رسالة من شاب مسلم ملتزم شاذ جنسيا .!

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٠٧ - نوفمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 مقدمة

على باب الفتاوى (فاسألوا أهل الذكر ) فى موقعنا (أهل القرآن ) وردت هذه الرسالة ، وأتبعتها مكالمة تليفونية من صاحبها . ونظرا لأهمية الموضوع وحتى يحظى بقدر أكبر من النشر رأيت تحويله الى مقال ينشر فى موقعنا وفى الحوار المتمدن . نبدأ بالسؤال ، ثم بالاجابة عليه :

أولا : السؤال : ( أعترف لك بصراحة ، أنا شاب عمرى 31 عاما ، مسلم ملتزم وشاذ أيضا ، ولا حيلة لى فى هذا . منذ طفولتى وأنا لا أميل الى النساء بل أميل الى الذكور . وارجوك ألا تقول لى أن أتوب فلا أستطيع . ولا أسألك هنا عن التوبة ولكن عن مشكلتى .. فأنا مخلوق هكذا ، ولا إختيار لى فى كونى شاذا . وكل ما أريده أن أحب شابا ويحبنى ونعيش فى سلام ولا تؤذى أحدا . فهل سيعذبنى الله على هذا وأنا مجبور على هذا الذنب وليست لى آثام وجرائم بل يعرف عنى الجميع الخلق الحسن والكرم . ؟ هل بسبب اتجاه جنسى أدخل الجحيم يوم القيامة وتضيع كل حسناتى ؟ . لا أعتقد أن مصيرى مثل قوم لوط لأنهم لم يرتكبوا الشذوذ فقط ولكن جرائم أخرى منها الكفر والظلم . أما أنا فلا أظلم أحدا بل على العكس أحب الناس وأسعى فى الخير . ولولا  الشذوذ !!.. أحيانا أتساءل وأحيانا أندم ، ولكن لا أجد وسيلة للاقلاع عن الشذوذ . أتوجه اليك بالسؤال لأننى قرأت موقعكم ووجدتكم مختلفين جدا عن المواقع السلفية ، أم انكم تؤيدونهم فى أن أمثالى يجب قتلهم ؟

أرجو ألا تتجاهل سؤالى هذه المرة فقد سألتك من قبل ولم ترد . لا شك أن عندك الاجابة فأرجو ألا تبخل بها على .وشكرا .)

ثانيا : الرد :

فعلا ..تجاهلت رسالتك من قبل لتحرجى من نشرها . ثم بعد إعادة السؤال ثم حديثك التليفونى قررت النشر. وفى حديثنا التليفونى تحرجت من توجيه أسئلة معينة لك ، كما تحرجت من مواجهتك ببعض التفصيلات . والكتابة تعفينى من هذا الحرج. وموقفك يذكرنى بحالة أخرى لاحقنى صاحبها بايميلات وأسئلة ، وازداد إلحاحا وكل مرة كنت أزداد حرجا فى الرد عليه . ولأنها ( حالة ) موجودة ويناقشها الغرب بشفافية وموضوعية فلسنا أقل منهم . لذا سأجيب على سؤالك بهذا المقال وليس مجرد فتوى، حتى تضع النقاط على الحروف فى هذه المشكلة من وجهة نظر قرآنية .

وأقول لك الحقائق القرآنية التالية :

1ـ لا يوجد بشر معصوم من الخطأ ،كلنا ـ حتى الأنبياء نقع فى الخطأ . ولكن منا من يتوب ويصلح فيفوز يوم القيامة .

2ـ أول شرط للتوبة هو الاعتراف بالخطأ وليس تبريره . من يبرر خطأه لا يمكن أن يتوب . أفظع منه من يجعل الخطأ عبادة فيخترع دينا أرضيا ينطبق عليه قوله جل وعلا (وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )( الاعراف 28 ).وهذا ملمح أساس من ملامح الأديان الأرضية . وبه يتحول القتل الى جهاد كما لدى دين السّنة، ويتحول الشذوذ الى عبادة كما كان فى التصوف فى العصر المملوكى ، ويتحول الأذى وأسالة الدم للصغار والكبارالى شعيرة دينية كما يتعوده الشيعة فى التطبير فى عاشوراء.

3ـ لست مطالبا أن تبرر لى أنك مجبور على الشذوذ وأنك مخلوق كذلك . أنت الأعرف بنفسك ، وكل انسان يعرف نفسه لو خلا بنفسه وصدق مع نفسه ولم يحاولخداع النفس والتبرير والتعليل، يقول جل وعلا :(بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه ) ( القيامة 14 : 15 ). موضوع النيّة وامكانية الاقلاع من عدمه هى مشكلتك، و هى بينك وبين ربك جل وعلا وهو الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.

4ـ فى تعاملك مع ربك جل وعلا لا يصح أن تخدع الله جل وعلا لأنك حينئذ تخدع نفسك دون أن تشعر كما يفعل المنافقون (  يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ) ( البقرة 9 ). البداية هى الاقرار بالخطأ ، وعدم تبريره بأنك مجبور عليه أو مخلوق هكذا . لأنه على فرض أنك مخلوق بمشاعر سلبية ومحايدة نحو المرأة ، أى انك لا تحس بميل الى الاناث بل تحس بالميل الى الذكور ـ فليس فى هذا ذنب (كبير ) طالما كتمت رغبتك داخلك . ولكن حين تتحول المشاعر الى (فعل ) أى ممارسةالشذوذ وأن تقوم فى هذه الممارسة بدور المرأة فهذا فعل إختيارى تمارس فيه حريتك ولست مجبورا عليه .

النساء مخلوقات بالغريزة الجنسية نحو الرجال ، ومع هذا فهناك نساء يترهبن فى الدير وينسين الرجال والجنس، وهناك أرامل يتفرغن لرعاية أولادهن و يقاطعن الغريزة الجنسية تماما لرعاية أطفالهن . فهنا مشاعر غريزية ولكن أمكن السيطرة عليها وحجبها ومنعها. وبالتالى فأنت فى مشاعرك ـ غير الغريزية بل المناقضة للغريزة أى الشاذة ـ يمكنك أن تقاطعها ، أو حتى الأقل تجعلها مجرد مشاعر لا تتحول الى فعل وممارسة . الرجال مخلوقون بغريزة جنسية نحو النساء ولكن بعض الشباب المراهق الطيب قد يقع فى الحب  العذرى الافلاطونى العفيف المنزّه عن الاتصال الجنسى ، ولا يتصور نفسه فى وضع جنسى مع حبيبته . فإذا كان هذا مع الغريزة الجنسية الطبيعية فليست مشكلة فى أن تتغلب على اتجاهك الجنسى الشاذ وغير الطبيعى. أى إرغام نفسك عى ترك الممارسة.بل يمكنك إرغام نفسك على نسيان مشاعرك الشاذه ، وتتوجه بهذه المشاعر الى وجهة أخرى سامية تتفق مع ما تقوله عن نفسك من حب الخير . يمكنك الانغماس وقت فراغك فى خدمة الجمعيات الخيرية والحقوقية ومناصرة المقهورين ومعاونة الجوعى . هناك بدائل يمكن أن تشغل بها عقلك وقلبك وان ترغم نفسك على هذا بدلا من أن تزعم لنفسك أنك مجبور على الممارسة . هذا لو اردت توبة حقيقية . وبالتوبة الحقيقية ستتخلص من هذه المشكلة.

5ـ  بافتراض عجزك عن الاقلاع عن الممارسة فلا أقل من الاعتراف بأنه ذنب تتحمل أنت مسئوليته . وهنا يوجد علاج أيضا . فقد قلنا إنه لا يوجد إنسان كامل معصوم من الخطأ . ولا يوجد بشر لا يقع فى المعصية . والذى يدمن معصية ولا يريد الاقلاع عنها يمكنه بعد الاعتراف بأنها ذنب أن يحاول أن يجعلها ذنبه الوحيد . أى يقوم بتنقية عقيدته وقلبه من الوقوع فى الشرك العقيدى العملى ( تقديس البشر والحجر ) والشرك العلمى ( تقديس الأحاديث والكتب والأئمة ) وألا يقع فى الشرك السلوكى باستحلال القتل والظلم والاكراه فى الدين . وباجتناب الكبائر الأخرى من الزنا والبخل و الظلم ..الخ .. ثم ينشغل بالعمل الصالح ليغطى به على ذنبه . والعمل الصالح ليس مجرد الصلاة والزكاة والصيام والحج للمستطيع ولكن يضم أيضا أى عمل صالح نافع للمجتمع . وتأكد فى القرآن الكريم أن تقديم الصدقة والانفاق فى سبيل الله من مكفّرات الذنوب . ومنها قوله جلّ وعلا : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )( التوبة 102 ـ )، وقوله جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ) ( الصّف 11 : 14 )، (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران 133 ـ )

6 ـ عقوبة جريمة الشذوذ هى مجرد الأذى أى أقل عقوبة بدنية ممكنة أو التوبيخ لمن يتم ضبطهما، فإذا إعترفا تائبين فلا يتعرض لهما أحد:( وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) ( النساء 16 )، وبالتالى فهى أقل عقوبة مذكورة فى القرآن الكريم .ولكن يظل الشذوذ من كبائر الذنوب ، لا شك فى ذلك، فليس الشذوذ من السيئات الصغائر. يقول  جل وعلا :(إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا ) ( النساء  31). أى يدخل الجنة من يجتنب الكبائر من الكفر والشرك من الزنا والشذوذ والقتل والسرقة والظلم والزور..الخ ،مع إنه لايخلو من الوقوع فى الصغائر مثل اللمم كالنظرة المحرمة و كالسب والشتم والظن السىء بالناس ..هذه الذنوب الصغائر ممكن التوبة منها ودخول الجنة طالما إجتنب الكبائر . ربما يكون العقاب اليسير الدنيوى للشذوذ ـ وهو الأذى القولى ـ مبعثه أن ممارسته قائمة على إختيار الطرفين وبدون مساس بحقوق الآخرين وحقوق المجتمع . ولكن يظل الشذوذ من الكبائر مثل الذى يقتل نفسه انتحارا .

7ـ وبالنسبة للكبائر من الذنوب نتذكر الحقائق القرآنية التالية :

7/1 : كل الذنوب يمكن غفرانها إلا من يظل كافرا مشركا مصمما على كفره وشركه حتى الموت:(إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)(النساء 48)(إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا)النساء 116) .ويلحق بالشرك من يظل مدمنا على المعصية والفاحشة دون توبة واستغفار حتى الموت : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) ( النساء  17 : 18 ). ومن هنا تأتى الدعوة الالهية لنا من رب العزة بالاسراع بالتوبة والإنابة ونحن أحياء نسعى ، يقول جل وعلا يعرض مغفرته لكل العصاة والكافرين الأحياء: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ)( الزمر 53 : 55 ).

7/2 : للحصول على مغفرة لا بد من الاستغفار : ( وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( النساء 110 ).

7/ 3 ـ مهم جدا عدم الاصرار على المعصية وإدمانها بالتعود كشىء طبيعى . وجود الاستغفار حتى مع عدم الاقلاع يعنى الاعتراف بأنه ذنب ولا يجوز الوقوع فيه ، وينفى حالة الاصرار عى المعصية ويحولها الى ضعف الارادة وارتخاء العزيمة وعدم القدرة مع وجود الرغبة فى الاقلاع عن الادمان ، لذلك يطلب العون من الرحمن ويداوم على الاستغفار،وهذا معنى قوله جل وعلا فى صفات المتقين : ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران 135 ).

7 :/ 4 من هنا نفهم مدلول ومعنى (أوّاب ) فليس المعنى عدم الوقوع فى الذنب بل هو المسارعة الى التوبة بعد الوقوع فى الذنب ،أو العودة للصواب حال الوقوع فى الذنب . يقول جل وعلا عن الصالحين : (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا )(الاسراء 25 ) أى يغفر الله جل وعلا لمن تعود الاستغفار والعودة لله جل وعلا تائبا . وتكرار التوبة يعنى تكرار الوقوع فى الذنب وتكرارالاستغفار وتكرار الأوبة أو العودة وتكرار الندم . وهذا من صفات المتقين كما سبق فى الآية الكريمة :( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران 135 ).

ويوم القيامة سينقسم البشر قسمين : أصحاب الجنة وهم المتقون ، واصحاب النار وهم الكفرة الظالمون:(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ) (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا )( الزمر 71 ، 73 ).الأنبياء رسل الله هم ضمن المتقين ، يقول جل وعلا عن صنفى المتقين :(وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) فالذين جاءوا بالصدق أى بالرسالات السماوية هم الرسل الأنبياء ، والذين صدٌقوا بتلك الرسالات هم أتباع الحق ، وهم معا (هُمُ الْمُتَّقُونَ ). فالنبى الرسول تقىّ ، والمؤمن الذى آمن بالرسالة وتمسك بها عقيدة وسلوكا هو أيضا تقىّ . ولا تعنى التقوى هنا عدم الوقوع فى السيئات بل والأسوأ من السيئات أى الكبائر ، ولكن لأنهم يتوبون ويستغفرون ولأنهم (أوّابون توّابون ) فإن الله جل وعلا يغفر لهم يوم القيامة ويكفّر عنهم أسوأ الذى عملوا ويجزيهم على أعمالهم الصالحة بأحسن ما كانوا يعملون . ونقرأ الآيات كلها : :(وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ )( الزمر 33 : 35 ).ونعيد التذكير هنا على أن المتقين هم الأنبياء والصالحون المؤمنون ، وإن التقوى لا تعنى العصمة من الوقوع فى الكبائر ولكن تعنى استمرار التوبة واستمرار الاستغفار ،وأن يكون النبى وأن يكون المؤمن (أوّابا ). وقد مدح رب العزة بعض الأنبياء بأنه (أوّاب ) فقال عن داود عليه السلام : (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ )(ص 17)،وقال عن إبنه سليمان فى نفس السورة: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ )(30).

7/ 5 : باستمرار الاستغفار واستمرار التوبة يصل الانسان فى موضوع الاصرار على المعصية الى مفترق الطرق : إما أن يقلع عن الذنب الذى أدمنه متغلبا على الفجور فى داخل نفسه ، وإما أن يعجز عن إصلاح نفسه فيستسلم لشهواته المحرمة ، وربما يستخفى من الناس ولا يستخفى من الله جل وعلا ،أى ينافق يدعى الصلاح وهو غارق فى الفجور . وعن مصير الانسان بين الخيارين يقول جل وعلا : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا )( الشمس 7 : 10 ) فالمفلح المتقى هو الذى يسمو بنفسه بالاستغفار من العمل السىء وبالاكثار من العمل الصالح مع ايمان صادق. والخائب الخاسر هو من تقوده غرائزه الى السّفل والحضيض. ومفترق الطرق لمن يستغفر هو من يجدى معه استغفاره صلاحا بحيث يتقوى لديه ما يعرف بالضمير أو الأنا العليا فينهى النفس عن الهوى فيكون مصيره الجنة :( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى )( النازعات 40 : 41 ).

7/6 :يصل الانسان الى مفترق الطرق هذا عندما يبلغ الأربعين من عمره . عندها يجب أن يراجع نفسه ويتأهب للهبوط الى نهاية العمر فى النصف الباقى من عمره ، يسير  نحو القبر بعد أن صعد سابقا الى منتصف العمر . إجتماعيا من يصل الى سنّ الأربعين لا يليق به أن يتصرف بطيش الشباب ، وليس مقبولا منه أن يمارس صعلكة الشباب ، ولو فعل فإن نظرات الانكار و السخرية تلاحقه . وقرآنيا فإن الله جل وعلا يقسم مراحل حياة الانسان من الحمل الى وضعه مولودا الى مرحلة الشباب والتى تنتهى بالأربعين وتمام العقل ، وما يجب على الانسان حين يبلغ الأربعين ، يقول جل وعلا :(وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ  ) ( الأحقاف 15 : 16 ). بلوغ الأربعين هو مفترق الطريق لمن يكثر الاستغفار ، هنا يتوجب عليه ان يجنى ثمرة الاستغفار إقلاعا ـ ولو تدريجيا ـ عن المعصية .

7/ 7 هذا لايعنى أننا نعطى تصريحا لعمل المعاصى قبل الأربعين ، وليس هذا مبررا لمن يعزم على ارتكاب جريمة أو معصية مع عزمه على التوبة بعدها كقول أخوة يوسف حين تآمروا على قتل أخيهم يوسف :( اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ  ) ( يوسف 9 ). بالعكس ، فالله جل وعلا يدعو للتوبة فى مقتبل العمر،أو من قريب ، ويلتزم رب العزة بقبولها من الشباب المراهقين لو أثمرت أقلاعا عن الذنوب وصلاحا حقيقيا من بداية التكليف ، يقول جل وعلا :(  إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) ، وعلى النقيض من ذلك هو من ينسى نفسه فيدمن الكفر أو يدمن العصيان ثم يستيقظ من غفلته وهو على فراش الاحتضار فيحاول التوبة ، ولكن دون جدوى ، تقول الآية التالية : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (النساء 17: 18 ).عندها يصرخ مخاطبا ملائكة الموت حيث لا يسمعه من حوله من البشر : (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(المؤمنون 99 : 100 ) .ومن هنا يعظ رب العزة المؤمنين بالانفاق فى سبيله وهم أحياء يسعون فى الأرض طلبا للرزق من قبل أن يفاجئهم الموت فيطلبون ـ دون جدوى ـ مهلة أخرى يتصدقون فيها : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (المنافقون  9 : 11), أهمية المبادرة بالتوبة أنها تعطى الفرصة لعمل صالح يطغى ويغطى على السيئات فتتحول الى حسنات : يقول جل وعلا : (إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ) ( الفرقان 70 : 71 ). بدون هذا التبكير فى التوبة قبل الأربعين أو عندها قد لا يكفى الوقت الباقى لعمل الصالحات ، فهناك من يستمر بعد الاربعين فى ارتكاب الذنوب دون توبة ، ثم يتوب متأخرا ، وهذا أمره مرجع الحكم فيه الى رب العزة : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ  ) ( التوبة 106 ).

أخيرا : يبقى أن نذكر لك مزية فريدة، هى أنك تعترف بوجود مشكلة ، وتحاول البحث عن حلّ ، بينما يقع ملايين المسلمين فى كبائر ومهالك ويتعايشون معها على أنها سلوك طبيعى لا غبار عليه ، وبعضهم ينتظر شفاعة ( لن تأتى ) من خاتم النبيين وتحت أمانىّ الشفاعة الكاذبة يظل يمارس الفواحش والآثام والظلم الى نهاية العمر. بل إن بعضهم يحول الفسق والظلم والقتل العشوائى للابرياء الى تدين ودين فيقتل الأبرياء على أنه جهاد .

فى إعتقادى أنك افضل من أولئك الارهابيين ومن شيوخهم المنافقين . ولنتذكر أن من بين شيوخ التطرف ودعاته وجنده والمؤمنين به من هو مصاب بالشذوذ ، ومع أنهم يبلغون الملايين ويدمنون هذا الشذوذ إلا أنهم يتصورون أنهم يخادعون الله جل وعلا والذين آمنوا مع انهم لا يخدعون سوى أنفسهم وهم لا يشعرون .

اجمالي القراءات 505993