أيها المصريون،
كاد قلبي اليوم يتوقف عن الخفقان عندما شاهدتُ صورةَ صديقي العزيز العقيد معمر القذافي، وتخيلتُ نفسي في ماسورةٍ ضيّقة خَلْفَ مُجَمَّع التحرير وقد أمسك بي الثوارُ، ثم جرّوني إلىَ ميدانـِهم وأنا أصرخ وأصيح وأبكي وأتوسل إليهم قائلا: إنني بطلُ الضربة الجوية الأولى، ولكن كيف لصوتي أنْ يصل إلىَ مسامع ملايين الغاضبين؟
فجأة هبط عليَّ هدوءٌ شديدٌ، ونظرتُ حولي فوجدتُ رجالي يصولون ويجولون في مصر كلـِّها، فهم يُطـِلُّون عليكم من الشاشة الصغيرة وفي الحُكم والقصر والمؤسسات الحكومية والجامعات والأحزاب، وأكثرهم علىَ مرمىَ حجرٍ من الوصول إلى الحرم الديمقراطي ولا ينقصهم غير استنساخ أحمد فتحي سرور كالنعجة دولـّي.
سألتُ أحدَ رجالي عن أموال أسرتـِنا ورجالـِنا النائمة في سكون بمصارف الخارج فجاءتْ كلماته برْداً وسلاماً، وأكد لي أنْ لا أحد يستطيع أن يمسّها أو يقترب منها، فغضبُ ملايين المصريين الذي مرَّتْ عليه تسعةُ أشهر أصبح عادةً، والعادةُ تقتل الطموحَ، وتكرار ُالجمعةِ المليونية تؤجل اليومَ الموعود.
في كل أسبوع تعلن دولةٌ عن اكتشافِ أموال لي أو لجمال وعلاء في خزائنها ومصارفها، وهي تكفي لانعاش اقتصاد مصر المحتضر، لكن سلطتكم تصُمّ أذنيها، وتغمض عينيها عن الكارثة الخطيرة في الكشف عن أموالي، ثم ترسل من يتفاوض من أجل الحصول على قرض، وهو مبلغ يعادل ما يمكن أن يلعب به علاء مبارك وأحمد عزّ بصفقات موبايلية من خلف القضبان.
هل صحيح أنكم أطحتم بالنظام المباركي الشريف لعائلتنا الكريمة التي امتصت دماءكم وأموالكم كما تمتص البعوضةُ دمَ ضحيتــِها؟
هل صدّقتم أنني لا أستطيع الحراكَ أو الجلوسَ، وأن المستشار أحمد رفعت يستطيع أنْ يرفع وجهـَه ، ويحرك نظارتــَه لأرنبةِ أنفــِه، ثم يحدّق في وجهي؟
هل تستطيع قوةٌ في مصر كلــِّها، من المجلس العسكري إلىَ كل القُضاة والمحامين أنْ تحاكمني على ثلاثين عاماً من حُكْم الفرد الواحد، المـُتَسلّط، الجبّار، المستنزِف لكل جيب مصري مثقوب، والخاطف لكل لقمة مِنْ فمِ جائعٍ أو محروم؟
تمَخض الجبلُ فولـَدَ ذُبابة، وقامت ثورةٌ مليونيةٌ جعلتكم مِحورَ أحاديث سُكان الأرض برمتـِها، وانتهى الأمر ُإلىَ نقلي لقصرٍ فاخرٍ بشرم الشيخ، وترك زكريا عزمي عدة أشهر ليتولى تسوية الاشكالات القانونية والمالية التي قد تجعل الحبلَ الذي سليتف حول عنقي يدور كالثعبان ويلتف حول الثورة وشبابــِها.
وارتدتْ وجوهٌ أقنعةً جديدة، وقمنا بالاستغناء عن البعض حتى يذهب بكم الظنُّ إلىَ نجاح ثورتـِكم، وعاد أكثر رجالي إلىَ أماكنهم، وضاعفتُ أعدادَ البلطجية والمجرمين حتى تتحقق تهديداتي لكم بالخيار ما بين طاغيتـِكم و .. بين الفوضى.
وتفرّقتم أحزاباً وفـِرَقاً وجماعات، وخرج الماردُ من القمقم ماسكاً سبحة، ومُسِبِّلا عينيه، وزاعما أنَّ اللــهَ تعالى أرسله ليــُطـَبِّق شريعتَه، فتكحلتْ العيون، ونبتَ شعرُ اللحية، وبدأ العدُّ التنازلي لكم فور اكتشاف الآخر، الملحد، والقبطي، والعَلماني، واليساري، والشيوعي، والفاجر، والليبرالي.
في فنزويلا وكوستاريكا والبرازيل والسلفادور وكولومبيا وجنوب أفريقيا لم يعد المواطن يأمن علىَ حياتـِه وأموالـِه وأمنه، ويخرج من بيته كأنه الخروجُ الأخيرُ بفضل عصاباتِ الاجرام والمخدرات والبلطجة، وتلك كانت أمنيتي فما دمت خارج القصر فلن أجعلكم تهنئون بيومِ أمنٍ واحدٍ يـُظللكم، ويمنحكم الأملَ في مستقبلٍ واعدٍ لمصر ولأجيال قادمة.
فيكم سذاجة تتناقض تماماً مع ما زعمتم بأنها أجمل وأعظم وأطهر ثورات العصر، ومرَّت تسعة أشهر، ولو سألتم طفلا غضَّاً غريراً عن المحاكمة لظن أنكم تستخفون بعقله، فجسدي بعيدٌ عن قصر العروبة، وروحي تـُحـَلّق في كل مكان، وتلامذتي أوفىَ من الكلاب، وقد قرأتُ عن تلك اليمنيةِ التي حصلتْ على جائزة نوبل للسلام، وأرتعشتْ أوصالي فقد اكتشفتْ هي ما لم يـَدُرْ بذهن أكثر شبابـِكم الثوريين ذكاءً، وقالت بأن مناهضي أخي الديكتاتور علي عبد الله صالح لن يغادروا الساحات حتى يتغيّر النظامُ كلـُّه، وتتولى حكومةٌ مدنيةٌ زمامَ الأمور، ويصدر حُكمُ الشعبِ، وهي تعني الإعدامَ لنظيري طــاغيةِ اليمن.
الثورات لا تحدث كل شهر أو عام، وأنتم فرَّطتم فيما كان يمكن أنْ يكون معجزةَ العَصْر، وفرحتم للاطاحة بي، وكان يمكن أنْ تعلنوا الاعتصامَ جميعاً حتى تعود أموالُ الشعب التي نهبتها أنا وأولادي، حتى زوجتي، سيدتكم الأولى، ضحكتْ علىَ الدولةِ باعادةِ عدّة ملايين من الجنيهات وهو مبلغ يعادل مصروفَ الجيب ليومٍ واحدٍ في حياةِ أيٍّ من رجالي أصحابِ المليارات.
لماذا لمْ تثوروا ضدي وتطالبون بمحاكمتي علىَ ثلاثين عاما؟ الأمر بمنتهي البساطة أنكم أكثر سذاجة من كل ثوّار الدنيا؟
الغلاء والجوع والفقر والمشروعات المتوقفة تستصرخكم بكل ذرة كرامة لدىَ المصري أنْ تخرجوا اليوم وليس غداً، الآن في هذه اللحظةِ وليس قبل أن تغرب الشمسُ لتـُطالبوا بكل المليارات التي لأولادِكم حق فيها، لكنكم مهمومون ومنشغلون بانتخابات مجلس الشعب التي ستعيد كلابي، أعني تلامذتي إلى الجلوس تحت قبة البرلمان.
لقد تفرقتم، وظن الإخوان المسلمون والسلفيون واليساريون والعلمانيون وعواجيز المعارضة البائدة أن وقت تقسيم الكعكة قد حان، ولم يعرفوا أنهم اقتطعوا من جسد بلدكم وليس من غنائم ميدان التحرير
أيها المصريون،
إنني أعرف أنكم تحلمون لي بمصير كمصير أخي رسول الصحراء، وكل واحد منكم يتمنى أن يَحجّ إلى المشرحةِ ليشاهد بنفسه جسدي المسجى، لكنني لست بغباء العقيد أو حماقة علي عبد الله صالح أو جبن زين العابدين بن علي، فمن يحكمون من بعدي يخططون لي، ويحافظون على أموالي، ويحكمون باسمي حتى لو صبّوا اللعنةَ عليَّ علانية، وبصقوا علىَ عهدي في كل مانشيتات الصحف المصرية.
سيقوم شبابــُكم بالدعوة لمليونية، وستنسحب القوى الدينية التي حصلتْ على نصيبـِها من جسد مصر، وستتم تغييرات شكلية لكن لا مكان للشباب بين من يخلفني في الحُكم، ولن أسمح لكم أن تستردوا أموالـَكم، والحمد لله أنكم لا تكترثون إلا لنكتة أو مزحة، فتقرؤون مثلا عن اكتشاف سبعة وعشرين مليار دولار باسمي في قبرص، ومثلها في الولايات المتحدة وربما ضعفها في بريطانيا، وتعلن الحكومة السويسرية عن حساباتي كأنها تستجديكم أن تستردوها فورا، لكنكم تضربون كفاً بكفٍ، وتتعجبون من هذا النهب النهم، وتعودون إلى بيوتِكم كما فعلتم طوال ثلاثين عاما.
عشرات الآلاف من الخطرين والمجرمين وأصحاب السوابق سيجعلون بلدَكم ساحة للاختطاف، والاغتصاب، والقتل، أما الحكومة والعسكر والأمن فيعرفون مكان كل مُسَجَّل خطر، ويستطيعون لو أرادوا أن يعتقلوهم في يومين اثنين، لكن قـَتـْلَ الثورةِ له رجاله الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف.
هل تغير الإعلام؟
هل تطهرت السياحة من الفساد؟
هل انتهى التعذيب كلياً، وغابت هراوة العسكر والأمن؟
هل الذين قتلوا مئات من شباب الثورة أشباح أم كائنات غريبة هبطت من كواكب بعيدة؟
إنهم رجالي الذين تعرفهم السلطة والحكومة والأمن والعسكر، وتدينهم عشرات الأفلام والتسجيلات والوثائق ومئات الشهود، لكن المحكمة المنعقدة لذر الرمادِ في العيون ليس مسموحاً لها أنْ تقترب من كلابي، ولا مانع فقط من حفنة منهم قمنا بتقديمهم كبش فداء لتتوازن حبكةُ المسرحية.
عندما رفع ابني جمال السبّابة والوسطى، اشارة النصر، داخل المحكمة، ومن خلف القضبان وبثقة شديدة كان يريد أن يقول لكم: طـُزّ في المحاكمة وفي لجان تدعّي أنها تبحث عن أموالي في الخارج، وفي مصريين فرّطوا في انتصارهم، وبدلا من أن يصبّوا جَمَّ غضبــِهم علىَ عهدي وعلى مسرحية المحاكمة وعلى التباطؤ في استرداد الأموال، تململوا من الشباب الثائر، وجعلوه مسؤولاً عن الوضع المخزي، والمؤلم، أمنيا واقتصاديا واجتماعيا .
أيها المصريون،
الذكي والداهية من يضحك في الآخر، وأنا رغم غضروفي الذي يؤلمني أضحك قبل النوم وبعد الاستيقاظ فقد أقسمتُ أن لا أجعلكم تسعدون وتهنئون بيوم واحد، وعندما يصدر حكم البراءة ضدي من أخي المستشار أحمد رفعت، تكون أموالُكم، أقصد أموالي في الخارج قد عادت لي ولأهلي ولأجيال من بعدي.
تحلمون لي بمصير ملك ملوك أفريقيا، والأيام بيننا، ولينفعكم الفيسبوك والانترنيت والجُمعات المليونية، فأنتم 460 فرقة وحزب وجماعة، وطالما أنا على قيد الحياة فسأجعل أيامــَكم جحيماً، وحروباً بين المسلمين والاقباط، وظهورا لقوىَ التخلف والرجعية والمعجونة بالقسوة والوهم وكراهية الآخر.
حَكَمَتْ المحكمة على المتهم محمد حسني السيد مبارك وابنيه جمال وعلاء بالبراءة عن ثمانية عشر يوما في حُكم مصر، وأنه لا يحق لأحد أن يقترب من أموالهم فقد قاموا بجمعها من عرق الجبين!
هذا منطوق حُكم السيد المستشار أحمد رفعت الذي استجاب ،مشكورا، لأكبر لعبة في تاريخ مصر.
والآن أترككم فليس لديَّ وقتٌ، والاتصالات بي تشغل ليلي ونهاري، وكل جماعة تسألني النصيحة، حتى لو لم يكن هناك اتصال مباشر، وأنا في انتظار مليونية جديدة حتى أضع خطة سرقتها كما يفعل أي لص محترف
أيها المصريون،
لست مديناً لكم بشيء، لكنكم مدينون لي بثمنِ درسٍ لقنتكم إياه في هذه الرسالة وهو أغلى من كنوز الأرض، فهل تعلمتم منه شيئا؟
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 23 أكتوبر 2011
Taeralshmal@gmail.com