سائق يعمل بالمؤسسة التي أعمل بها ..عمره يناهز الأربعين من أبناء الوجه القبلي تبدو عليه علامات الشقاء والبؤس والشراسة ممزوجة ببعضها البعض حتى أصبحت تشكل مظهره الخارجي ووجدانه الداخلي.. حصل على دبلوم التعليم المتوسط وهو حاد الذكاء.. رغم مظهره المتواضع الذي يحدد بدقة طبقته الاجتماعية في أسفل السلم الاجتماعي..
خدم بالقوات المسلحة ما بين الفترة ثلاثة وتسعين إلى خمسة وتسعين بعد العام ألف وتسعمائة من القرن الماضي..
إذا نظرت إليه وهو في وظيفته وما بعد فترات العمل الرسمية ربما تجد مظهره أقل من من مظهر شحاذ ..قد فعل الفقر بملبسه أعاجيب الزمان.. فالجلباب قد تهرأ من كثر الاستعمال وقيطان جيبه قد تآكل وانفصل عن نسيج الجلباب.. كجدول نحيل انفصل عن مجرى نهره..! الخيط الذي يربط قطع الجلباب بعضها البعص قد انفصل في أجزاء كثيرة عن مجراه الطبيعي من أعلى الكتف ومن الصدر..
حذاؤه لا يمكنك ان تحدد ملامحه الطبيعية كحذاء.. فلا تعلم أهو من جلد أم قماش أو كاوتش.. ولا لون له .. كما أن عمامته قطعة رخيصة من قماش زهري يلفها بطريقة عجيبة كأهل جلدته..
هو حجة في فهم قوانين العمل بالمؤسسة.. ومع ذلك يحاول من مدة طويلة ان يضم فترة خدمته بالجيش لتضاف إلى عدد سنوات عمله بالوازرة حتى يزيد أساسي مرتبه عشرون أوثلاثون جنيها ليحسن من دخله ولم يفلح في أن يحصل على حقه في ذلك ولا عن مستحقات التغذيه في ليالي السهر المتوالية بالعمل..لمدة ثلاثة عشرة عاما..
في نوبتجيات العمل تكون ذكريات وحوادث الشباب وأحداث مؤثرة يحكيها مثل هؤلاء العاملين ...
كان جنديا بالقوات المسلحة بسلاح المدرعات.. في منطقة الساحل الشمالي .. في منتصف التسعينات.. وكما نعلم أن قبائل البدو تسكن تلك المناطق الصحراوية الشاسعة في الصحراء الغربية في مطروح وواحاتها .. يروي شاهد العيان والمشارك بالواقعة فيقول:
تبدأ الحادثة المأساة.. عندما كان ما يقرب من عشرة جنود بالخدمة في نوبة من نوبات الحراسة على مدار اليوم .. وللعلم هى مناطق نائية وعرة جافة .. نوبة حراسة واحدة تعادل شهرا في المعسكر.. في جوف الصحراء وعلى أطراف إحدى واحات مطروح.. الوقت ممتد ممل طويل بائس والجوع يخرج النفوس عن العقل والخلق.. يتأخر التعيين في أوقات كثيرة.. نظراً لوعورة المناطق ونظرا حقارة الجنود .. وعدم الاكتراث المناسب باحتياجاتهم..!
جاع الجنود.. وآلام الجوع .. تصيب بالجنون .. فما أن شاهدوا جملاًٍ من جمال إحدى القابئل التي تسكن المنطقة .. يرعى اويهيم في مناطق رعيه... إلا وإنقض عليه الجنود برصاص الرشاشات وطرحوه أرضاً وذبحوه..
قاموا بسلخ جزء منه ما يقرب من فخذ أي ربع جمل .. وأشعلوا ناراً وقاموا بالشوي والسلق.. وكانت وجبة شهية سدت الرمق.. وأعانتهم على القيام بنوبة الحراسة في تلك الليلة.. وتركوا الأجزاء الباقية بالعراء تأكلها حيوانات الصحراء الجائعة..
في اليوم التالي علم أهل القبيلة بما جرى لجملهم أو ناقتهم .. وحزنوا جدا فإن كانت ناقة فهى مصدر اللبن لأطفالهم ولهم ومصدرا كبيرا من لغذائهم.. يحميهم من جوع الصحراء .. الضنينة..!
أحس أهل القبيلة بالمهانة وأنهم قد سُلِبُوا جزءاً من رزقهم ومن كرامتهم.. لم يعتذر العسكر بتلك الكتيبة كتيبة المدرعات لسكان تلك المنطقة لما ألم بهم من سرقة ناقتهم.. ولم يعرض العسكر أي تعويض في المقابل.. لما أقترفه الجنود بسبب الجوع من سرقة الناقة.. وذبحها وسلخها وأكل جزء منها وإلقاء الباقي لسباع الطير ..!
أضمر البدو في أنفسهم أمرا.. فراقبوا جنود نوبات الحراسة ووقع اختيارهم على أحد الجنود معزولا عن باقي زملائه في نوبة حراسة.. وأردوه قتيلا.. واستولوا على سلاحه الآلي.. وإنصرفوا دون أن يراهم أحد..
كارثة الكوارث .. ليست بمقتل ذلك الجندي على أيدي إحدى قبائل مطروح.. ولكن .. باختفاء سلاح ذلك الجندي.. الرشاش الآلي !!
ماذا كان العقاب لجنود الكتيبة والموقع من الجنود.؟ كان الحرمان من الطعام لمدة ثلاثة أيام متواصلة.. وكان قائد الكتيبة رائدا بسلاح المدرعات.. يصفه ذلك الجندي الذي أصبح سائقاً مدنيا بمقر عملي فيقول .. كان ذلك القائد للكتيبة رائداً شرساً قوياً يزيد طوله عن المترين وقوة بدنية عضلية هائلة .. كنا كجنود نخشى غضبه .. وكان كثيف الشعر بجميع اجزاء بدنه حتى أن الشعر الكثيف ينمو بالقرب من أظافر أصابع يديه بغزارة غريبة..
كنا نرتعب منه ونهابه.. لأنه ذات مرة غضب وكان أماهه منضدة قوية فضرب عليها براحة يده ضربه واحدة فتهشمت تماماًً.. كان يمكن ان يرفع الجندي منا بيد واحده من على الأرض من ملابسه لأعلى مستوى رأسه..ويطيح به عشرة أمتار او اكثر ..
أخبر ذلك الرائد بالواقعة إلى الجنرالات والرتب الأعلى منه.. فقامت الدنيا ولم تقعد...
صدرت الأوامر للرائد قائد الموقع بالتحرك بكامل القوات بحثاً على الرشاش الآلي فخرج إلى معركة العلمين الثانية..
معركة العلمين الثانية بين الجيش المصري وبدو مطروح
قام قائد معسكر الجيش المصري بالتحرك السريع الشامل في كامل قواته المدرعة .. فخرج على البدو المصري ليقاتلهم.. في رحل البحث عن البندقية الآلية .. وكان عدد عربات الجيب القتالية التي تنقل الجنود يزيد عن 1600..ألف وستمائة عربة جيب ومصفحة... وأكثر من مائة وخمسون دبابة بالاضافة إلى ناقلات الجنود..!!
بناءاً على أوامر قادة المعسكرانطلق الجنود في حماسة وعزم بل في جنون وغم وكان معهم قائدهم وكان الجنود مغمومون غما شديداً فقد حرمهم قادة المعسكرلمدة ثلاثة أيام بلا طعام تماماًً حتى تحولوا إلى ذئاب شرسة عصبية تنهش كل من يقابلهم من البدو.. المساكين..
وصلوا قرى البدو المصري وعاثوا فيها تدميرا وغزالة من على وجه الأرض ..كان العربات المصفحة والدبابات تدخل المنزل من جهة وتخرج من الجهة الأخرى كما رأينا في فيلم عمر المختار أثناء الاحتلال الايطالي لليبيا ..
كنا نبحث في كل شبر في قرى البدو بحث المحمومين المغمومين. .. في المنازل والغرف وفوق أسقف المنازل الريفية البدوية وننقب الأرض وداخل جدران البيوت كانت عريقة اكثر من نصف متر وكان البدو يخبئون فيها أسلحتهم التي عثروا عليها في صحراء العلمين منذ الحرب العالميو وكانوا يورثونها لأولادهم جيلا بعد جيل .. لحماية إبلهم وأغنامهم وماعزهم.. وممتلكاتهم المتواضعة..
جاء أحد شيوخ البدو ونحن نبحث في منزله واعترض على هدم جدران منزله وسقفه.. والكلام للسائق الذي كان جنديا في هذه المعركة .. فقال السائق ركلت شيخ البدو في بطنه بحذائ الميري.. فنحنى من شدة الألم .. فضربته على ظهره بدبشة (كعب) البندقية الآلية التي أحملها أمام أولاده وأحفاده.. وزجته.. فقلت للسائق .. ولماذا هذا الاعتداء والقسوة عليهم..؟
قال لي : كنا نحن الجنود كالمجانين شرهين للضرب والتدمير من شدة الجوع .. وعندما أخبرونا اننا إن لم نجد البدقية الميري سوف يٌفْقدونا دفعة أو إثنين من الجيش وربما لن نخرج من الجيش مدى الحياة.. كعقاب جماعي لنا..!
حولونا إلى وحوش آدمية جائعة وعصبية تفتك بكل من كان السبب في هذا الجوع وكان البدو هم السبب كما أفهمونا القادة..!
الغنائم.. التي حصلنا عليها..:
يقول السائق أننا قد حصلنا على غنائم من البدو لم نكن نتوقعها..
أولاً ثلاث عربات محملة بالبنادق الآلية من جميع الموديلات ومن دول مختلفة.. قلت له وهل البدو اثرياء لكي يشتروا مثل هذا السلاح ؟ قال لي: لا بل كان البدو يعثرون على هذه الأسلحة من صحراء العلمين.. من مخلفات الحرب العالمية في معراك العلمين بين الألمان والانجليز..
ثانيا : مدافع مضادة للدبابات والطائرىت .. بالاضافة إلى البنادث والمسدسدات المير خاصة الضباط اللأمان والانجليز.. وقنابل ودانات مدافع .. وألغام أفراد .. وألغام مركبات، ومدرعان ودبابات..!!!
انتصرنا على البدو المصري في منطقة مطروح واستولينا على أسلحتهم وهدمنا بيوتهم ودمرنا آبارهم.. التي يشربون منها هم وإبلهم.. وتركنا واحات البدو أرضا محروقة..!!!
عدنا فائزين منتصرين .. وكان قائد المعسكر الذي نتبعه فرحا مستبشرا.. وكان الأسلحة كثيرة فوق الوصف ومغرية جدا.. وأنا كصعيدي أعشق إقتناء السلاح .. فسرقت طبنجة ميري.. من الغنيمة وحاولت إخفائها..
لكن القائد كان قد احصى جميع قطع السلاح .. اكثر من ثلاث آلاف بندقية ألية.. من طرز مختلفة ومن عصور مختلفة.. ومئات المدافع بأنواعها والقنابل ..الخ الخ..
لكن القائد قد عرف أنني قد خبأت الطبجة بهدف أخذها معي وانا نازل اجازتي.. لكنه توعدني وقال هات الطبنجة وإلا سوف يكون السجن الحربي مصيرك مدى الحياة.. لن ترى الحياة المدنية ثانية..
أنا يا بني خايف عليك لو عرف قائد اللواء آاو قائد قوات حرس الحدود قائد سلاح المدرعات بما فعلته.. فلن ترى النور ثانياً..
كان هذا القائد قوي البنية كأنه مقاتل روماني من العصور البعيدة .. وكان طوله اكثر من المترين كان يدخل الغرف وهو منحي لطول قامته.. وكان الشعر يملأ جميع أنحاء جسده حتى اصابه يديه حتى الأظافر.. قوة بدنية هائلة....
قام القائد بإبلاغ القيادات العليا على الفور بجميع محتويات الغنائم بالعدد وبالنوع.. والزخيرة بأنواعها..
قال لي لابد .. لابد أن تعيد الطبنجة المسروقة من العنائم فقد تم الإخبار عنها وهى في الأحراز..
وأردف قائلاً : هؤلاء القواد الكبار في الجيش.. (.. باللهجة المصرية .. دول مالهومش دين ولا ليهم رب .. ولا ليهم قرآن و إنجيل..)
أنا خايف عليك وعلى نفسي.... قال الجندي السائق فيما بعد.. و.
وقلت لقائدي .. سوف أر جع لك الطبنجة على شرط قال وإيه وهو.. تديني مكافاة من جيبك غنت عندما تاتيك الترقية .. القادمة .. فقال لي .. أنا مش عايز ترقية بس هم يحلوا عنا وما يعاقبوناش) .
قال السائق: وبالفعل بعد ثلاث أسابيع جاءته الترقية.. فأخذت منه مائتين وخمسون جنيها .. مصريا.. وقلت له عندما تأتيك الترقية التالية سوف آخذ منك مائتين من الجنيهات.. قال لي مش قبل خمس أو سبع سنوات حتكون إنت مشيت من زمان من الجيش ..قلت له: لا خلال مدة وجودي بالجيش سوف تأتيك الترقية الاستثنائية وكان الباقي لي في الخدمة ثلاث أشهر..
بعد أسبوعين.. جاءته الترقية الاستثنائية التالية .. وبشرته وأخذت منه المائتين من الجنيهات..
رواية من شاهد عيان مجند بالجيش.. وهذه أحد ممارسات الجيش المصري مع البدو المصري.. بناءا على تعليمات القواد الكبار في مناطق مطروح في الفترة من واحد وتسعون حتى ثلاثة وتسعون.