يمكن القول أن الحل لمشكلات عالمنا الإسلامي تتلخص في :
" إمكانية إيجاد ( توجه عام إسلامي ) في وجود التنوع الفكري " ؟
ومازالت هذه الإشكالية قائمة ولم يخرج علينا أحد لحلها على مدى التاريخ الإسلامي بكامله .
والأمة الإسلامية بخاصة مطالبة بحلها ، لكنها تقاعست منذ صدر الإسلام وحتى الآن .
ولنبدأ بالسؤال التالي
ما الهدف الذي لولاه ما أنزل القرآن الكريم ؟
الإجابة عند القائمين علينا وخاصة الفقهاء أصحاب الاختصاص عديدة ومتنوعة ، وغالبا لا تجد بينها الإجابة الواضحة والمباشرة والتي جاء بها القرآن الكريم
"وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون . 64 النحل "
الآية الكريمة تبين أنه لولا هذه المشكلة " الذي اختلفوا فيه " ووجوب بيانه للناس كافة بالإضافة إلى أنه "هدى ورحمة لقوم يؤمنون " ما أنزل القرآن الكريم
وما و إلا أداتا ( حصر وقصر ) .
هل الآية الكريمة بوضوحها تحتمل غير ذلك ؟
الإجابة عند فقهائنا نعم حيث يقصرونها على جانب التوحيد بالرغم من أن اللفظ مطلق .
أننا لم نتقاعس فقط عن تأدية الرسالة الموكلة إلينا ، بل وقعنا نحن داخل ما أمرنا أن نخرج الناس منه
" الاختلاف "
والمصيبة الأكبر أن الله عز وجل قد حذرنا من ذلك تحذيرا شديدا ، وبين لنا جزاء الوقوع في هذه الهوة السحيقة
يقول الله عز وجل
"ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . 105 آل عمران"
وإذا ذكرت هذا لأحدهم يقول لك نحن مختلفون في الفروع ولسنا مختلفين في الأصول ، متناسين أمرين على جانب كبير من الأهمية
الأول أن لفظ الاختلاف في الآيتين جاء بصيغة الإطلاق وليس مقيدا ولا مبررا بأي سبب من الأسباب .
الثاني : الآية الثانية تخاطبنا كأمة واحدة ومن يختلف في أصل من أصولها خرج منها كما يقولون
وعليه فالخطاب ليس موجها لمن خرج من هذه الأمة ( المختلف في أصل )
وبالتالي فالخطاب يخص الاختلاف في الفروع أساسا
ثم لننظر إلى الفئاة التي خصها المولى عز وجل بالعذاب العظيم
الذين هم متساوون في العذاب مع من تفرقوا واختلفوا
"الذين كفروا 7 البقرة" ، "ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها 114 البقرة" ، "الذين يسارعون في الكفر 176 آل عمران ، 41 المائدة" ، الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا 23 المائدة " ، من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق 101 التوبة" ، "بما صصدتم عن سبيل الله 94 النحل" ، من شرح بالكفر صدرا 106 النحل" ، والذي تولى كبره منهم – الإفك – 11 النور" ، الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات 23 النور" ، الأفاك الأثيم 7 الجاثية" .
فالمتفرقون المختلفون من بعد ما جاءهم البينات والفئاة السابقة سواء بسواء من ناحية الجزاء ، ولأن الله حكم عدل ولا يظلم الناس شيئا ، فبما أنه سبحانه جعل الجزاء واحدا فلابد وأن يكون الجرم متساويا .
من هنا ننتقل إلى سؤال لماذا كانت جريمة الفرقة والاختلاف تستوجب هذا الجزاء الرهيب الذي حدد لأراذل الناس ؟ انظر إلى قول المولى عز وجل "وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءهم البينات بغيا بينهم ، فهدى الله الذين آمنوا بما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم 213 البقرة" ، فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم 17 الجاثية" .
الآيات السابقة توضح أن هذه الجريمة "الفرقة والاختلاف" لم تتفشي بين الناس إلا بعد أن جاءهم البينات والعلم ، فبدلا من أن يأخذوا به كما أم ، فبدلا من أن يأخذوا به كما أراد الله سبحانه وتعالى تم تطويع هذا العلم والبينات ليتوافق مع أهواءهم وتحقيق مآربهم وتم تزوير الدين ليتحول إلى تدين ، ولكي يصبح مسوغا لهذه الأهداف التي هي ظلم للآخرين ٍ ، وأصبح البينات والعلم الآتي من عند الله سبحانه وتعالى لحل مشكلة الاختلاف بين الناس أداة يتخذ فيها الاختلاف وتكريسه لكي يبغي بعضهم على بعض ، فهو ليس ظلما عن جهل بل ظلم متعمد وصل إلى حد اقتراف جرائم القتل وإفشاء كل أنواع الموبقات وبالتعدي على حدود الله .
وماذا يصنع من لهم عذاب عظيم من الفئات الأخرى المذكورة أكثر من ذلك ، كما أن الآية الأولى تستثني الذين آمنوا بقوله سبحانه " فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"
وإن جاز لنا أن نستنتج فالفئة غير المستثناة فيمن بيننا وهم الذين اختلفوا لتحقيق مآربهم غير مؤمنين أي "كافرين" .
ولما الاستنتاج ؟ فلننظر إلى ما جاء بعد الآية 105 آل عمران .
" ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم ، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون 105 ، 106 آل عمران" .
فهل وضحت الرؤية ليس هؤلاء متساوين بالكافرين بل هم الكافرون حقا
فكيف يهدينا سبحانه وتعالى بالقرآن الكريم ويحذرنا سبحانه من الاختلاف لنكون خير أمة أخرجت للناس ، ولنكون شهداء على الناس ، ويبين لنا عاقبة المختلفين المتفرقين ثم بعد كل هذا نختلف ونتفرق .
ولكن ما هي وسيلتهم لتبرير وتكريس الاختلاف والذي أصبح ساري المفعول حتى وقتنا الراهن ؟ .
إن تعدد الرؤى ظاهرة صحية ونصل إليها بالمجاهدة ولابد منها لأنها تضع أمامنا الحد الأقصى من الاحتمالات الممكنة ولكن الثبات عندها هو الآفة الكبرى التي نتحدث عنها "الاختلاف" لأن كل فريق يتمسك بوجهة نظره "رؤيته" لتحقيق مآربه والتي هى ظلم للآخرين بدلا من أن تمحص مع الرؤى الأخرى "الحجة بالحجة" حتى تظهر أكثر الرؤى قربا إلى الصحة لنعمل على أساسها في توجه عام يوحد الأمة ولا يفرقها إلى أن تأتي المعلومات المكتشفة التي يمكن أن تعدل أو تغير أو تثبت وهكذا { نسق مفتوح } ، ولكن الذي حدث غير هذا ثبتت كل الاجتهادات وتبع كل منها طائفة ، فكنا وما زلنا مجموعة من الطوائف على شكل فرق ومذاهب ، كل فرح ويحتج بما لديه في مواجهة الآخر ، وبذلك وعلى مدى تاريخنا نتشاحن ونتشاجر ونتحارب ويقتل بعضنا بعضا في نفس الوقت الذي نحن في كعامة مؤمنون وعلى درجة عالية من الالتزام بأوامر الله سبحانه وتعالى ولكن كل حسب ما يتلقاه من فهم فتعددت افهامنا وتناقضت حسب افهام من نتلقى عنهم أوامر الله سبحانه وتعالى ، وكل ممن هو قائم علينا دينيا يدعي لنفسه الصحة وما عداه على خطأ أو يحتمل على صواب ، وفي نفس الوقت يبررون هذا الموقف ويدعون أن هذا الاختلاف صحي ، وأن القرآن حمال أوجه " متعدد الاحتمالات" ونردد وراءهم القول أن الاختلاف بين المذاهب رحمة للتيسير على العباد ، حتى وصل الأمر بقول البعض "نعم الاختلاف رحمة والاتفاق نقمة" .في حين لا يخفى على أحد منا وفي أعماقه أننا متخلفون عن الركب الحضاري بسبب اختلافنا الذي يؤدي دائما إلى تشتيت قوانا ومواردنا وخاصة ونحن في عصر التكتلات الذي تتكامل فيه القوى التي ليس لديها من مقومات الوحدة شئ مما لدينا ، وأن نجاتنا في الدنيا والآخرة مرهون بتحقيق ما أمرنا به الله سبحانه وتعالى ووهبنا مقوماته .
وأتساءل هل يوجد تغييب للوعي لدى آية أمة مهما كانت متخلفة مثل ذلك ؟
قد يقول قائل إن الاختلاف لابد وأن يكون قائما إلى يوم الدين كما ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم وهذه مغالطة لأن الاختلاف حقيقة لابد وأن يكون قائما إلى يوم الدين ولكن فيما بين الناس وليس بين أبناء الأمة الواحدة كأمتنا التي أرادها المولى عز وجل أمة واحدة والتي لها مرجعية واحدة ألا وهى القرآن الكريم .
وهذا ما تبينه كل الآيات القرآنية التي ذكر فيها الاختلاف .
وردت مادة "خلف" في القرآن الكريم في 127 موضع جميعها بمعنى ثبات التباين الذي يمكن أن يصل إلى حد التضاد .وبالنظر إلى أسباب الاختلاف بصورة عامة نجد أن له أربعة أسباب لا يخرج عنها وهى :
قلة المعلومات ، خطأ المعلومات أو عدم دقتها ، إتباع الهوى ، عدم تحديد معاني الألفاظ بدقة .
فالثلاثة أسباب الأولى لا يختلف حولها أحد لأنها بديهيات ، أما السبب الرابع فهو الذي تم التعتيم عليه وهو المسئول عما وقعنا فيه من مصيبة الاختلاف سواء بسوء نية قد ارتكن عليه من أرادوا الاختلاف كمسوغ ليبغي بعضهم على بعض ، أو عن جهل بما درجنا عليه في تعاملاتنا ، ولم نفرق بين كلامنا كبشر نتعامل ٍٍٍبما يسمى ألفاظا اصطلاحية يمكن أن يتغير معناها بالتطور الزمني أو من موقع إلى آخر وأيضا ألفاظا معربة هذا من جانب
ومن جانب آخر فاللفظ وعاء للمعنى واللسان والفكر وجهان لعملة واحدة أو صنوان كما يقولون ، وبالرغم من ذلك يقرون ويعترفون بأن استخداماتنا للغة لا يتمشى مع المنطق العقلاني ، وعليه ألا تكون النتيجة أن فكرنا لا يتمشى مع المنطق بالتبعية ، وحددنا لكل لفظ أكثر من معنى في تعاملاتنا وسحبنا ذلك الاستخدام على ألفاظ القرآن الكريم .
ومن هنا حددوا ثلاثة استخدامات لألفاظ العربية :
1- إما أن يكون اللفظ له معنى واحد محدد بدقة ولا يختلف في أي سياق ، وهذا الاستخدام نراه بالنسبة للألفاظ الشائعة التي لا لبس فيها ، والتي توصف بأنها قاطعة الدلالة .
2- وإما أن يكون للشئ الواحد أكثر من لفظ يدل عليه ، وذلك حين تتعدد المعاني الجوهرية التي يحتويها فيطلق على الشئ الواحد ألفاظ متعددة تتحدد حسب السياق الذي نريد معه إظهار هذا المعنى أو ذاك .
3- وإما أن يكون للفظ الواحد أكثر من معنى يدل عليه ، وذلك حين يكون هناك التباس في المعنى لا يتوافق مع مذهب المفسر ، فيستخدم المعنى الذي يريد ليتمشى حسب السياق ويستخدم معنى غيره ليتمشى مع سياق آخر ، وهو ما يقال عنه ظني الدلالة .
فالاستخدامان الأول والثاني استخدامات صحيحة وردت في القرآن الكريم ، أما الاستخدام الثالث والذي سحبناه على ألفاظ القرآن الكريم فهو الذي أوقعنا في الارتباك وتعدد المعاني للفظ الواحد وكثرت التفسيرات وتعددت كما لو أن هذه التفسيرات نظريات احتمالية نتعامل معها كما لو كانت حقائق ثابتة وكل فريق يأخذ بالتفسيرات التي على هواه أو التي تتمشى مع رؤيته وألزم تابعيه على الأخذ بما ذهب إليه ، وبذلك تفرقت الأمة وأصبحت على هيئة فرق ومذاهب تتعارض مصالحها حسب تنوع رؤاها إلى الحد الذي نراه أو نسمع عنه منذ صدر الإسلام وحتى الآن .
وللأسف سحبنا هذا الاستخدام على القرآن الكريم ، وتناسينا أن هذا الكتاب من عند من يعلم السر وأخفى ، فهذا الكتاب له سمتان أساسيتان لا توجدان في أي كتاب آخر " العلم المطلق وألفاظه تعبر عن المعنى الحقيقي لما تحتويه الأشياء " ، إنه كتاب فصل على "علم مطلق وليس علم البشر النسبي "ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون 52 " ومعنى هذا أن القرآن الكريم كتاب علم في منهجه ومحتواه ، وهو الذي قال عنه الخالق جل وعلا : " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد 42 فصلت" فكلمة الله تتمثل بأمره انظر إلى قوله سبحانه : " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون 47 آل عمران" .
وسيدنا عيسى عليه السلام هو كلمة من الله ، وعليه فألفاظ القرآن الكريم تحمل معناها الحقيقي داخلها كما أنه علم مطلق ، وهذا الفارق ولا غيره يفرق بين اللفظ القرآني واللفظ الإنساني .
من هنا وجب علينا حين التعامل مع القرآن الكريم أن نتعامل معه بالمنهج العلمي ولا غيره ، والمنهج العلمي يحتم علينا أن نتعامل مع كل لفظ بمعنى واحد محدد بدقة كما في الألفاظ العلمية مع الفارق ، لأن الألفاظ العلمية تعبر عن الشئ فقط كمدلولات اصطلاحية ولا يحمل اللفظ معناه الحقيقي داخله كرموز الكيمياء مثلا أو الألفاظ الاصطلاحية المتفق عليها من الجميع ولا يوجد حولها لبس ولا غموض .
فكيف السبيل إلى ذلك ؟
لابد من التعرف على النسق القرآني ، والذي يجعلنا نتعامل مع القرآن الكريم ككل موحد ، بمنهج علمي منطقي لا حيود ولا شذوذ فيه .
تقديم للنسق
للتعرف على المعنى الدقيق للفظ يجب حصر كل الآيات التي ورد فيها هذا اللفظ ثم افتراض أقرب المعاني للصحة ، ثم يتم اختبار هذا المعنى في كل الآيات التي ورد فيها هذا اللفظ مهما كان عددها ، فإن استقام اعتبرنا هذا المعنى صحيحا ، وإن شذ أو حاد في أي آية أو أكثر اعتبرنا هذا المعنى غير صحيح ونعيد النظر حتى نصل إلى المعنى الذي يتفق مع كل الآيات التي ورد فيها اللفظ .
مع الأخذ في الاعتبار "التجريد" تجريد المعنى من التحديد أو التشيئ بمعنى أن نخرجه من الأشياء التي بتمثلها فلا نحجمه داخلها بل هي تدخل في إطاره مع أشياء أخرى ، وبذلك أيضا نقضي على ما يعرف بالمجاز في القرآن الكريم لأن ألفاظه جميعها ألفاظ حقيقية لا مجاز فيها .
وما دمنا نعيش نحن المسلمين مختلفين فهذا يعني أننا لم نصل على المستوى الثقافي وعلى مدى تاريخنا كله الذي يمكننا من التوحد رغما عن كل المحاولات التي تمت في هذا السبيل ، وهذا يعكس مدى التخلف الذي نعيشه ويعكس أيضا المطامع التي أراد أصحاب الشأن في هذه الأمة أن يحوزوها سواء بالحق أو الباطل .