إن الخدعة المستهلكة التى طالما روج لهـا المسـتبدون مـن قـديم الزمـان وحتى الآن، هى إدعـاء القدسـية المستمدة من اللـه أو الأب أو شيخ القبيـلة، وفى البـدء ادعى فرعون أنـه المعبـود الذى ينبغى للأمة أن تنقـاد لـه، ومن يشـق عصا طاعة فرعون فقـد كفـر وحق عليـه عـذاب جهنم والحرمان من الجنـة في الآخـرة، والقتل والمحق في الدنيا، حتى أن ملكة مصر حتشبسوت زعمت أن الإله آمون قـد ضـاجع أمهـا فأنجبتهـا، لذا وجب لهـا الملك بحق الوراثـة، فهى ابنة الإلـه .ورأى فرعون المسـتبد أن إضفاء القدسـية الإلهية عليه تعصمه من شـعبه إذ أن الخروج عليـه كفـر لا يجوز في الدنيـا أو الآخرة .
ويدعى الخليفة "المسلم" أنـه ظل اللـه في الأرض، فهو لم يجرؤ على القـول بأنـه إله تجب عبادته، أو يتجاسر بالزعم أنـه غير بعيـد عن مقـام العـزة الإلهيـة كما زعم فرعون، وإنما قـال قـولا مطاطا ضبابيـا يخوله نفس حقـوق الفـرعون، أنـه (ظل) اللـه في الأرض، ينطق بلسـانه، ويضرب بسـيفه، وينهب باسمه .
قـال الخليفة العباسى المنصور في خطبته يوم عرفة:
" أيها النـاس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسـديده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه، فقـد جعلنى اللـه عليه قفلا، إذا شـاء أن يفتحنى فتحنى لإعطائكم، وإذا شـاء أن يقفلنى عليـه قفلنى" .
والمدهش حقا أن أكذوبة (ظل)الله في الأرض قال بها كذلك رجال الكنيسة وملوك أوروبا في عصور الظلام ." يقـول جيمس الأول ملك إنجلترا: إننـا نحن الملوك، نجلس على عرش اللـه على الأرض ! ويقـول لويس الخامس عشـر: إننـا لم نتـلق التـاج إلا من اللـه ، فسلطة سـن القـوانين هى من اختصاصنا وحدنـا بلا تبعـة ولا شـركة ! ويقـول لويس الرابع عشر: إن سلطة الملوك مستمدة من تفويض الخالق، فاللـه مصدرها وليس الشعب " .
يقـول اللـه تعالى عن فرعون أنـه قال: (ياأيها الملأ ما علمت لكم من إلـه غيرى)، وكان منزها عن أن يتحدث إليـه أحد، بل من يتحدث معه كان يتحدث في (حضرته) وليس (معه)، ولاحظ التعبيرات التى ورثنـاها من تراثنا القديم والتى نستخدمها حتى الآن في أحاديثنا مع رؤسائنا فنقـول: حضرتك ولا نقـول أنت نفيـا للمساواة وتأكيدا للتمايز والتفاضل بين المتحدث والمتحدث إليـه، ونقـول (سـيادتك) فنحن عبيـد وهو السـيد، ونقول: ولى النعم وصاحب السـمو وصاحب الجلالة...وكلها ألفاظ تكشف في يسر تراث العبيـد الذى اسـتقر في ضمائرنـا .
" ويحث القـديس بولس المواطنين على الخضوع للسلطة العليـا في المجتمع وهى سلطة الحاكم التى أرادها اللـه ووضعها بترتيب منـه، ومن يعترض فإنما يعترض على المشيئة الإلهية ويستوجب غضب اللـه ونقمته! كما أنـه يفترض أن "سـيف الحاكم" لا يسـتخدم إلافي معاقبـة الأشـرار، وكل من يعارضه فهو شرير، وكل من يخافه فلأنه مجرم آثـم "! وهكذا ظهر الحق الإلهى المقدس للملوك، رغم أن المسيحية خطت بعـد ذلك خطوة مهمة جدا عنـدما نفت بشدة الطبيعة الإلهية للحاكم، واعتبرتـه بشـرا، وإن كان بشـرا يتمتع بسـلطان من اللـه! وهو سلطان ينبغى الخضوع لـه، والامتنـاع عن مناقشتـه، وإرجاء الأمر كلـه إلى اللـه ليحاسـب الملوك في الدار الآخرة، أما في هـذه الدنيـا فالسمع والطاعة والامتثـال والاستسلام، واعتبار صاحب السلطة ومانحها للحكام هو وحده دون سواه الذى يملك محاسبتهم إذا ظلموا أو أساءوا استخدام هذه السلطة " .
ويرى البعض الآخر من المستبدين الإنتفاع بما للأب على الأبنـاء من حقـوق الطاعة، فيرى أنـه "كبيـر العائلة" في محاولة لإسباغ نوع آخر من القدسية تكفل له نوعا من الحصانة ضد شعبه الذى يجب أن يرى فيه الأب المطاع الذى لا يجوز أخلاقيا عصيانه، فالخروج عليـه عقـوق يعدل الشرك باللـه، "وكلمة المستبد DESPOT مشتقة من الكلمـة اليونانيـة DESPOTES التى تعنـى رب الأسرة، أو سيد المنزل، أو السيد على عبيده، ثم خرجت من هـذا النطاق الأسرى، إلى عالم السـياسة لكى تطلق على نمط من أنمـاط الحكم الملكى المطلق الـذى تكون فيـه سلطة الملك على رعاياه ممثلة لسـلطة الأب على أبنـائه في الأسـرة، أو السـيد على عبيـده، وهكذا فإن الخلط بين وظيفـة الأب في الأسـرة التى هى مفهـوم أخلاقى، ووظيفة الملك التى هى مركز سـياسى، يـؤدى في الحال إلى الاستبداد " .
ورغـم أن هنـاك الكثيرين مـن الحكام المسـتبدين في التـاريخ الإسلامى ممن زعمـوا فرية الحق الإلهى، إلا إنهم يختلفون عن مدعى الحق الإلهي من ملوك أوروبا في عصور الظلام الذين سنوا القوانين ونسبوها إلى اللـه وألزموا النـاس باتبـاعها، وهذا ما لم يجرؤ عليه مستبد واحد من مستبدى المسلمين طوال تاريخهم، فقـد ادعـوا الحق الإلهي ليبـرروا ظلمهم للعبـاد ووجوب الطاعـة لهم من أجل استلاب الأموال والانفـراد بالسلطة، ولكنهم لم يعتـدوا قط على سلطان اللـه في سن الشرائع .وادعـاء المسـتبد للقدسـية حدا بالكثيرين إلى الظن أن الاستبداد السـياسى هو ابن الاستبداد الدينى، وكانـوا يشـيرون بذلك إلى اسـتبداد رجال الكنيسة في القـرون الوسطى واسـتبداد سلاطين المسلمين، وفاتهم أن هنـاك ألوانـا كثيـرة من الاستبداد السـياسى لم تكن وليـدة للاسـتبداد (الدينى) أى الاستبداد المنسوب زورا وبهتانا إلى الرب، ومادام الحاكم المستبد مقـدسا بحكم أنه يمثل إرادة الله في الأرض، فلا تجوز معارضـته سـياسيا، وبذا ينمحى النشاط السياسى المعارض ويعتبر من قبيـل التمـرد، بل هو الكفـر والزندقـة . نبيل هلال هلال
ن الخدعة المستهلكة التى طالما روج لهـا المسـتبدون مـن قـديم الزمـان وحتى الآن، هى إدعـاء القدسـية المستمدة من اللـه أو الأب أو شيخ القبيـلة، وفى البـدء ادعى فرعون أنـه المعبـود الذى ينبغى للأمة أن تنقـاد لـه، ومن يشـق عصا طاعة فرعون فقـد كفـر وحق عليـه عـذاب جهنم والحرمان من الجنـة في الآخـرة، والقتل والمحق في الدنيا، حتى أن ملكة مصر حتشبسوت زعمت أن الإله آمون قـد ضـاجع أمهـا فأنجبتهـا، لذا وجب لهـا الملك بحق الوراثـة، فهى ابنة الإلـه .ورأى فرعون المسـتبد أن إضفاء القدسـية الإلهية عليه تعصمه من شـعبه إذ أن الخروج عليـه كفـر لا يجوز في الدنيـا أو الآخرة .
ويدعى الخليفة "المسلم" أنـه ظل اللـه في الأرض، فهو لم يجرؤ على القـول بأنـه إله تجب عبادته، أو يتجاسر بالزعم أنـه غير بعيـد عن مقـام العـزة الإلهيـة كما زعم فرعون، وإنما قـال قـولا مطاطا ضبابيـا يخوله نفس حقـوق الفـرعون، أنـه (ظل) اللـه في الأرض، ينطق بلسـانه، ويضرب بسـيفه، وينهب باسمه .
قـال الخليفة العباسى المنصور في خطبته يوم عرفة:
" أيها النـاس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسـديده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه، فقـد جعلنى اللـه عليه قفلا، إذا شـاء أن يفتحنى فتحنى لإعطائكم، وإذا شـاء أن يقفلنى عليـه قفلنى" .
والمدهش حقا أن أكذوبة (ظل)الله في الأرض قال بها كذلك رجال الكنيسة وملوك أوروبا في عصور الظلام ." يقـول جيمس الأول ملك إنجلترا: إننـا نحن الملوك، نجلس على عرش اللـه على الأرض ! ويقـول لويس الخامس عشـر: إننـا لم نتـلق التـاج إلا من اللـه ، فسلطة سـن القـوانين هى من اختصاصنا وحدنـا بلا تبعـة ولا شـركة ! ويقـول لويس الرابع عشر: إن سلطة الملوك مستمدة من تفويض الخالق، فاللـه مصدرها وليس الشعب " .
يقـول اللـه تعالى عن فرعون أنـه قال: (ياأيها الملأ ما علمت لكم من إلـه غيرى)، وكان منزها عن أن يتحدث إليـه أحد، بل من يتحدث معه كان يتحدث في (حضرته) وليس (معه)، ولاحظ التعبيرات التى ورثنـاها من تراثنا القديم والتى نستخدمها حتى الآن في أحاديثنا مع رؤسائنا فنقـول: حضرتك ولا نقـول أنت نفيـا للمساواة وتأكيدا للتمايز والتفاضل بين المتحدث والمتحدث إليـه، ونقـول (سـيادتك) فنحن عبيـد وهو السـيد، ونقول: ولى النعم وصاحب السـمو وصاحب الجلالة...وكلها ألفاظ تكشف في يسر تراث العبيـد الذى اسـتقر في ضمائرنـا .
" ويحث القـديس بولس المواطنين على الخضوع للسلطة العليـا في المجتمع وهى سلطة الحاكم التى أرادها اللـه ووضعها بترتيب منـه، ومن يعترض فإنما يعترض على المشيئة الإلهية ويستوجب غضب اللـه ونقمته! كما أنـه يفترض أن "سـيف الحاكم" لا يسـتخدم إلافي معاقبـة الأشـرار، وكل من يعارضه فهو شرير، وكل من يخافه فلأنه مجرم آثـم "! وهكذا ظهر الحق الإلهى المقدس للملوك، رغم أن المسيحية خطت بعـد ذلك خطوة مهمة جدا عنـدما نفت بشدة الطبيعة الإلهية للحاكم، واعتبرتـه بشـرا، وإن كان بشـرا يتمتع بسـلطان من اللـه! وهو سلطان ينبغى الخضوع لـه، والامتنـاع عن مناقشتـه، وإرجاء الأمر كلـه إلى اللـه ليحاسـب الملوك في الدار الآخرة، أما في هـذه الدنيـا فالسمع والطاعة والامتثـال والاستسلام، واعتبار صاحب السلطة ومانحها للحكام هو وحده دون سواه الذى يملك محاسبتهم إذا ظلموا أو أساءوا استخدام هذه السلطة " .
ويرى البعض الآخر من المستبدين الإنتفاع بما للأب على الأبنـاء من حقـوق الطاعة، فيرى أنـه "كبيـر العائلة" في محاولة لإسباغ نوع آخر من القدسية تكفل له نوعا من الحصانة ضد شعبه الذى يجب أن يرى فيه الأب المطاع الذى لا يجوز أخلاقيا عصيانه، فالخروج عليـه عقـوق يعدل الشرك باللـه، "وكلمة المستبد DESPOT مشتقة من الكلمـة اليونانيـة DESPOTES التى تعنـى رب الأسرة، أو سيد المنزل، أو السيد على عبيده، ثم خرجت من هـذا النطاق الأسرى، إلى عالم السـياسة لكى تطلق على نمط من أنمـاط الحكم الملكى المطلق الـذى تكون فيـه سلطة الملك على رعاياه ممثلة لسـلطة الأب على أبنـائه في الأسـرة، أو السـيد على عبيـده، وهكذا فإن الخلط بين وظيفـة الأب في الأسـرة التى هى مفهـوم أخلاقى، ووظيفة الملك التى هى مركز سـياسى، يـؤدى في الحال إلى الاستبداد " .
ورغـم أن هنـاك الكثيرين مـن الحكام المسـتبدين في التـاريخ الإسلامى ممن زعمـوا فرية الحق الإلهى، إلا إنهم يختلفون عن مدعى الحق الإلهي من ملوك أوروبا في عصور الظلام الذين سنوا القوانين ونسبوها إلى اللـه وألزموا النـاس باتبـاعها، وهذا ما لم يجرؤ عليه مستبد واحد من مستبدى المسلمين طوال تاريخهم، فقـد ادعـوا الحق الإلهي ليبـرروا ظلمهم للعبـاد ووجوب الطاعـة لهم من أجل استلاب الأموال والانفـراد بالسلطة، ولكنهم لم يعتـدوا قط على سلطان اللـه في سن الشرائع .وادعـاء المسـتبد للقدسـية حدا بالكثيرين إلى الظن أن الاستبداد السـياسى هو ابن الاستبداد الدينى، وكانـوا يشـيرون بذلك إلى اسـتبداد رجال الكنيسة في القـرون الوسطى واسـتبداد سلاطين المسلمين، وفاتهم أن هنـاك ألوانـا كثيـرة من الاستبداد السـياسى لم تكن وليـدة للاسـتبداد (الدينى) أى الاستبداد المنسوب زورا وبهتانا إلى الرب، ومادام الحاكم المستبد مقـدسا بحكم أنه يمثل إرادة الله في الأرض، فلا تجوز معارضـته سـياسيا، وبذا ينمحى النشاط السياسى المعارض ويعتبر من قبيـل التمـرد، بل هو الكفـر والزندقـة . نبيل هلال هلال