إسلاميو السعودية والنقد الذاتي.. استدراكات خجولة
الشيخ سلمان العودة
تعد الصحوة الإسلامية بالسعودية من أكثر الظواهر إثارة للانتباه، وأكثرها جذبا في ذات الوقت؛ نظرا لما يرتبط بها من إشكاليات بحكم حجم التأثير الذي نتج عن هذه الظاهرة داخل المملكة العربية السعودية وخارجها؛ فعلى صعيد الداخل يرى البعض أن بعض الإسلاميين السعوديين أنتجوا بسبب طبيعة خطابهم مناخا خصبا لظهور نزعات التطرف والتشدد، ولم يدشنوا خطابا مجتمعيا يلامس هموم المواطن، وأعاقوا فرص تشكيل ذهنية جمعية تدفع في مسار التطوير والتغيير على جميع الصعد.كما حمّل آخرون خارج السعودية ظاهرة الصحوة الإسلامية بالمملكة كل الأوزار، واعتبروها الحاضنة التي أفرزت كل تيارات العنف والإرهاب على الصعيد العالمي.
هذه التقديرات يرى فيها الكثيرون قدرا من المبالغة والتعميم، ليس لأن التيارات الصحوية السعودية مبرأة من كل عيب، أو لأنها لا تحتاج لإعادة قراءة تجربتها، بل لأنها تصدر في إطار اتهامي متحيز، وتقع في شرك التعميم، وتتغافل في ذات الوقت كل الأرصدة الإيجابية للظاهرة الصحوية بشكل عام، من هذه المنطلقات تبدو قضية النقد الذاتي من قبل الإسلاميين السعوديين لتجربتهم مسألة تستحق التعرض لها، والبحث في مستويات حضورها وإمكانيات تطورها.
الواقعية والتفاوت
الدكتور محسن العواجي، المفكر الإسلامي السعودي، أكد في تصريحات خاصة لـ"الإسلاميون.نت" أن الإسلاميين أصبحوا أكثر تفهما لما يدور حول السعودية من تغيرات فكرية وآراء فقهية أكثر من ذي قبل، وأصبحوا يتحملون النقد أكثر من ذي قبل، وما ذاك إلا لأنه حينما يتصدر أحدهم لأية قضية فيصدر فيها رأيا سرعان ما تتناوله وسائل الإعلام المختلفة ما بين مادح وقادح، فيصير مع الوقت أكثر نضجا.
واعتبر العواجي أن الإسلاميين يتفاوتون في تحملهم للنقد من جهة، ومن جهة أخرى المدارس الفكرية في المجتمع السعودي تتفاوت أيضا في ذلك؛ فهناك مدرسة قادرة على أن تتكيف وتعيد صياغة خطابها وبرنامجها الفكري أسرع وأكثر مرونة من أي مدرسة أخرى.
محدودة وضبابية
أما الكاتب الإسلامي السعودي نواف القديمي، فقد أشار -في حديثه لـ"الإسلاميون.نت"- إلى أن استقراء التجربة الإسلامية في السعودية يوضح أن ظاهرة الممارسة النقدية من الإسلاميين وأبناء الحالة الإسلامية محدودة ومغلفة بكثير من الحرج والضبابية، وفي الغالب لا تمارس حالة نقدية جدية وعميقة لهذه التجارب الإسلامية من أبناء الحالة الإسلامية.
ووافق القديمي العواجي في أن مسألة النقد تتباين في النهاية من طيف إسلامي لطيف آخر، وقال: "مثلا في وقت زخم الصحوة تكتشف أن الأشخاص المحسوبين على تيار الصحوة لم يكونوا يمارسون نقد التيارات الجهادية عندما كانت حاضرة في الإعلام والإنترنت بالذات من عام 1998-2003م؛ حيث لم تكن هناك أي تجربة نقدية في التعامل معهم، بل كانت التيارات الجهادية هي التي تنتقد تيارات الصحوة وتتغلب عليها؛ لأن التيارات الجهادية كانت أكثر محافظة وتشددا".
وألمح القديمي إلى بروز ظاهرة الصمت إزاء ممارسات وأقوال التيارات المتشددة؛ لأن رموز هذه التيارات دائما -على حد قول القديمي- "هم أصحاب أصوات مرتفعة وأكثر غلظة وحدة في نقد الآخرين، فيتحاشى الآخرون نقدهم إيثارا للسلامة". وأوضح أن الحالة النقدية حالة صحية، وأن أي تيار لا يتعرض للنقد يرتكب مزيدا من الأخطاء دون أن يحاسبه أحد، وهذا بحد ذاته مشكل كبير لأية تجربة حياتية.
أما مشاري الذايدي، الكاتب السعودي، فقد ذهب إلى وجود إسهامات وإضافات نقدية في التيار الإسلامي، لكنه تحفظ على وجود "مراجعة كاملة". وأشار الذايدي -في تصريحات لـ"الإسلاميون.نت"- إلى أن بعض الإسلاميين نجد عندهم محاولة للإحلال، بمعنى استحداث جديد، والانتقال من الخطاب القديم دون نقد هذا الخطاب، ملفتا النظر إلى وجوب التخلي قبل التحلي، وقال: "أقصد بالتخلي العودة بالنقد والتشريح والمراجعة على المرحلة السابقة".
فتح باب المراجعات
د. محسن العواجي
وعلى الصعيد نفسه، أكد منصور النقيدان، الكاتب والمفكر السعودي، وجود موانع تراثية لتفشي ظاهرة النقد الذاتي عند الإسلاميين، مستدلا ببعض كتب ورسائل علماء الوهابية مثل حمد بن عتيق، والتي وردت فيها إشارات إلى أن انتقاد أخطاء أهل الخير والصلاح وإعلانها للجمهور قد يسوِّغ للفسّاق الطعن في أهل الدين!.إلا أنه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي -بحسب النقيدان- نجد نوعا من الجدل والنقاش على صفحات الجرائد، فكان الصواف ينتقد ابن باز، والطنطاوي ينتقد آخرين.
وأضاف: "ولكن في تلك الفترة أفتى محمد بن إبراهيم بمنع انتقاد أو محاسبة رجال الحسبة على أخطائهم، ومنذ منتصف السبعينيات راجت رسائل جهيمان العتيبي، وأهل الحديث الذين ينتقدون بقسوة سلوكيات علماء الدين، ومنهم شيخهم المحبوب ابن باز (...) ومنذ منتصف الثمانينيات بدأ الإسلاميون يعطون لأنفسهم حماية وحصانة ضد النقد، معللين ذلك أن انتقادهم يعد بمثابة هجوم على الدين"!.
واستعرض النقيدان سلسلة المقالات التي نشرت في جريدة "الشرق الأوسط" للكاتب غازي القصيبي عام 1990-1991م، والتي تناول فيها أخطاء الشريط الإسلامي وتسييس المنابر الدعوية؛ حيث تسببت تلك المقالات بتضليله وتفسيقه واتهامه بالعلمانية. وقال: "بعد 13 عاما تغير كل شيء؛ فبعد إلقاء الدكتور سلمان العودة محاضرته، والتي حملت عنوان: "جلسة على الرصيف" عام1991م، تعرض لهجوم كاسح من قبل إسلاميين يمثلون توجها سلفيا مغايرا عرفوا بسلفية المدينة، اتهموه بتكفير العصاة وبالحرورية، فاضطر بعدها إلى توضيح ما كان يعنيه في ذلك الشريط، وقال إنها بداية سلسلة من المراجعات والنقد الذاتي سيقوم بها كل فترة".
وذكر النقيدان تجربة أخرى لسفر الحوالي، حدثت قبل تجربة الدكتور العودة بعام؛ حيث ألقى الحوالي محاضرته الشهيرة عام 1990م، والتي انتقد فيها بقسوة غير معهودة فتوى عبد الله عزام بأن الجهاد في أفغانستان فرض عين على كل مسلم ومسلمة.
ورأى النقيدان أن بعض الاستدراكات التي يقوم بها بعض الإسلاميين على أنفسهم تعد أشياء عابرة، لا تعدو تصحيح نسبة حديث ما أو ترجيح رأي فقهي، ولم تعكس حتى الآن روحا لتقبل النقد الذاتي، لا بشكل علني أمام الجمهور، ولا بشكل محصور ضمن مجامع الصحويين، فلم يكن يسمح بأية انتقادات أو إثارة للأسئلة"!. وأضاف: "إن النقد والنقاش في القضايا الهامة الحساسة لم يكن مسموحا به أصلا؛ فعلى سبيل المثال تعرض أستاذ للشريعة وهو صالح المنصور للذم والشتم والتضليل حينما انتقد تصرفات أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فوق منبر الجمعة".
حجة "الخصوصية" مرفوضة
ورفض الدكتور محسن العواجي ربط واقع الإسلاميين السعوديين بمصطلح "خصوصية المجتمع"، واعتبره مما كان يُخدَع به المجتمع السعودي، وقال:"هذه أشياء نرجسية لا ينبغي أن تكون عائقا عن أي نقد بنَّاء، وعن أي تقويم جاء من أي شخص كائنا من كان".
|
نواف القديمي |
بينما عبر القديمي عن تفاؤله من سير الحالة النقدية في السعودية، فهي -بحسب رؤيته- تزداد نموا، وأن رواد الظاهرة التي سميت بظاهرة التنوير أو ظاهرة التيار الإصلاحي داخل التيار الإسلامي عملوا على ممارسة النقد بشكل جدي في الفترات الماضية؛ حيث يعدها القديمي تجربة إيجابية برغم ما لاقته من نقد شديد، وما واجهته من خصومات ومعارك.
وأضاف القديمي: "إن التيار السلفي بطيء ومتوجس من مسألة النقد، لكن -شاء أم أبى- التيار الإصلاحي يسير وسيؤثر عليه؛ لأنه من لم يتكيف مع الأوضاع الراهنة وقد يجد نفسه خارج الحلبة".
الوأد أو الترويض
وعبر مشاري الذايدي عن أسفه من عمد بعض الإسلاميين الذي يضيقون بالنقد إلى محاولة وأده، أو على الأقل ترويضه، عبر محاولة توجيه الأنظار إلى أشياء هامشية، فالخلاف الحقيقي -كما اعتقد الذايدي- يتمثل في بنية الخطاب الإسلامي وقضاياه وشواغله وأهدافه، وأضاف: "ما زال البعض يضيق ذرعا عندما نطرح فكرة المكون العقائدي لهذا الخطاب، والمكون الأيديولوجي، والأفكار الأساسية التي تتعلق بالمشروع السياسي وبالدور الاجتماعي، فكل هذه الأشياء لا نرى فيها مراجعات حقيقية".
أما أهم ما يجب إجراء مراجعات حوله، فإنه يتمثل -حسب رأي الدكتور مسفر القحطاني- في أداء الأجهزة الإعلامية والتعليمية على وجه الخصوص في نشر الوعي الحضاري، والفكر المعتدل، والتسامح الأخوي بين أبناء المجتمع الواحد, منوها في الوقت نفسه على أن معركتنا الحقيقية مع التطرف هي في ميدان الفكر والعلم، وأسلحة الحرب فكرية بالدرجة الأولى، وأدواتها معرفية.
وأشار القحطاني إلى أن المراجعات والتقويمات لبعض الشخصيات العلمية التي لها فتاوى شاذة مخالفة لمقاصد التنزيل الرشيد، أو مؤلفات عقائدية اختارت بعض الآراء الفقهية، وغيرها من مراجعات هامة، تحتاج جرأة علمية من هيئات موثوقة، لا تخضع لسلطة الجماهير أو الدول، أو الإعلام المسيَّس.
كلفة المراجعة
وعزا مشاري الذايدي سبب عدم وجود مراجعات حقيقية للإسلاميين إلى كلفة هذه المراجعة؛ فالمراجعة مكلفة بالنسبة لهم؛ لأنها -كما يقول الذايدي- "تقتضي تحول هذا التيار الإسلامي عن ثوبه ومشروعه، واعترافه بأن هذا المشروع "تأزيمي" وليس "إصلاحيا"، ولذلك يتم تعويم هذه المشكلة أو تدوير الزوايا فيها بإحداث مراجعات في هوامش الأشياء وليس في صلبها".
فالقضية -بحسب رؤية الذايدي- ربما تحتاج إلى وقت؛ فالعامل النفسي والثقة يلعبان دورا كبيرا؛ إذ هناك مرحلة جديدة تستدعي تحولا جديدا؛ حيث إن الفكر هو نتاج الواقع، ومن لم يتفاعل مع واقعه ومتغيراته يعتبر من المنغلقين.