في خضم الهوجة المصرية

كمال غبريال في الخميس ٢٠ - أكتوبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً


عفواً لن أعتبر بعد الآن أن ما حدث في مصر "ثورة"، فلا نحن لدينا شعب ثائر حقيقة، ولا ثوار لديهم رؤية، ولا شيء جذري قد تغير في بر مصر خلال ثمانية أشهر إلى الأفضل والأكثر حداثة. . كل ما حدث من تغيير وكأن مبارك ومجموعة المقربين منه قد سقطت بهم طائرة في بحر الظلمات، أو ربما قفزوا من الطائرة المصرية، وتركوها ليقودها الغشم والإمعات والبلطجية من مختلف الأصناف.. فلتكن أي شيء غير حالة "ثورة" تبني مصر جديدة، ولنعتبرها مرحلة تفسخ جمهورية يوليو 52، ولنر إلى أين تقودنا تطورات تفسخها.
مجموع أحداث 25 يناير 2011 هو تظاهرات ملايين الشباب طلباً للحرية والكرامة، ومهاجمة السجون وأقسام البوليس وإحراقها وإخراج المساجين، وإحراق مقار المحافظات ومؤسسات الحكم المحلي، وإطلاق الإرهابيين المعتقلين وقيد الحبس، ومهاجمة مقار أمن الدولة وحرقها، هذا المجموع غير القابل للتجزئة هو ما يمكن أن نطلق عليه "ثورة يناير"، لكن تكوين مجموع هذه الفعاليات يجعل توصيفها الحقيقي هو أنها "هبة" أو "هوجة" ترتب عليها الإطاحة برموز الحكم، وإصابة النظام ومؤسسات الدولة بشروخ وتصدعات، تجري الآن محاولات ترميمها في ظروف صعبة.
كل ما حدث ويحدث لا يمت لثورات التحرر إلا ببعض المظاهر فقط، في حين أنه يفتقد أهم ما يميز الثورات الحقيقية، وهي الرؤية المستقبلية ولو في خطوط عريضة تحظى بحد أدنى معقول من الإجماع الوطني، فهذا وحده ما يحدد تصنيف أي حراك شعبي إن كان "ثورة" أم لم يكن.
أيضاً لم تتوفر حتى الآن شروط حدوث حالة "فوضى خلاقة" يمكن أن نتوقع أن يتولد ويتخلق منها الجديد المرتجى، وإن كان هناك احتمال حدوث تطورات تؤدي لاستكمال هذه الشروط، إذا ما احتدم الصراع المجتمعي الذي نرى الآن بوادره، وما لم يحدث هذا سيكون طريقنا الوحيد هو تدارك ما خربته الهوجة، وقد نجني في معرض هذا اليسير من التقدم والتطور السياسي على الأقل، فتحريك المياه الراكدة أو تقليب التربة المتصلدة لابد وأن يكون أمراً إيجابياً في حد ذاته، كما يصعب تصور أن تخلو نتائجه تماماً من الإيجابيات، مهما بدت بعض تلك النتائج وبيلة.
لقد كانت فعاليات الثورة الفرنسية على الأرض متخبطة ومتصادمة، وهي الثورة التي قيل عنها أنها أكلت بنيها، ومع ذلك فهي أعظم ثورة يحفظها لنا تاريخ الإنسانية، والخالد فيها لم يكن فعاليات الصدام والقتل والمقاصل في ميادين باريس، وإنما ما حملته من أفكار إنسانية عظيمة، مازالت ملهمة للبشرية حتى الآن. . في مقابل هذا نجد الفكر في مصر والشرق الأوسط هو رأس الداء والبلاء، فرغم أن رؤيتي الشخصية للوجود مادية، بمعني أن الظروف المادية على الأرض هي التي تنتج الأفكار وتفرضها على الإنسان في معرض محاولته تعظيم مكتسباته وتحجيم معاناته، إلا أن الإنسان لا يتلامس مع الواقع تلامساً مباشراً، لكنه يقرأه ويفهمه وفقاً لأفكاره المسبقة، التي يصعب عليه التخلص منها والتعامل مع الأشياء بموضوعية خالصة وبحتة، ليعد الفكر بمثابة النظارة التي نرى من خلالها العالم، والكارثة في شرقنا الأوسط هي شيوع فكر مدمر للإنسانية والحضارة ومفارق للزمان والمكان، فكر يجعل الإنسان مستهدفاً وليس هدفاً، مستهدفاً من قبل دهاقنة يرومون تحويله إلى مجرد شيء يردد أصداء يفرضونها عليه، وليس هدفاً لتحقيق الرفاهية والكرامة له، وهنا بالتحديد الكارثة، أن يتحول الإنسان إلى ذبيحة من أجل تعظيم وتمجيد أيديولوجيات أو شخوص نصبوا أنفسهم أيقونات مقدسة.
في غمار الهوجة المصرية يتسع بتسارع مرعب شرخ وحدة البلاد الوطنية، وهذا بلا مبالغة أسوأ ما يمكن أن تبتلى به أمة من الأمم، ومع ذلك نجد من ركبوا الثورة ويدعون انتسابهم لها يدفعون بكل ما أوتوا من قوة باتجاه ضرب وحدة الوطن. . قال لي صديقي القبطي: "كلنا غنم واقفين منتظرين دورنا في الذبح، وماتفرقش مين يكسب الانتخابات، كله محصل بعضه". . هل هذا صحيح، أو على وشك أن يصير صحيحاً؟!!
لا أحد يستطيع خلال الهوجة تحديد ماذا يمكن أن يحدث غداً، أو حتى بعد ساعات قليلة، فالفوضى قانونها العشوائية، وهذا يبقي احتمال أن يترتب على بعض تداعياتها وتصادماتها نتائج نعدها إيجابية، لكن هذا سيكون بالتأكيد وليد الصدفة وحدها، وإن كانت غلبة المناهج العتيقة في تناول الأمور والقضايا يقلل من احتمالات المصادفات التي يمكن اعتبارها سعيدة، لأننا نكون جميعاً منهمكين في إعادة إنتاج أنفسنا وفشلنا ذاته، وخير مثال على هذا كيفية معالجة أحداث قرية الماريناب وتظاهرات ماسبيرو، والتي تم فيها ما يعد جرائم ضد الإنسانية في حق الأقباط، فكالمعتاد تم تشكيل لجنان تقصي حقائق لا تفعل أكثر من استهلاك الوقت حتى يتم نسيان الموضوع وإلى أن تحدث كارثة أخرى مماثلة، وتم اختراع أو استخراع آلية جديدة للتسويف والتخدير سميت "بيت العائلة".
من الأنسب فيما أعتقد تغيير تسمية "بيت العائلة" الذي أنشأه عصام باشا شرف رئيس وزراء ثورتنا الموقر باسم "حظيرة العائلة"، حيث لن ينالنا من اجتماع هؤلاء إلا النفاق والتعمية والمزيد من التخلف، في استمرارية مستفزة للمنهج المباركي في التعمية والتدليس على استهداف الأقباط، عن طريق أمثال هذه الحيل الساذجة المضجرة. . في المسألة الطائفية بالذات طالما نناقش ما لا يحتاج إلى نقاش، ونتقصى حقائق معروفة للقاصي والداني، فإن لهذا دلالة واحدة هي أننا نلهو ونماطل لا أكثر، لنعيد تصوير ذات السيناريو بعد كل كارثة طائفية: "إديله لجنة تقصي حقائق، وكام متر نسيج وطني واحد، وكام بوسة دقن بعمة بيضة لدقن بعمة سودة. . أول وتاني وتالت وللصبح وطول ما الفرح شغال". . هو فيلم من أفلام المقاولات التي تبتز المشاهدين دون أن تقدم لهم ما يستحق عناء المشاهدة!!
فارق كبير بين أن تكون راغباً في تهدئة الأقباط لتسير الأمور كما كانت قابلة للاشتعال من جديد، وبين أن تسعى لتأسيس عقد اجتماعي جديد يقوم على الحرية والعدالة والمساواة. . المتهوسون الإرهابيون فقط من يريدون استئصال الأقباط، لكن الأغلبية تريدهم أن يظلوا كما هم بمثابة "أهل ذمة" أو مواطنون درجة ثانية، والقلة القليلة فقط تريد مصر حديثة وحرة ومتحضرة، حتى الأقباط أنفسهم لا أظن أغلبهم يطمح لأكثر من حسن معاملة "أهل الذمة" ودمتم ودام علينا التخلف والفقر والجهل والمرض.
من النتائج الخطيرة التي يمكن أن تترتب على مذبحة ماسبيروا أن ينسحب شباب الأقباط من مبادرتهم المستجدة للدخول للساحة السياسية بالتظاهر والمشاركة مع سائر قوى المجتمع، ليعودوا تحت أقدام البابا يستفتونه في كل ما يتعلق بحياتهم، بدءاً من شئون الحب والزواج، وانتهاء بالتصالح نيابة عنهم بعد كل مذبحة يتعرضون لها. . الخاسر الأكبر هنا لن يكون الأقباط الذين تعودوا الانكفاء داخل قوقعتهم المقدسة، لكنه الشعب المصري كله ومجتمعه المدني، الذي سيفقد كتلة كفيلة باعتدال الميزان المختل حالياً بين دعاة الهيمنة الدينية ودعاة المساواة والحرية والكرامة الإنسانية.
لست بالتأكيد ضد الحوار والتفاهم والتفهم، لكن أي حلول تتجنب مواجهة الغوغاء بالشارع، وتسعى لاسترضائهم بالاستجابة لنزعاتهم العنصرية، هي توجهات مقيتة تؤسس للهمجية والظلامية، وتذهب بمصر إلى هاوية التخلف، وهنا سر فشلنا خلال أربعة عقود في حسم وضع الأقباط الوطني، وهذا ما أراه بوضوح صارخ في المعالجات الجارية الآن، سواء في هزال قانون منع التمييز الذي صدر مؤخراً، أو فيما خرج حتى الآن عن "بيت (حظيرة) العائلة".
أرفض الحلول التي تتيح للكنيسة الأرثوذكسية بناء المزيد من الكنائس دون أن تؤسس لمبدأ المساواة في امتلاك الوطن ونشر ثقافة التعدد، فهي بمثابة تخصيص نصيب من الكعكة الوطنية كمنحة، وتؤدي لتعظيم سطان الكهنة، وتبقي الأقباط مقموعين مهمشين، ورهينة على ذمة البابا والدولة الباغية العنصرية. . مواقف البابا وبطانته الأساقفة متوقعة ومنطقية، فهم لا يرون من الدنيا إلا كنيسة يهلل لهم ويسجد تحت أقدامهم فيها المؤمنون الأتقياء، وبالتالي ليس من المتوقع منهم غير أن يدافعوا بضراوة عن مسألة بناء الكنائس، ولتذهب بعد ذلك كل الأمور القبطية والوطنية إلى الجحيم، أما نحن "أبناء هذا العالم" فنريد وطناً حراً حديثاً متطوراً لسعادة ورفاهية جميع أبنائه، وتأتي مسألة بناء الكنائس وحيويتها في معرض تحقيق المساواة لا أكثر ولا أقل، فمصر لا تعاني نقصاً في دور العبادة، ولكن في المدارس والمستشفيات والمساكن والمصانع، ولا توجد في مصر حقيقة قضية قبطية، إنما قضية حرية وعدالة وحداثة وتنمية. . قضية أن ننهض لنبني مصر الجديدة الشامخة، أو نسقط من عربة الزمن لنتراجع مئات السنين، ونحن نتقاتل من منا سيدخل الجنة!!

اجمالي القراءات 8292