولنا : ( ويبقى تساؤل آخر عن جهد أولئك المعاندين فى تحريف ما لديهم من الكتاب ليبرروا موقفهم . نناقش هذا فى الحلقة القادمة بعونه جل وعلا.).ودخلنا فى بحث الموضوع فتبين لنا أننا ندخل فرعا مستقلا يحتاج الى توضيحه بسلسلة مقالات تناقش قيام أديان المسلمين الأرضية على تحريفات (أهل الكتاب ) أو متابعة ( المحمديين ) لأسلافهم أهل الكتاب من خلال رؤية قرآنية. لذا نرجىء هذا الموضوع فى تفصيلات معنى كتاب بالكتاب السماوى لنتوقف معها فى وقت لاحق .
وهنا نكمل سلسلة (كتب / كتاب ) فى السياق القرآنى بحلقتيها الأخيرتين : كتاب بمعنى ( كتاب الأعمال ) وكتاب بمعنى ( كتاب الحتميات ).ويجمع بينهما أن هناك ( حتميات مكتوبة) عليك لا مفر منها ، ولست مسئولا عنها و لن يحاسبك عليها رب العزة يوم الحساب . فهذا هو الجزء الحتمى المكتوب عليك فى هذه الدنيا . ولكن هناك جزءا آخر لك فيه تمام الحرية ، تمارسه بالقول والفعل والفكر والاعتقاد . ومقابل حريتك فأنت مساءل عنه وأنت مسئول عنه يوم الحساب. ولكى يكون الحساب صادقا ومثبتا بالدليل فإن أعمالك وأقوالك وأحاسيسك يتم تسجيلها وحفظها فى ( كتاب أعمالك ) . إذن هنا ( كتاب أعمال ) ، مقابل (كتاب الحتميات ) التى لا بد أن تحدث لك، ولست مساءلا عنها لأنها (قدر مكتوب ). ونبدأ بها:(كتب بمعنى كتاب الحتميات).
أولا : مدخلان لفهم الموضوع
1 ـ (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ). نبدأ بتقرير هذه الحقيقة القرآنية : يقول جل وعلا :(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( الاعراف 54 ). إن الخالق جل وعلا له وحده الخلق فهو وحده فاطرالسماوات والأرض وكل الموجودات،وله وحده (الأمر ) سواء الأمرحتميا بكلمة (كن ) للشىء فيكون ،أى فى موضوع الخلق ،أو (الأمر ) التشريعى الذى نزلت به الرسالات السماوية، وهو (أمر ) مختلف لإن الله جل وعلا لكى يختبر البشر أعطاهم الحرية فى طاعة أمره التشريعى ، لهم إختيارهم فى الطاعة أو فى المعصية فى هذه الحياة الدنيا ، ثم يفقدون هذه الحرية عند الاحتضار ، وتظل حريتهم مفقودة عند البعث والحشر والحساب ، ويفوز الفائزون يوم الحساب بحريتهم يتمتعون فى الجنة حيث شاءوا ، بينما يظل أهل النار مجبرين مقهورين فى عذاب الجحيم أبد الآبدين . إذن يتمتع الانسان بحريته فى الاختيار بين الحق والباطل ، بين الضلال والهدى ، بين الطاعة والمعصية بضعة عقود من الزمن فى حياته على هذا الكوكب. ثم يفقد حريته عند الاحتضار ، ويتحتم عليه أن يواجه مصيره بين نعيم أزلى متمتعا بحريته فى النعيم أوعذاب أزلى يتمنى الفرار منه بالموت فلا يستطيع . وهنا نفهم عظم الاختبار الذى نجتازه فى هذه الدنيا ونحن عنه لاهون . نرجع الى موضوعنا لنعيد التأكيد على أن الله جل وعلا هو وحده صاحب الخلق والأمر ـ حتى مع وجود تلك الحرية فى الطاعة والمعصية ،وذلك لأسباب ثلاثة : لأن مساحة تلك الحرية ضئيلة زمنيا فى حياتنا فى الدنيا وفى الاخرة، وهى تعيش زمنا متحركا تقل بمرور الزمن وبالاقتراب من الموت ، ولأنها مجرد جزء من الصورة ، وهى حرية القول والفعل مقابل جزء أساس وهو الحتميات التى نعرض لها فى هذا المقال.
2 ـ فى فقه المصطلحات القرآنية : مصطلح (كتب /كتاب ) تترادف وتتداخل مع مصطلحات أخرى مثل (الأمر ، القضاء ـ القدر ـ الميزان ). وميدان هذا التداخل فسيح يشمل الكون كما يتضمن الانسان بجسده ونفسه . هذا موضوع طويل نقتصر منه على لمحات بالقدر الذى يفيد هذا المقال . ويجمع بين كل تلك المصطلحات أن لها جانبين : حتمى فى الخلق ، وتشريع فيه حرية الطاعة وحرية المعصية ومسئولية الانسان على حريته واختياره . ونعطى أمثلة :1 ـ ( كتب ) تأتى بمعنى التشريع ، فقد كتب الله علينا الصيام ، ولكن هناك من يصوم وهناك من يفطر عصيانا. و(كتب ) تأتى بالحتمية ، وهو موضوع هذا المقال.
2 ـ (أمر ) يأتى بالحتمية فى الخلق كقوله جل وعلا : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ( يس 82 )ويأتى فى التشريع : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) ( الاعراف 29 )،فالله جل وعلا يأمر بالقسط ولكن السائد هو الظلم
3 ـ (قضى ) يأتى بالحتمية فى الخلق:(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( البقرة 117 )، ويأتى فى التشريع :( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ) ( الاسراء 23 )،فالله جل وعلا قضى بالتشريع ألا نعبد إلا الله ولكن أكثر البشر مشركون.
4 ـ موضوع القدر والتقدير أكثر تعقيدا ، وحتى لا تأخذنا التفصيلات فيه بعيدا عن موضوعنا (كتب / كتاب بمعنى الحتميات ) فإننا نحاول الايجاز بإعطاء اللمحات السريعة الآتية عن موضوع (القدر والتقدير ):
4/ 1 :يأتى القدر بمعنى الحتمية فى الخلق فى الكون المرئى لنا :( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ )( يس 38 : 40 )
4/ 2 : معقد جدا موضوع الحرية فى التشريع فيما يخصّ القدر والتقدير. وسنتوقف معه فى مقال مستقل، ولكن نشير سريعا الى نوع من الهداية الحتمية تأتى ملحقة ولاحقة بالخلق والتقدير ، يقول موسى عليه السلام عن ربه جل وعلا:( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ( طه 50 ). الحديث هنا عن عموم خلقه جل وعلا. فالله جل وعلا أعطى كل مخلوق وسائل حياته وهداه اليها بالغريزة والفطرة . ويقول ربى جل وعلا : ( الَّذي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى )(الاعلى 1 :3 ).هنا الخلق والتسوية والتقديرمرحلة أولى، ثم تأتى الهداية لهذا المخلوق كى يعيش ويأكل ويحمى نفسه ويتكاثر وفق غريزة أودعها الخالق فيه. ينطبق هذا على الانسان من بدايته جنينا ،يقول جل وعلا: (مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ )( عبس 19 / 20 ). خلق الانسان من نطفة طبق تقدير الاهى ، بعده ييسر الله للجنين سبل الحياة ، ثم الخروج من مضيق المهبل الى حياة لا يعرفها فيبحث بفمه عن الثدى ويلتقمه ليشبع أول غريزة وهى الأكل . أفلام قناة ديسكفرى تكتشف لنا أسرار الغرائز لدى الحشرات والطيور والحيوانات فى الغابات وفى البحار بما يزيد المؤمن إيمانا بأن الله جل وعلا قد أودع (هداية ) طبيعية لدى تلك الأحياء من أصغر أميبا الى الانسان . بالاضافة الى هذه الهداية الحتمية التى تتبع الخلق والتقديرفلكل انسان أن يختار بحريته ومشيئته ( هداية ) تشريعية ملتزما بالميزان التشريعى الذى أنزله الرحمن جل وعلا . هذه الهداية إختيار شخصى وهو يتحمل مسئوليته طبقا لقوله جل وعلا :( مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا)(الاسراء15 ).
ثانيا :العلم الالهى الشامل المكتوب سلفا مرتبط بقضاء الله جل وعلا وأمره وقدره
1 ـ كل شىء تم إحصاؤه وتسجيله مكتوبا فى كتاب خاص به ، يشمل هذا الخلق والتقدير و(أم الكتاب ) فى التشريع والتشريعات الالهية ، وليس فقط الحتميات للانسان،إذ يقول جلّ وعلا :( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ) ( النبأ 29 ).
2 ـ كل ذلك يدخل فى (علم الله ) الذى يتضمن تسجيل كل شىء مثل الحتميات كالحمل والولادة ومن الأفعال التى يفعلها الانسان بحريته وما يطويه فى سريرته وحركته وما ينطق به جهرا أو همسا وتسجله ملائكة الحفظ التى تسجل أعمالنا: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)(الرعد 8 : 11 ). ويشمل هذا المكتوب ما هو أصغر من الذرة وما هو أكبر من المجرة (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( سبأ 3 ) ، كما يشمل كل دابة تدبّ على الأرض ، يتكفل رب العزة برزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها وبدايتها ونهايتها ، وكل ذلك مسجل مكتوب:(وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( هود 6 ).حتى ورق الشجر الأخضر النابت واليابس المتساقط لا تسقط ورقى إلا بعلمه ولا تنبت ورقة إلا وفق ما هو مسجل فى كتابه :(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( الأنعام 59 ). يستوى فى ذلك إن كنا نشهد هذا أو يغيب عنا ، فكل ما هو مشهود وكل ما غائب عنا يتم تسجيله :( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( النمل 75 )، وحتى تاريخ الأمم السابقة : (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى )(طه51 : 52 ) ، وحتى بعد الموت فهناك كتاب للبعث : (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ( الروم 56 ) . وفى النهاية فكل هذا شىء يسير على رب العزة جل وعلا :( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) (الحج 70 )
ثالثا : الحتميات الأربع المكتوبة على الانسان فى هذه الحياة الدنيا :
1 ـ حتمية الخلق والولادة والنسب :
1/1 :لا أحد يختار أباه وأمه وعائلته ، بل يأتى ليجد نفسه منتسبا الى أسرة لا شأن له فى إختيارها . ولا أحد يختار ملامحه ولونه وطوله أو قصره، الذى يختار ذلك هو الخالق جل وعلا . من بين ملايين الاحتمالات فى ملامح الوجه والجسد يختار الله جل وعلا ملامح محددة لكل فرد منذ تكوين الجنين فى الرحم :(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء )( آل عمران 6 ).وبعد الولادة يتعين على الفرد أن يعيش عمرا محددا له سلفا . هذا العمر هو الفترة التى تقع بين الولادة والموت . موعد الولادة محدد ، وموعد الموت محدد. ويبدأ العدّ التنازلى للعمر من وقت الولادة ، فكل دقيقة تمر تنقص دقيقة من العمر المحدد ، وكلما مرت سنوات العمر تناقص بقدرها ما يتبقى من العمر ، وكل منا يركب قطار الحياة من محطة ولادته الى أن يصل الى محطة وفاته فيترك القطار، ويظل القطار سائرا يستقبل زبائن بالميلاد ويهبط منه زبائن بالموت . نحن نعيش زمنا متحركا ، إنه قطار متحرك لا سبيل الى إيقافه ، وسيظل بنا سائرا الى أجل مسمى هو قيام الساعة. هذه هى حتمية الحياة وحتمية الموت ، لا سبيل للهروب منها . وكل ذلك فى كتاب ومكتوب سلفا لكل منا من الحمل الى الوضع الى قضاء العمر ، يقول جل وعلا :( وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ( فاطر 11 ). أنت الآن مثلا فى الأربعين وقد حدد الله جل وعلا أجلا لك بأن تموت فى السبعين وأربعة أشهر وخمسة أيام وساعتين ودقيقة واحدة . كل دقيقة تمضى من عمرك حيا تقترب مقابلها دقيقة من موعد موتك . وكل دقيقة يجرى تسجيلها فى كتاب أعمالك الذى يوثّق حياتك ويدونها ويسجلها ويحفظها على نحو ما سنتعرض له فى (كتاب الأعمال ).
1/ 2 : هذه الحتمية يمكنك تجاوزها بعملك الصالح فى الدنيا . مثلا ، أنت هنا لا تختار لونك فى هذه الدنيا الفانية . ولكنك تختار لونك فى الآخرة طبقا لحريتك فى الطاعة أو المعصية . إن إخترت الطاعة فسيكون وجهك مضيئا بالنور ، وإن ألهتك الدنيا وعصيت وفسقت فسيكون وجهك مسودا مظلما : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( آل عمران 106 ـ ) (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( يونس 26 ـ ) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ) ( عبس 38 ـ ). أيضا أنت لا تختار عائلتك ، ولكنك بعملك الصالح يمكن أن تكون فى الجنة مع النبيين والصديقيين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا
2 ـ حتمية الرزق :
كل فرد يتمنى أن يصبح مليونيرا ، ولكن ليس كل فرد يصبح مليونيرا. وكل مليونير يسعى لأن يكون بليونيرا ولكنه قد يفقد كل شىء ويفلس. الرزق ليس بيد الانسان ولكنه بيد رب العزة جل وعلا . ونذكر على عجل بعض ملامحه :
2/1 : إنه مرتبط بخلق السماوات والأرض وخلق الموارد فى الأرض . وهنا مدخل (التقدير والقدر ) فى البداية ، يقول جل وعلا:(وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا )( فصلت 10 ).
2/2 : وبعد تمام الخلق فرب العزة هو المسيطر على الكون وبيده مقاليد السماوات والأرض ، وهو الذى يتحكم فى توزيع الرزق يبسطه لمن يشاء ويقدره وبقلله لمن يشاء : (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )( الشورى 12 )
2/ 3 : الدواب من أدنى الأحياء الى الانسان كلهم سواء فى احتياجهم للرزق من الرحمن ، وكلهم سواء فى الحصول على المقدار المكتوب لهم سلفا : (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (هود 6 )،(وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )(العنكبوت 60 ). يستوى فى استحقاق الرزق الأب والابن :( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (الانعام 151)( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم )(الاسراء 31 )، والمؤمن والكافر (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) ( البقرة 126 )
2/4: وشاء الله جل وعلا أن يتفاوت البشر فى الرزق إختبارا :(وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) ( النحل 71 )وهذا التوزيع المتفاوت للرزق مرتبط بعلم الله جل وعلا بخلقه وبكونه الخبير البصير : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ) ( الاسراء 30 ) .وأشد الابتلاء هو كثرة المال ( لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ)(آل عمران 196 )( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ )( الشورى 27 )
2/ 5 : المؤمن يستطيع الخروج من حتمية الرزق لو أراد الآخرة وعمل لها . فيكون فائزا . لأنه فى الدنيا ينال المكتوب له من الرزق ، ثم يفوز بالجنة بعمله الصالح وبإيمانه الخالص. أما من يجعل الدنيا هدفه الوحيد وتستغرقه بصراعاتها غافلا عن الآخرة فلن ينال من الرزق إلا ما هو مقدر له سلفا ثم يكون مصيره جهنم : (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) ( الاسراء 18 ـ )
2/ 6 : هناك قواعد الاهية فى توزيع الرزق ، منها يستفيد المؤمن :
2/6/1 :اليسر مع وبعد العسر : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) ( الشرح 5 : 6 )(سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا )( الطلاق 7 )
2/6/2 : التقوى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) ( الطلاق 2 : 3 )
2/6/3 : الصدقة والانفاق فى سبيل الله جل وعلا (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) ) ( سبأ 39 )( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(البقرة 261 ، 245)
3 : حتمية المصائب:
3/1 :لا بد لكل إنسان أن ينال نصيبه من المصائب ،أى ما يصيبه من أمراض وكوارث لا شأن له بتدبيرها ، قد تكون من فعل إنسان آخر ، أو مصادفة . كل هذه المصائب مكتوبة سلفا قبل وجودنا ، يقول جل وعلا :(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )
3/2 : والمؤمن يعلم هذا فيتخذ موقفا معتدلا ، لا يستسلم للحزن واليأس ، ولا يستغرقه الفرح ، طالما إن هذا قدر حتمى مكتوب لا مفرّ منه ، تقول الآية التالية : (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (الحديد 22 : 23 ).لذا يواجه المؤمنون احتمالات المحن بشجاعة ، يجاهدون فى سبيل الله جل وعلا موقنين أنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله تعالى لهم ، وأنه لا مفر من مواجهة المكتوب ، وفى نفس الوقت فما ليس مكتوبا عليهم لن يصيبهم ولن يقترب منهم ، وهذا معنى الأمر الالهى لنا :(قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة 51 )
4 : حتمية الموت :
4/1 : الموت (تقدير) الاهى محتوم (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ ) (الواقعة 60 )، والموت (قضاء ) الاهى محتم ، فكل نفس لا بد أن تموت :(اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى )(الزمر 42 ). والموت ( كتاب ) أو (أجل مكتوب ) ينتظر كل نفس الى أن يحين أجلها ،أى وقت موتها :(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً )( آل عمران 145 ).ولقد تكرر مرتين قوله جل وعلا:(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)(آل عمران 185)(الأنبياء 35). ولا تستطيع قوة بشرية أن تميت إنسانا قبل موعد موته ، ولا تستطيع أن تؤجل موعد موته إذا جاء ،بل إن رب العزة لا يؤجل نفسا إذا جاء أجلها (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (المنافقون : 11)( إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( نوح 4 ).
ولأنه حتمى فلا سبيل الى الفرار منه لأننا سنلاقيه فى وجهنا (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ) ( الجمعة 8 )ولأنه من خلفنا (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ) ( النساء 78 ) فلابد لكل منا أن يموت فى الموعد المحدد سلفا ،بل فى المكان المحدد لموته سلفا. وبعد هزيمة (أحد ) جادل بعض المنافقين متحسرا على الضحايا القتلى زاعما إنهم لو أطاعوا رأى اولئك المنافقين ما تعرضوا للقتل ، وجاء الرد من الله جل وعلا بأنهم كان لا بد لكل من أولئك القتلى أن يذهب الى مكان مقتله :( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (آل عمران 154).ويمكن للمؤمن أن يتجاوز حتمية الموت بأن يموت قتلا فى سبيل الله جل وعلا. عندها سيفوز بحياة برزخية يتمتع فيها برزق الله جل وعلا:( البقرة 154 )( آل عمران 169 : 171)
ملاحظات أخيرة
1ـ يتكون الانسان من نفس وجسد . تتمتع النفس بحرية الارادة وهى التى تسيّر الجسد ولكن لا تسيطر عليه، فالجسد تسيطر عليه حتميات الخلق والحياة والمصائب (كالمرض ) وغيرها . أنت (أى نفسك ) لا تسيطر على عمل القلب والرئتين والكبد والأمعاء . هى تعمل بقوانين حتمية تخضع لله جل وعلا . ولكن النفس لو شاءت الهداية يمكن لها أن تخفف من بعض الحتميات أو تفلت من بعضها أو تعوضها فى الآخرة. تكلمنا عن الهداية الحتمية المرتبطة بالخلق والتقدير والمتمثلة فى الغريزة . ولكن هناك هداية بالصلاح وطاعة الشرع الالهى تجعل الجسد يعلو ويسمو فوق الغريزة . النفس الزكية المهتدية تتعلم كيف تنجو من إختبار التفاضل فى الرزق ، فإذا كانت فقيرة صبرت وحمدت الله جل وعلا ،وإن كانت غنية ميسورة تصدقت وأنفقت فى سبيل الله جل وعلا. تلك النفس الزكية تواجه المصائب بشجاعة وتتخذ من الحتميات طريقا للتربية القائمة على الشجاعة والحياة فى عزة وكرامة . فالمؤمن لا يخشى حاكما مستبدا أوبشرا ظالما طالما أن الرزق بيد الله جل وعلا وليس بيد الحكومة، وطالما أن موعد الموت ومكانه محدد سلفا ولا يستطيع بشر أن يقتلك قبل موعد موتك ولا يستطيع بشر أن يصيبك إلا بما هو مكتوب عليك سلفا ..هذا المؤمن لا يخشى الموت فى سبيل الله جل وعلا ،بل يتمناه لأن الموت قتلا فى سبيل الله جل وعلا يعنى الحياة البرزخية فى جنة المأوى . وهكذا فالايمان بالحتميات مفيد تربويا ، وبه يمكن أن تتزكى النفس.
2 ـ يبقى سؤال هام ليس وثيق الصلة بموضوع ( كتب / كتاب فى القرآن ). هو أصيل فى موضوع حتميات القضاء والقدر. والسؤال يتعلق بتداخل الارادة البشرية فى حدوث الحتميات . ففى القتل والمصائب نجد منها ما يقع جرائم بيد الانسان ، فهل حتمية موت القتيل تنفى مسئولية القاتل ؟ وفى الرزق تجده معتمدا اساسا على أسباب وعلاقات البشر ببعضهم ، وكذا فى الميلاد والانجاب من زواج شرعى أو غير شرعى. ثم (علم الله ) جل وعلا ، هل ينفى مسئولية الجانى ؟ .هذا يحتاج مقالا منفصلا ..والله جل وعلا هو المستعان.