تتلمذ على يديه الأئمة مالك وأبو حنيفة والليث بن سعد
(ربيعة بن فروخ ) الأمام المجهول وشيخ الأئمة

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٤ - نوفمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا : ربيعة وأبوه الغائب

1 ـ حدثت طفرة فى الفتوحات الإسلامية فى خلافة الوليد بن عبد الملك خصوصا فى منطقة الشرق فى خراسان وما بعدها فى السنوات العشرة الأخيرة من القرن الأول الهجري ، كان قتيبة ابن مسلم يفتح سمرقند وخوارزم وما وراء النهر . وكان بين جنود الفتح رجل من أهل المدينة اسمه فروخ وهو أبو عبد الرحمن مولى آل المنكدر ، وقد خرج إلى خراسان غازيا فى تلك الفترة وترك عروسه الشابة  وهو لا يعرف أنها قد حملت منه بجنين ، وترك مع عروسه ثلاثين ألف دينار تدخرها لتستعين بها عند الحاجة . واستغرقت أيام الفتوحات والانتصارات حياة فروخ أبى عبد الرحمن ، ثم توقفت الفتوحات ووقعت الضغائن والعصبيات بين جيوش الفتح ، وتولى خلفاء ضعاف من  بنى أمية وقامت الثورات .. ورأى فروخ أبو عبد الرحمن أنه من الأفضل له أن يعود إلى موطنه فى المدينة فوصلها بعد سبع وعشرين سنة بالتمام والكمال من  الجهاد والغربة فى خراسان وما وراء النهر .

2 ـ دخل فروخ المدينة المنورة راكبا فرسه ومعه رمحه ، واتجه مباشرة إلى داره فنزل عن فرسه ثم دفع الباب برمحه ، فخرج له شاب يصرخ فيه قائلا : يا عدو الله أتهجم على منزلي ، ونظر فروخ إلى الشاب القادم من داخل بيته ومن عند زوجته، فصرخ فيه قائلا : يا عدو الله ماذا تفعل فى بيتي وعند حرمتي ؟ واشتبكا فى صراع وعلا الصراخ فتجمع الجيران وجاء شيوخ المدينة وشبابها ومن بينهم مالك بن أنس ، وفوجىء فروخ بالجميع يساعدون الشاب ضده ، والشاب قد امسك بتلابيبه ويقول : والله ما فارقتك إلا عند السلطان ، فقال مالك بن انس : أيها الشيخ هذه داره ، ولك فى غيرها سعة .. فقال فروخ : هى والله دارى ، وأنا فروخ أبو عبد الرحمن ، وقد جئت من الغزو بعد سبع وعشرين سنة ..فخرجت زوجته من داخل الدار وصرخت باكية : هذا زوجي ، وهذا ابنك يا فروخ وقد تركتني وأنا حامل به.!! وتعانق الثلاثة وبكوا جميعا .

3 ـ وبعد التعارف بين الأب العائد وابنه خرج الابن إلى المسجد . وعندما خلا الدار بالزوجين قال الأب للأم : هذه أربعة آلاف دينار أضيفيها للمال الذي كان معك ..أى للثلاثين ألف دينار السابقة . فقالت له الأم : المال قد دفنته وسأخرجه لك بعد أيام ..وبعد أيام خرج فروخ إلى المسجد بعد إلحاح من زوجته ، فنظر في المسجد فوجد الناس قد تجمعوا حول شاب يستمعون إلى علمه ، ووجد فى الشاب ابنه ، ورأى أشراف المدينة وكبارها حوله يستمعون الى ابنه فى إنصات ووقار .. وحين رأوا " فروخ " أوسعوا له ليجلس معهم ليستمع إلى ابنه .. ورأى الفتى أباه فنكس رأسه حياء من أبيه ، وكان عليه ثياب طويلة ، فلبث فروخ ينظر للفتى لا يصدق مما يراه حتى إنه سأل رجلا إلى جواره ، من ذلك الشاب العالم ؟ فقال له الرجل : أنه ربيعة بن فروخ .. فقال فروخ فى فخر : لقد رفع الله ابني ..

ورجع فروخ إلى بيته فقال لزوجته : لقد رأيت ابني فى حالة ما رأيت أحدا من أهل العلم والفقه عليها ، فقالت له الزوجة : أيهما أحب إليك : الثلاثون ألف دينار أم الذي فيه ابنك من الجاه والعلم ؟ فقال : والله جاه ابني أحب إلى ، فقالت له : فأعلم أنني أنفقت على تعليم ابنك الثلاثين ألف دينار فقال فروخ : فو الله ما ضيعت شيئا .!!

ثانيا : ربيعة شيخ الأئمة

1 ـ الشاب بطل هذه القصة هو ربيعة المشهور بلقب ربيعة الرأي : شيخ الأئمة مالك وأبى  حنيفة والليث بن سعد. وكان شيخ المدينة فى العلم والفقه فى عصره .أدرك ربيعة بعض أصحاب الرسول عليه السلام كما أدرك أكابر التابعين ، وأخذ عنهم العلم خصوصا السائب بن زيد وانس ابن مالك وسعيد ابن المسيب أستاذ التابعين وشيخ المدينة فى عهده ، وقد جمع بين طلب العلم والعبادة . وحين استوى علمه جلس للإفتاء فأقبل عليه الجميع فى مسجد المدينة ينهلون من علمه فتتلمذ على يديه الأئمة والمشاهير الذي نشروا علمه فى المدينة وفى الأقاليم .ويكفى أن تذكر من تلامذته الإمام مالك فى المدينة والليث ابن سعد صاحب المذهب الفقهي المشهور فى وقته بمصر ، وسفيان الثوري وأبو حنيفة فى العراق ، بالإضافة إلى شعبة بن الحجاج وسليمان ابن بلال وسعيد بن أبى هلال وعبد العزيز الدراوردى .وكان يحضر مجلسه فى مسجد المدينة غير أولئك جمهرة من أشراف المدينة ووجهائها ويبلغون أحيانا أربعين من السادة والكبار مع صغر سنه ، وذلك بسبب مكانته العلمية وتفوقه فى الفقه والحديث والرأي .

2 ـ وقد اخذ عنه مالك الحديث كما اخذ عنه أبو حنيفة الرأي . وقالوا أن أبا حنيفة كان يجلس بين يديه يحاول أن يفهم عنه ما يقول .. وكان يحيى بن سعيد من مشاهير الفقهاء فى المدينة فى ذلك الوقت إلا أنه كان أكبر سنا من ربيعة الرأي ، ومع ذلك كان يستحى أن يتكلم فى العلم فى حضور ربيعة الرأي فإذا غاب أفتى وتحدث فإذا حضر ربيعة سكت يحيى بن سعيد أجلالا له ..

ثالثا : ربيعة مؤسس مدرسة الاجتهاد

وقد كان الاتجاه العام فى مدرسة المدينة العلمية يميل إلى المحافظة أو التمسك بالمنقول من الروايات ، ولا يستريح إلى الاجتهاد والقول بالرأي والقياس .وكان ربيعة مع علمه بالروايات إلا إنه ابتدع وأسّس مدرسة الرأى ، لذا اخذ عنه أبو حنيفة صاحب الرأي الذى لا يأخذ بالحديث، أو ما يمكن تسميته بمدرسة الاجتهاد القرآنية ، وكان ربيعة هو مؤسسها الأول ، وكان أبو حنيفة هو تلميذه الأشهر . ولذلك كان لقب ربيعة هو ربيعة الرأي . ومع معرفة ربيعة بالحديث إلا إن الواضح إنه كان لا يعول عليه كثيرا ، مما أسهم فى تجاهله بمرور الزمن حيث طغت مدرسة صناعة الحديث ، والتى تولى كبرها مالك. وأصبح مالك صاحب المذهب المشهور والممثل لمدرسة الحديث المحافظة  .

2 ـ وكان أنصار مذهب الحديث أغلبية مؤثرة فى المدينة وغيرها ، لأن الحديث يمثل بالنسبة لهم إسترجاعا لماضى المدينة ( المنورة ) حين كانت عاصمة المسلمين فى عهد النبوة والراشدين قبل أن تنتقل الأضواء الى دمشق ثم بغداد . رواية الأحاديث بل إختلاقها كان نوعا من التكريم للمدينة تنافس به الحواضر الجديدة للمسلمين  فى مصر والشام والعراق ، بل بالغوا فجعل مالك (عمل أهل المدينة ) من مصادر التشريع لديه . وبعد موت ربيعة تم إجتثاث مدرسته فى الرأى فانتقلت الى العراق عبر أبى حنيفة .

رابعا : ربيعة بين مدرستى الرأى (الاجتهاد ) والحديث

1 ـ كانت مدرسة الرأى التى بدأها ربيعة فى المدينة ـ وهى بؤرة مدرسة الحديث ـ تمثل تحديا لأصحاب الحديث الذين كانوا لا يستريحون لأنصار التجديد والتفكير والاجتهاد والرأي ، وكانت هناك مشاحنات بين الفريقين إلا أن ربيعة الرأي بما له من ريادة ومكانة ظل عزيز الجانب محتفظا بمكانته لدى الفريقين نظرا لريادته العلمية ، لذلك نال التقدير والاعتراف بفضله.

قال عنه سوار بن عبد الله القاضي : ما رأيت أحدا أعلم من ربيعة الرأي .! قيل له : ولا الحسن البصري ولا ابن سيرين ؟ قال : ولا الحسن ولا ابن سيرين . وروى الليث بن سعد قولهم عن ربيعة : هو صاحب معضلاتنا وعالمنا وأفضلنا ، وذلك مدح فى نبوغه العقلي لذلك كان يقول عنه يحيى بن سعيد : ما رأيت أحدا أفطن من ربيعة بن أبى عبد الرحمن . وذلك تكريم لتجديده العقلي .

2 ـ وفى إطار الصراع بين المدرستين زعم أصحاب مدرسة الحديث إن ربيعة ينتمى الى مدرستهم حتى لا يؤخذ عليهم ان ربيعة بكل علمه كان لا يعترف بهم . لذا أسندوا له العلم بما أسموه (السّنة ) ، فقال عنه عبد العزيز الماجشون : والله ما رأيت أحدا احفظ للسنة من ربيعة الرأي ، وهو بذلك يرد على فقهاء العراق أصحاب مدرسة الرأي ،وقيل عنه أنه " مدني " نسبة للمدينة و" تابعي " أي من التابعين ، و" ثقة " أي موثوق فى صدقه وروايته عن التابعين. ولو كان ربيعة منهم ما أصبح مجتهدا صاحب رأى ،إذ لا يجتمع الاجتهاد بالرأى مع النقل عن السابقين أحاديث يجعلونها دينا لايقبل الرأى والنقاش . ووصلت شهرته إلى العراق مع رحلة تلاميذه إلى الأقطار فتأسست مدرسته فى العراق ، وحاربها هناك أصحاب الحديث الوافدون للعراق من المدينة ، فعندما وصل للعراق عبد العزيز بن أبى سلمة قال له أهل العراق : حدثنا عن ربيعة الرأي فقال : يا أهل العراق تقولون ربيعة الرأي ؟ لا والله ما رأيت أحدا أحوط للسنة منه. ومعنى الخبر السابق أن أهل العراق من الفقهاء كانوا يحتفلون بشهرة ربيعة فى الرأي ، ويرون فى قوله بالرأي والقياس انتصارا لهم على المدرسة المحافظة فى المدينة ، ورد عليهم عبد العزيز بن أبى سلمة يؤكد أن ربيعة متمسك مع ذلك بالسنة وذلك مع قوله بالرأي .

خامسا :سخاؤه وكرمه

ومع تفوقه العلمي كان كريم الخلق سخي النفس فما كان بالمدينة مثله فى السخاء مع أصدقائه ومعارفه ، وبسبب كرمه انفق أمواله على أخواته وبلغ ذلك أربعين ألف دينار. وحين أذهب السخاء ماله لم ينقطع عنه السائلون والطالبون لكرمه ، فكان يستقرض الأموال لهم ، فقيل له : أذهبت مالك وسيذهب جاهك بسؤالك الناس.! فقال : ما وجدت أحدا يعطيني على جاهي .. ولكنه فى الحقيقة أضاع ماله فأضاع جاهه فى عصر كان فيه الجاه والمال مقترنين .

خامسا : ربيعة ومالك

1 ـ وبمرور الزمن تراجعت شهرة ربيعة فى شيخوخته أمام الشهرة الصاعدة لتلميذه مالك بن أنس الذي كان أكثر تعبيرا عن مدرسة المدينة العلمية وكان يمثل أملا لأهل المدينة فى استعادة مجد مدينتهم .

2 ـ والرواية التالية تعطينا لمحة عن ذلك العالم المجتهد فى أواخر عمره ، فقد جاءت وفود تتلقى العلم على مالك بن أنس فأخذ يحدثهم عن ربيعة، وأخذوا يستزيدون من حديثه عن ربيعة ، ثم قال لهم يوما : هل تريدون أن تروا ربيعة ؟ انه نائم على السطح .! فذهبوا إليه فوجدوه نائما . فأيقظوه ، وما صدقوا أن ذلك الشيخ النائم هو ربيعة الرأي المشهور ، قالوا له : أنت ربيعة بن أبى عبد الرحمن ؟ قال : بلى.! فنظروا له غير مصدقين ، ثم قالوا : أأنت ربيعة بن فروخ ؟ قال : بلى . فنظروا لبعضهم ، ثم قالوا له : أأنت ربيعة الرأي ؟ قال : بلى قالوا : أأنت الذي يحدث عنك مالك بن أنس ؟ قال : بلى . قالوا : فكيف حظي مالك بعلمك ولم تحظ أنت بعلمك ؟ فقال لهم : أما علمتم أن مثقالا من دولة خير من قنطار علم ؟!!.

3 ـ وهى حكمة ينطق بها ربيعة وقد أوجز فيها ظروفه وظروف عصره . ربيعة هو ابن فروخ وهو أبو عبد الرحمن الذى كان مولى آل المنكدر. أى إن ربيعة مع علمه وفضله لم يكن عربيا من قريش أو من الأنصار ، وهم أصحاب السطوة فى المدينة . كان من الموالى ، وهم أقل شأنا مهما بلغ علم أحدهم ومهما بلغ فضله . زاد من سوء حظ ربيعة منهجه العلمى القائم على الاجتهاد والذى كان يناسب العراق باختلافاته وتنوعاته الثقافية والسياسية والجغرافية والعرقية والحضارية . أما فى المدينة فمع ظروفها الثابتة قليلة التنوع فقد كانت تتهيأ لاستعادة دورها السياسى لترجع عاصمة للمسلمين ، وتحالفت حركتها السياسية ممثلة فى حركة محمد النفس الزكية (الذى ثار بالمدينة على العباسيين)ـ مع تيارها العلمى فى مدرسة الحديث (التى تقوم بتلميع المدينة واسترجاع مجدها الماضى عبر تأليف ورواية الأحاديث). تحالف (الفقيه) مالك مع (الثائر) محمد النفس الزكية . وانهزم (الثائر) فعاقب الخليفة المنصور (الفقيه) مالك ، فأصبح الفقيه مالك إماما برغم تواضع مستواه العلمى والذى يظهر من مراجعة كتابه (الموطأ ) . جعله العباسيون إماما بطريقتين : باضطهاده وضربه على يد الخليفة المنصور مما زاد من عدد المتعاطفين معه ، ثم لأن العباسيين كانوا محتاجين بشدة الى مدرسة الحديث لاستغلالها سياسيا فى صنع أحاديث تتنبأ بملك ودولة بنى العباس. لذا تعاظمت مدارس الحديث فى العصر العباسى وحظيت باهتمام ورعاية الخلفاء العباسيين ، وكان من يخرج على هذه المدرسة مستقلا عن التبعية للخليفة العباسى يتعرض للاضطهاد . وهذا مصير أبى حنيفة تلميذ ربيعة الرأى . إذ تعرض أبو حنيفة للضرب والتعذيب ثم قتله أبوجعفر المنصور بالسّم عام 150 هجرية .

4 ـ نجا ربيعة من هذا المصير باعتزاله الحياة تاركا تلميذه مالك يلعب بالسياسة فتحرقه السياسة ويجنى منها شهرة لا يستحقها . ولقد أوجز ربيعة القضية فى كلمة بسيطة ، نستعيد من أجلها الرواية السابقة : ( قد جاءت جاءت وفود تتلقى العلم على مالك بن أنس فأخذ يحدثهم عن ربيعة، وأخذوا يستزيدون من حديثه عن ربيعة ، ثم قال لهم يوما : هل تريدون أن تروا ربيعة ؟ انه نائم على السطح .! فذهبوا إليه فوجدوه نائما . فأيقظوه ، وما صدقوا أن ذلك الشيخ النائم هو ربيعة الرأي المشهور ، قالوا له : أنت ربيعة بن أبى عبد الرحمن ؟ قال : بلى.! فنظروا له غير مصدقين ، ثم قالوا : أأنت ربيعة بن فروخ ؟ قال : بلى . فنظروا لبعضهم ، ثم قالوا له : أأنت ربيعة الرأي ؟ قال : بلى قالوا : أأنت الذي يحدث عنك مالك بن أنس ؟ قال : بلى . قالوا : فكيف حظي مالك بعلمك ولم تحظ أنت بعلمك ؟ فقال لهم : أما علمتم أن مثقالا من دولة خير من قنطار علم ؟!!).

نهاية السطر

هذا المقال تحية لإمام مجتهد لم يلق ـ كالعادة ـ ما يستحقه من تقدير ، بينما ـ كالعادة ـ نال التقدير والامامة أنصاف العلماء مثل تلميذه مالك .

ملاحظة :

فى مشروع (تحويل التراث الى دراما ) تم تجميع كل المعلومات عن ربيعة الرأى    من بين سطور التاريخ ، ومنها علاقاته بمجريات عصره فى العصرين الأموى والعباسى،و تمت كتابة سيناريو درامى عليها ، ومشروع (تحويل التراث الى دراما ) يحوى عشرات الأعمال بنفس الطريقة. وسبق نشر عشرات القصص على موقعنا ، وهى كلها من قصص هذا المشروع . نقول هذا حفظا لحقنا .

اجمالي القراءات 9711