قراءة في أُطروحة المفكر الايراني سروش
نظرية القبض والبسط/ وتلخيص التجربة النبوية في بسطيات سروش
قدّمت رسالة خاصة الى الفاضل، د. احمد صبحي منصور، وأرفقته ببحث قيّم وجدير بالقراءة لمفكر ايراني مسلم، ليبرالي التوجه وحداثي التنظير، البحّاثة عبدالكريم سروش، وهو "بسط التجربة النبوية" واقترح عليّ، أن أقوم بتلخيص البحث وأنشر الملخص فى الموقع طالبا النقاش. لكن لأسباب جمّة ولمشاغلي لم يسعفني الوقت لتلخيص (البسط) وبسط التلخيص في ضوء رؤيتي وقرائتي للبحث.. لكن الفيَتُ من الضروري بمكان ان اضع بين ايديكم هذه القراءة والملاحظات والتحليلات حول فلسفة سروش العلمية وآرائه المثيرة للجدل وفكره الحداثي، ومطارحاته التي هي جديرة بالقراءة والاهتمام..
ثمة عدد هائل من المفكرين والمثقفين الايرانيين من الشيعة الذين ينتقدون فكر الشيعة وأهم آراء معتقداتهم ومسلماتهم الدينية. ولا يتسع المجال هنا لعرضٍ مستقصٍ لأغلب هؤلاء المفكرين،فقط اورد مقتطفات مما كتبه أحد أبرزهم من المعاصرين وهو الدكتور عبدالكريم سروش، حيث يصفه بعض الباحثين الغربيين بـ "لوثر الاسلام" خاصة في كتابيه: "بسط التجربة النبوية" و "الصراطات المستقيمة" ترجمة احمد القبانجي..
في هذا الكتاب "بسط التجربة النبوية" (يؤكد سروش ان الوحي والرسالة تابعان لشخصية النبي وهو لا يرى، في هذا السياق، ان خاتمية النبوة تستوجب انهاء حضور النبي في ميدان التدين والايمان، بل يشدد على ضرورة هذا الحضور من أجل تأمين طراوة التجارب الدينية. وبيت القصيد، في هذا الكتاب، يتمحور حول تأثير شخصية النبي البشرية في عملية التشريع والتجربة الدينية ودور ولايته في استمرار ظاهرة التدين. ويعتقد الكاتب ان ثقافتنا الدينية والعرفانية تؤكد كثيراً على الاهمية السماوية لشخصية النبي الأكرم، وتهتم بالجانب الباطني لمقولة النبوة وتستحق الجانب الارضي على حساب الجانب السماوي، وتهمل النصف البشري على حساب النصف النبوي لشخصية الرسول الاعظم على هذا الاساس، يرى الكاتب ان الفراغ المعرفي في الثقافة الدينية يتركز حول معرفة النصف الأرضي من شخصية النبي الكريم، وكيفية ادارة السلوك الاجتماعي مع جماعته وقومه تحت سقف التاريخ وفي سياق ثقافة عصره، فيتحدث بلسان قومه ويبتكر الحلول للتحديات والمعضلات التي تواجهه. وفي الوقت عينه يستلهم الوحي من السماء. وفي الوقت الذي كان الرسول الأعظم ينظر الى السماء كانت اقدامه تسير على الارض. ويضيف ان علم الكلام الجديد فتح لنا ابواباً في عالم المعارف الدينية من خلال ادخال عنصر البشرية والتاريخية في الدين وحياة أولياء الدين. وادى ذلك الى ايجاد نوع من التوازن في معرفتنا الدينية لم يكن متوافراً من قبل). يُنظر الرابط:
http://www.almustaqbal.com/storiesv4.aspx?storyid=391480
كما ويقدم عبدالكريم سروش في كتابه "بسط التجربة النبوية" (سلسلة مقالات تتناول تاريخية الدين باعتباره ديالوغ تدريجي بين الأرض والسماء على حد قوله، وهذا الديالوغ يمثل مسألة مهمة في رسم وظيفة النبي وديمومة حركة الدين، فالدين في مجمل تعاليمه كان استجابة لتحديات خارجية، أي أن موضوعاته وتفاصيلها متصلة بالواقع الذي كان يحيا فيه النبي، لذلك جاءت آيات القرآن منجمة، متصلة بالاحداث المحيطة. فهو ذو تكوين تاريخي بحسب سروش، وعليه كان يحتمل أن يكون القرآن أكبر من هذا القرآن لو امتد العمر بالنبي محمد واستطالت الإشكالات التي تحيط بالممارسة والواقع.
يراجع سروش، في مقالته الأولى مفهوم التجربة الدينية والتي تتصل بالكشف والشهود، بتلك المستويات من التجربة القلبية التي أهلت النبي في المراحل المتقدمة من عمره لدور النبوة، والتي لم تكن إلا تجربة متحركة، تعيش تدرجاً في الصعود بانبساط التجربة النبوية وامتدادها في عمق الزمان، وهو المعنى الذي يريد منه سروش التأكيد على حضور النبي كذات ضمن دائرة الوحي، وبالتالي يقترب من طبيعة العلاقة بين النبي والنص، فكلاهما يؤثر على الآخر على ما يرى سروش، بل انتهى إلى القول بأن "الوحي تابع للنبي وليس النبي تابعا للوحي"، وهذا ما سيؤسس لافتراقه عن التفسيرات الدينية للوحي، حيث يؤكد مرة اخرى على أن شخصية النبي هي عين الوحي، أي أن "كل مايقوم به يقع مقبولاً ومؤيداً من الوحي"، وهو من جهة يتكلم ويتحرك من موقع الارتباط بالواقع، وبالمثل كان الوحي الذي يمثل الحقيقة القرآنية التي تناولت قضايا واحكام متصلة بالحوادث التي وقعت.. ويذكرنا هنا بالآيات التي تبدا بالقول "ويسألونك" على اعتبارها جواباً لأسئلة وردت إلى النبي، أي أنها - أي الآيات والمعطيات الوحيانية - ليست نتاجات سابقة أُوجدت بانتظار أن يسأل الناس السؤال، بل هي تابعة للسؤال.
موضعة الوحي على خط الزمان والمكان لا ينفي كونه الهياً، فالنبي على حد وصفه ينطلق من منطلق الهداية والإشراف الرباني، ولا مسوغ للقول بأن الكلام الإلهي يفترض أن يكون قول الانسان وفعله "فوق الزمان والمكان"، فحتى الماوراء طبيعي إذا اتصل بالطبيعة حمل صفاتها وتقيد بشروطها، غير أن سروش يستدرك بالقول أن ارتباط الوحي بشخصية النبي لا يعني أنه "مخترع هذا الكلام، بل معناه ان هذا الكلام يرتبط بقدرته ورصيده المعنوي والمعرفي" ــ أثير السادة).
فهلموا الى قراءة نظرية القبض والبسط/ وتلخيص التجربة النبوية في بسطيات سروش للكاتب مهدي النجار:
ملاحظات حول "بسط التجربة النبوية"
أطروحة المفكر الايراني عبدالكريم سروش*
أضافت مجلة "قضايا إسلامية معاصرة" بابا جديدا إلى أبوابها السابقة يستوعب افكارا للحوار والمناقشة وكانت من اهم الدراسات التي تصدرت باب المناقشة دراسة "بسط التجربة النبوية" للدكتور عبد الكريم سروش (مفكر واستاذ دين ايراني، ولد في طهران ودرس الفلسفة في بريطانيا) احتوى العدد إضافة لهذه الدراسة ثلاث مواد تتعلق بأفكار سروش وتتمحور حول رؤيته للتجربة النبوية،
في واحدة من هذه المواد كان حوارا ممتعا تحت عنوان "صورة لمن لاصورة له" بين عبد الكريم سروش وجون هيك (من أشهر دعاة التعددية المعاصرين وهو بريطاني يقطن برمنغهام) وفي حوارين مع سروش حول البسط في التجربة النبوية حاوره في الاول سرمد الطائي وفي الثاني بهاء الدين خرمشاهي. اعقبت ذلك اطلالة نقدية على نظرية بسط التجربة النبويةقام بها الباحث الايراني ارش نواقي. ونعتقد ان دراسة "بسط التجربة النبوية" من الدراسات المهمة التي تأخذ حيزا نوعيا في اهمية تصوراتها من بين الكثير من الدراسات الدينية التي اخترقت اسيجة التدين التقليدي المغلقة وتجاوزت على بعض الخطوط الحمراء لدائرة منظومة الخطابات التي انطلقت منها، اي منظومة الخطابات الدينية وراحت تصعد من حركتها النقدية باتجاه تدين اكثر معاصرة يتجاوز السائد من الافكار والتقاليد التي ينتجها العقل الديني التقليدي، وبطبيعة الحال لانعني بالتدين هنا الدين نفسه بوصفه مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخيا، انما الذي نعنيه الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص وتاويلها واستخراج دلالتها. ومن المسلم به ان تختلف الاجتهادات من عصر الى عصر، بل ومن الطبيعي ان تختلف ايضا من بيئة ـــ واقع اجتماعي تاريخي جغرافي عرقي محدد ـــ الى بيئة في اطار بعينه، وان تتعدد الاجتهادات بنفس القدر من مفكر الى مفكر داخل البيئة الواحدة، لان النص الديني (القرآن بالذات) اذ هو ثابت كما سلفت الاشارة فهذا لايعني الا من حيث منطوقه لكنه من حيث يتعرض له العقل الانساني ويصبح "مفهوما" يفقد صفة الثبات، انه يتحرك وتتعدد شروحاته وتفسيراته، اي يصبح "حمال اوجه" كما يقول الامام علي، بمعنى آخر أن النص القرآني هو كلام الله وهو عبارة عن اصوات لغوية عربية تلقاها الرسول الكريم بالوحي منطوقة غير مكتوبة، ولقنها لأصحابه مشافهة، ومن هذه اللحظة ،اي لحظة نزوله الاول تحول كونه (نصا الهيا) وصار فهما (نصا انسانيا). لانه تحول من التنزيل الى التاويل. وقد اجمعت معظم الخطابات الدينية المعاصرة على خلاصة مفادها ان التدين بصيغته التقليدية التي تعيشها المجتمعات الاسلامية انما اصبح عائقا كبيرا من عوائق تقدم هذه المجتمعات ومانعا قويا في حركة اندراجها بمسارات الحداثة الثقافية والمادية، ورغم ان ما نقصده بالخطابات او (الدراسات والبحوث) الدينية النقدية المعاصرة تشكل نسبة ضئيلة، او قل حجما وتاثيرا متواضعا، اذا ما قورنت مع الكم الهائل والسماكة الغليظة لثقافة حوالي بليون من البشر (اي حوالي خمس سكان العالم) ثقافة اسلامية تقليدية اغلبها لايصل خطابها او نوع تدينها الى الحد الادنى من التعقل بل على العكس نجد هذه الثقافة الدينية اجترارية ونفعية وزاخرة بهوس التصارعات والتشاجرات المذهبية وطامسة حتى راسها فيالتلفيقات والتوفيقيات والمكر الخطابي، وجل ماتفعله هذه الثقافة حين تفرض في المدارس ان تتحاشى اي مراجعة نقدية او تأطير علمي لذا سرعان ما تتحول الى نوع من الخطاب الظلامي، ونستطيع ان نقيس مدى ضآلة الحظوظ التي تركت للعقل في هذه الثقافة من خلال هيمنة الاساطير والخرافات والاعيب القوىالخارقة للطبيعة وشعائر التقديس وشعوذة الوعاظين على عموم ممارساتها وخطاباتها.
حين وصفنا آنفا "بسط التجربة النبوية" بانها تجاوز على بعض الخطوط الحمراء لمنظومة الخطابات الدينية التي انطلقت منها هو مالفت نظرنا بصراحتها في عدم رضاها باي قديم، حتى الاديان، وحتى الهداية بل حتى الإله القديم فهذه كلها مقولات يجب ان تخضع لأعادة النظر والفحص ويتوجب ان تفهم بنحو شفاف. هذا ما طالب به الدكتور عبد الكريم سروش في مقدمة دراسته، وعلى اي حال فهذا من حقه. فلايمكن ان نفرض على الباحث مطالبات اخرىفقط يمكن ان نطالبه بالادلة والبراهين على مايقول، وهذا ما سنكرره لاحقا بعد الانتهاء من العرض الموجز لاهم تصورات الدراسة التي جعلت النبوة (وهي من اهم المقولات الدينية والايمانية) مادة مفهومية أخضعتها للفحص وإعادة النظر في ثلاثة امور:
الامر الاول: حينما ننظر لنبي الاسلام نظرة ارضية بشرية من بعيد، نلفيه رجلا مدبرا مصلحا مسددا وناجحا نجاحا باهرا. وان مقوم النبوة ورصيدها الوحيد هو الوحي او "التجربة الدينية" كما يسمى اليوم وهي من ابرز مميزات النبوة. يرى الرسول كأن شخصا يأتيه فيلقنه رسالة وأوامر، يمليها على اذنه وقلبه، ويكلفه بإبلاغها للبشر ويتيقين النبي من صحة هذه الرسالة والاوامر، ويطمئن اليها ويتشجع عليها الى درجة تجعله مستعدا لأداء واجبه الملقى على عاتقه حتى لو بقى لوحده في هذا الطريق وعلى الرغم من كل الممرات والضيق والأيذاء والعداوات التي يقابل بها، ان الفارق بين الانبياء وباقي اصحاب التجارب هو انهم لا يمكثون داخل نطاق التجربة الشخصية، ولا يكتفون بها ولاينفقون اعمارهم في الخلسات والخلجات الوجدانية وانما يستشعرون مهمة جديدة يتحول احدهم بموجبها انسانا جديدا ينشئ عالما جديدا وبشرا جددا.
الامر الثاني: كما يستطيع اي مجرب ان يكون اكثر تجربة يستطيع النبي ان يغدو تدريجيا اكثر نبوة، والشاعر بوسعه ان يصبح اشعر، والفنان احسن فنا.. الخ
كان الرسول يزداد علما باستمرار، ويقوى يقينا، ويشتد ثباتا ويتضاعف ألقا ويزداد تجربة وبكلمة واحدة كان النبي يزداد نبوة.
البسط الذي يطرأ على شخصيته يفضي الى بسط تجربته، وبالعكس
لذا فالوحي تابع له وليس هو تابعا للوحي، مهما يكن فان بسط التجربة الداخلية للنبي يصاحبه بسط خارجي موضوعي، فمن ناحية يغدو النبي اكثر نبوة ومن ناحية اخرى تتسع رسالته وتنمو.
الامر الثالث: لم يكتف النبي بالخلوة ولم يعتزل جانبا، وانما عاش بين الناس وفرض على نفسه مواجهة قضايا عصره فجرب الكثير من العداوات والصداقات، وهذا ما أغنى تجربته الخاصة وزادها رونقا ونضجا بمعنى انه اثرى رسالته ودينه وبسطهما.
بكلمة ثانية لامراء ان تعامل الرسول مع العالم الخارجي كان ذا تاثير في بسط رسالته او في بسط تجربته النبوية. وقد تكوّن القرآن ونزل على الرسول بشكل تدريجي متتابع، وبتكامله تكامل الدين وتألقت شخصية الرسول ونضجت. ان النبي بشر وتجربته بشرية والمحيطون به بشر مثله،وبتلاقح هذه العناصر الانسانية يولد تدريجيا دين انساني مناسب للبشر يلبي حاجاتهم الحقيقية ويتفاعل مع واقعهم الموضوعي. وملخص القول ان نبي الاسلام (ص) كانت له تجربته على مستويين والاسلام حصيلة هذين المستويين من التجربة: التجربة الخارجية، والتجربة الداخلية وقد ازداد الرسولإيغالا في كلا النمطين مع مرور الوقت، فنما دينه وأزدهر وتكامل.
إن ملاحظاتنا الأساسية حول "بسط التجربة النبوية" تنحصر في الآتي:
أولا: العلم المعاصر والتجربة النبوية.
من جانب يمتعض الدكتور سروش من الأشياء القديمة ولا يرضى بأي قديم، حتى الأديان، وحتى الهداية، وحتى الإله القديم ويعتبرها مقولات يجب إخضاعها لإعادة النظر والفحص ويستوجب أن تفهم بنحو شفاف، من جانب آخر يُخرج "التجربة النبوية" من مجالها الديني والتأريخي إلى مجال غامض ومشوش لا نلتمس فيه الشفافية والوضوح، جانب "الأذواق والمواجيد والمكاشفات العرفانية"
حيث البشر يمكنهم بلوغ بعض المعارف المتعالية على العقل المتسامية على التجربة، واستنادا إلى أبي حامد الغزالي في كتابه "المنقذ من الظلال" يستشهد بسؤال: هل اكتشف الإنسان خواص الأدوية التركيبية وقوانين الفلك بالتجربة؟ لاريب أن إلهاما أو حدسا نبويا قويا تدخل في هذه المسائل. أهكذا نضع الأشياء على محك النقد والدراسة والتمحيص؟! هذا شيء مؤسف، كيف لاتكون خواص الأدوية التركيبية وقوانين الفلك تحت التجريب والاختبار، وما علاقة خواص الأدوية التركيبية وقوانين الفلك بالتجربة النبوية؟ ينبغي أن نفرز بصورة حاسمة العلوم المعاصرة عن علوم الأولين. العلم المعاصر عبارة عن ممارسة نظرية ومختبرية ومجاله التجربة والاستدلال في حين وحسب الغزالي نفسه في كتابه "مقاصد الفلاسفة" يعتبر إن "لا طريق لتحصيل العلم إلا بالمنطق فان فائدة المنطق اقتناص العلم وفائدة العلم حيازة السعادة الأبدية" وفي عصر علوم الفيزياء الحديثة التي تهدف إلى إيجاد العلاقة بين الخصائص الفيزياوية التي تميز كل ظاهرة وذلك باعتمادها على أهم قانونين شاملين وعاميين هما قانون بقاء الطاقة وقانون بقاء الدفع ( كمية الحركة ) يعرف الغزالي الإبداع في كتابه (معيار العلم) بأنه "تأسيس الشيء، لاعن مادة و لا بواسطة شيء"، ذاك أمر لايدعو إلى الاستغراب إذا عرفنا إن جميع العلوم الإسلامية آنذاك هي علوم أساسها النقل وهذا مايجعلها علوم معقول من منقول، على حد تعبير الفلاسفة أي أنها علوم بيان يضمها جميعا حقل معرفي واحد هو الحقل البياني العربي الذي يشكل نظاما معرفيا قائم بذاته له آلياته الخاصة به والتي انطبع بها منهج تلك العلوم فكان منهجا واحدا بمعنى آخر أن ما يميز العلوم الإسلامية آنذاك هو أنها كانت علوما تدور حول النص الديني ساعية إلى استثماره في مجالات الشريعة والعقيدة واللغة لذا كانت اغلب العلوم مثل التفسير والفقه والكلام أساسها البيان من حيث انه فهم للخطاب القرآني فهما مطابقا يسمح باستنباط الأحكام الشرعية والعقدية والفقهية منه وإخراج لمعانيه الخفية وهذا ما يؤيده تعريف الجاحظ للبيان حيث يقول: "والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان.. والبيان اسم جامع لكل شيء كشف له قناع المعنى وهتك الحجاب دون الضمير حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويحجم على محصوله كائنا ماكان ذلك البيان ومن أي جنس كان الدليل لان مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما الفهم والإفهام فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع" (الجاحظ/ البيان والتبيين)
وفي نفس السياق يحدد الجاحظ البيان تحديدات مختلفة لكنها تلتقي جميعا في القول في اعتبار البيان "بصرا" بالشيء ومن "نتاج العلم" و "ترجمان العلم" و "عماد العلم" إن مدار العلوم الدينية الإسلامية بياني أساسه فهم النص الديني وإبراز ما في القرآن من وجوه الأحكام والاعتقادات والأعجاز والجمال والكشف والإبانة عن كل ذلك. بعد هذه الإحاطة الموجزة بأساس تلك العلوم نسأل هل يعني إن تفاسير الطبري والرازي أو قانون ابن سينا في الطب أو مقولات الغزالي في العلم والفلسفة، هل يعني إن هذه الأنماط من التفكير المنتمية إلى فضاءات القرون الوسطى هي أشياء صالحة لبداية القرن الحادي والعشرين؟ وهل نحن أبناء هذا العصر ملزمون بها؟ بالطبع لا. هذا وهم وسراب، لاريب في أن الغزالي مهم، وكذلك بقية المفكرين الإسلاميين ولكن لا ينبغي المبالغة في أهميتهم وتحويلهم إلى أساطير فالأهم من ذلك أن نعرف لماذا فشلوا في التأثير على مجتمعهم الأصلي ولم يحركوه نحو الازدهار؟ وكيف يمكن ونحن نعيش الألفية الثالثة وانجازات الحداثة في الهندسة الوراثية والتلاعب بالجينات وإنتاج اجنة التناسخ واكتشاف أشعة الليزر في تشخيص الأمراض وعلاجها وزرع الأجنة خارج الرحم، ناهيك عن الثورات الهائلة التي حدثت في مجال معرفة نشوء الكونواصله من خلال أساليب مستقلة لمعرفة تاريخأقدم النجوم والقفزات العلمية المذهلة في مضمار الحاسوب والبرمجيات والاتصالات والمعلومات....الخ كيف يتسنى لنا الذهاب مع الدكتور سروش ليرينا ما يفعله الغزالي وهو يكتب جدول معين على قطعتي قماش لم يمسسها الماء ويضعها تحت أقدام الحامل لتقليل آلام الولادة أو يسمعنا ابن خلدون وهو يقرأ اسماء وكلمات عند النوم فنرى مانريد في المناموكيف تتفق قناعاتنا العلمية المعاصرة مع تصورات الإمام ابن عباس مثلا وهو يوصف لنا قصة المعراج: "وإذا بالمعراج قد نصب من الصخرة (تقع الصخرة على الأرض) إلى عنان السماء فلم أر شيئا أحسن من المعراج وهو مرقاة من الزبرجد ومرقاة من الذهب ومرقاة من الفضة ومرقاة من الياقوت الأحمر… ورأيت النجوم متعلقات كتعليق القناديل في المساجد اصغر ما يكون منها اكبر من جبل عظيم. ثم ارتقى إلى السماء الدنيا في أسرع من طرفة عين وبينها وبين الأرض خمسمائة عام وسمكها مثل ذلك…" إن هؤلاء الأجلاء من أشياخنا الأسلاف كانوا يتحركون ضمن نظام فكري شامل يتحكم ضمنيا أو عميقا بفترة معرفية بأسرها هي معرفية الفكر الإسلامي الكلاسيكي (الفضاء العقلي القروسطي)التي ليست لها علاقة بفترتنا المعرفية الراهنة، فلا ينبغي أن نحملهم اكثر من طاقاتهم وننظر إلى إمكانياتهم المعرفية بعين السخرية وفي نفس الوقت نحن غير ملزمين بتصوراتهم البدائية تلك لان الفضاء المعرفي الذي عاشوابه وتقنيات عصرهم المتواضعة لا تسمح لهم بأكثر من ذلك فعلى سبيل المثال اعتقد إنسان تلك الحقبة بانالأرض مركز الكونوان السماء مسرح واسع تمثل النجوم على خشبته دور الأبطال والمغامرين في قصص وأساطير من نسج خياله. ثم استخدم النجوم والأجرام السماوية كفنجان قهوة أو بلورة سحرية يقرا فيها البخت والطالع ويقرر مستقبل الملوك والأباطرة وحتى الشعوب، وكانت العلاقة بين الأرض والسماء حسب تصوراتهم مثل علاقة ارض البيت بسقفه ومنه تتدلى النجوم على هيئة مصابيح… هل يستوعب أسلافنا آنذاك الأفكار المعاصرة عن الكون والنظرات الجديدة إلى السماء، هل يستوعبون أن الشمس تستطيع ابتلاع أكثر من مليون كرة أرضية في جوفها وإنها مصدر الحياة على الأرض، وهي واحدة فقط من بلايين بلايين (البليون ألف مليون) نجوم الكون وان في الكون نجوما تستطيع ابتلاع ملايين وملايين من شمسنا… فأين يا ترى موقع وقيمة الأرض من هذا الكون العميق؟! إن تقدم المعارف العلمية والوسائل الفلكية التي تعتمد أساسا على التعامل مع الضوء القادم من النجوم والأجرام السماوية وكذلك دراسة الموجات الراديوية والأشعة السينية وغيرها من الأشعة القادمة من الكون إضافة إلى استخدام المراقب الالكترونية المتطورة وإطلاق المركبات الفضائية الجبارة و وصول الإنسان سطح القمر، كل ذلك وغيرها من تجارب وخطوات علمية هائلة قلبت المفاهيم القروسطية وأحدثت قطيعة معرفية شاسعة بين تصورات الماضي وتصورات الأزمنة الحديثة!!أصبح الجميع الآن ـــ بما فيهم الدكتور سروش ـــ مضطرين لان يقدموا الحجج على ما يقولون إما بواسطة البرهان والاستدلال وإما بواسطة استخراج التجربة المحسوسة(أو العيان بلغة ذلك الزمان) فالامتعاض وعدم الرضا من الأشياء القديمة وحدهما لايكفيان،
وأما قبل ذلك أي في أزمنة الغزالي فما كانوا يعرفون هذه اللغة العقلانية والمنطقية القائمة على المحاجة والبرهان، وانه لمن الحكمة والرشد أن نقلع عن محاولة إعادة الاعتبار لمن وجهوا ضربة قاضية للعقل في الأزمان السالفة كالنموذج الغزالي الذي شارك بدور تأثيري كبير في تشكيل الذهنية العامة للجمهور واشرف على ترويج مخطط فكري يناهض العقل، وكان يدفعه إلى ذلك قرار سياسي من المؤسسةالسياسية الحاقدة على الفكر الفلسفي فقد "استدعاه نظام الملك إلى بغدادللتدريس في المدرسة النظامية والأشراف على التعليم فيها فلبى الدعوة وقام بالمهمة التي وكلت إليه خير قيام، وكان جل جهده موجها إلى إبطال مزاعم الفلاسفة" وفي كتابه الشهير "تهافت الفلاسفة" كان غرضه التشويش على مذاهب الفلاسفة لإزالة ما كان لهم من منزلة في نفوس الناس.
ومن الملاحظ إن مشروع الغزالي الهدمي للفلسفة لا يخلو من بعد سياسي..
فالسلاجقة الكارهون للبحث الفلسفي قد وضعوه على قمة الهرم في أعلى مؤسساتهم التعليمية (نظامية بغداد ونظامية نيسابور). إن الغزالي وضع عقله وقلمه بخدمة السلطة السياسية ضد العقل وضد المشروع الفلسفي. وليس من الغريب أن يكون العصر الذي شهد خطاب الغزالي وأنصت إليه هو عصر الانهيار السياسي والتفكك الاجتماعي وسيطرة "العسكر" على شؤون الدولة وهو العصر الذي انتهى بسقوط بغداد والقضاء على الشكل الرمزي الأخير للدولة العباسية.
ثانيا: الواقع التاريخي وتجربة العرفانيين.
إن الارتهان لتجارب العرفانيين الشخصية والانبهار بمستويات مكاشفاتهم ومواجيدهم يخرجنا عن قراءة الأشياء حسب واقعها التاريخي وفضائها الديني، فالاعتماد على ما يرويه مولوي جلال الدين الرومي (604 هج ــ 627 هج) حول تجربة المعراج النبويةيجعلنا نحلق بعيدا عن الواقع وتحليله وفحصه بدقة في حين إن الواقع هو الأصل ولا سبيل لإهداره، من الواقع تكوّن الدين ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيمه ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدد دلالته، فالواقع أولا والواقع ثانيا والواقع أخيرا ومن دون ذلك تنشأتصورات للأديان بلا ضفاف، أما عن واقعة المعراج فهي من الوقائع التي تخرج عن الواقع وتخرج عن نطاق التجارب البشرية، بمعنى أنها تجربة نبوية خالصةشأنها شأن الكثير من الوقائع أو (المسائل) الدينية مثل قصة أهل الكهف، لايمكن الدفاع عنها بطريقة الجدل الواقعي فهي غير خاضعة للإثبات التاريخي أو الحجج العلمية وبالتالي يعتمد تصديقها أولا وأخيرا على الإيمان وحده وهي مقبولة لدى المسلمين لأنها وردت في النص القرآني، فكيف يتسنى إخضاعها للتاريخية أو تسميتها بالتجربة البشرية التاريخيةلان النبي بشر ـــ كما يقول سروش ـــ وتجربته بشرية والمحيطون به بشر مثله. وكيف يمكن جعل التجربة النبوية بتناول أصحاب المواجيد والخلجات الوجدانية، أي بسطها من المجال النبوي المتعالي إلى المجال البشري العادي لان الدكتور سروش يقول: "لقد انتهى اليوم عهد المهمة النبوية، إلا إن المجال لازال مفتوحا لبسط التجربة والاقتداء بذلك العظيم يستوجب مواصلة تجاربه الباطنية والاجتماعية والسياسية.. واليوم يتحتم تبديل التدين
إلى تجربة تهدف إلى تذليل المشكلات وإقناع الأرواح، وحل العقد وفتح الآفاق الرحبة" هذا التصور وهذه الدعوة إلى مواصلة التجربة النبوية يتقاربان كثيرا مع تصورات ودعوات المتصوفة في القرون الوسطى فمثلا الأولياء (أصحاب التجارب والكرامات) عند ابن عربي ( 638 هج / 1241م ) يأخذون شريعتهم من الله، مثلما أخذها النبي محمد فهم متساوون معه في هذه الناحية، ولكن ابن عربي يؤكد دائما أنهم على شريعة محمد لأنهم ورثته مهما يكن من أمر،" هم الذين تولاهم الله بنصرته في مقام مجاهدتهم الأعداء الأربعة: الهوى والنفس والدنيا والشيطان.." (الفتوحات المكية ج2) فهم إذا رجال الصوفية الذين يحاربون شهوات الدنيا بالنسك والتعبد والزهد في كل ماله علاقة بمطالب البدن، إن ابن عربي يكرر في أماكن كثيرة من كتبه الحديث الشريف الذي يقول إن الرسالة والنبوة قد انقطعتا فلا رسول بعدي ولانبي ويفهم ابن عربي من هذا القول إن الذي انقطع هو النبوة الشرعية والرسالة الشرعية فلن يأتي نبي ولارسول بشرع يخالف شرع محمد. أما النبوة العامة (التجربة النبوية حسب الدكتور سروش) فلم تنقطع, وإنما مستمرة(بسط التجربة) حتى يوم القيامة. (الفتوحات ج2 ص 90 ) وفي مواقفه هذه يستند ابن عربي إلى نصوص شرعية وأحداث تاريخية ويحاول أن يضفي على موقفه مسحة من الشرعية الدينية لكنه في الحقيقة يخالف النصوص باسم النصوص نفسهافهو حين يتكلم على مرتبة "الأفراد" الذين يعلمون من الله مباشرة علوما لايعلمها الرسل والأنبياء (يسميهم الغزالي أهل المعارف المتعالية على العقل) ويواصل ابن عربي كلامه ويقول، إن ذلك ممكن وغير متعارض مع الشرع، فالنبي محمد وصف الله بصفات لو وصف بها غيره من الناس لقلنا انه كافر، ومع ذلك قبلت هذه الأوصاف بحق الله لأنها أتت على لسان الرسول الذي لا ينطق عن الهوى بل كلامه وحي من السماء، فلماذا لانقول بناء على ذلك إن القدرة الإلهية واسعة وتستطيع أن تعطي الولي مثل ما أعطت للنبي من علوم الأسرار؟
ويرى الدكتور سروش (كما يرى الغزالي) إن أصحاب التجارب العرفانية المشابهة لتجارب الأنبياء، والذين أدركوا معنى النبوة وجربوا صدق هذه الأقوال هم وحدهم يعون مصدر هذه الأقوال ويعلمون منزلة القائل ومرتبته. وعليه فطريق معرفة النبوة والنبي مفتوح أمام الجميع. والغريب إن الرسول ذاته أبقى هذا الطريق مفتوحا أمام الآخرين. تلكم الآراء والاجتهادات والتصورات لمسألة النبوة والتجربة النبوية جميعها تتقاطع مع اثنين من القضايا:
القضية الأولى: الإجماع الإسلامي أو التصور التقليدي..
ننقل هنا الملخص الذي قدمه خرمشاهي (محاور الدكتور سروش في نفس العدد من المجلة) بحذافيره عن الإجماع الإسلامي أو الفهم الشائع للنبوة الذي يحمله عامه المسلمين لفائدته في توضيح مقصدنا، يقول السيد خرمشاهي: (في القران، وهو أهم ما جاء به النبي، يقرر الباري إن أشخاصا ينتخبون للنبوة، فالله تعالى يشرف عليهم ويسددهم وينقذهم من المهالك والأخطار، ويربيهم ويؤدبهم ويبلغ بهم مرتبه حمل الرسالة. ومحمد بن عبد الله حظي بتربيه إلهية خاصة لينال مقام النبوة وبالتالي بلغ الذروة التي نزل عليها معها ملك الوحي. وكما يخبرنا التاريخ فقد هبط الملك في زمان ومكان معينين على الرسول وأدرك الرسول بذلك انه اختير للنبوة.
تداول الرسول في هذا الشأن مع خديجة وعلي بن أبي طالب، وتجذر مشروعه تدريجيا، وكان الملك يحمل رسالات الله إلى رسول الإسلام تدريجيا، وقد دونت هذه الرسائل لتشكل القران الكريم.
هذا هو الفهم الشائع للنبوة الذي يحمله عامه المسلمين.
وهو ماينبئنا به التاريخ والتراث والروايات المتواترة "بعدما ينتهي السيد خرمشاهي من هذا التلخيص يوضح: "لم يقل قائل إن الوحي لون من التجربة الدينية، والنبي رجل تأتى له شهود الهي فأصبح كلامه كلام الله. هذه طروحات غير صحيحة. ما قاله الله يقوله النبي للناس لا ما يقوله النبي هو مايقوله الله" وفي موقع آخر يعترض السيد خرمشاهي على الدكتور سروش قائلا: لكنك كتبت في بحث (بسط التجربة النبوية) إن الوحي يتبع النبي، وليس النبي هو الذي يتبع الوحي، وكتبت إن الرسول هو الذي يستنزل جبرائيل وان الوحي نوع من التجربة الدينية. وهذه آراء لاتنسجم مع آيات قرآنية محكمة.
القضية الثانية: التصور التاريخي..
في التصور التاريخي يمثل النبي القمة التي بداً منها يتجلى الله مباشرة،يتحدث عن نفسه ويملي إرادته والنبي يعتمد على الظاهرة المعقدة "للوحي" ويحرك في قومه الأمل التبشيري بالخلاص، والشريعة التي جاء بها الوحي إنما تولدت بشكل تدريجي لتلبية حاجات المجتمع الإسلامي في القرون الهجرية الأولى، ومن المعروف إن ذلك المجتمع الذي خاطبه الوحي كان مجتمعا قبليا عبوديا تعتمد العلاقات فيه على هذين البعدين ولابد من الإشارة بان النبي كانت له مكانة نفسية ومعرفية مختلفة عن كل أنواع البشر الآخرين. فهو ملهم و رؤيوي وحكيم وصاحب خيال مبدع وقائد وروح كبيرة قادرة على سبر المجاهيل واختراق حدود المعرفة السائدة بواسطة الإلهام المستمر الذي يخصه الله به. وبالتالي فهو من الرجال العظام الذين لايظهرون كل يوم أو عندما نريد ذلك، أنهم لايظهرون الا عندما تنضج الظروف اللازمة لظهورهم في الواقع الموضوعي ذاته أنهم يظهرون لكي يلبوا حاجة تأريخية قصوى.
ثالثا: المثال التبسيطي.
لكي يقرب الدكتور سروش وجهة نظره في مسألة النبوة وكيفية بسطها إلى عقول قرائه أو مستمعيه يأتي بمثال تبسيطي محبب إلى نفسه وهو علاقة المعلم بالطلاب، ويفترض بان دخول النبي إلى الوسط الاجتماعي كان بمثابة دخول معلم أو أستاذ إلى حلقة دراسية ويعبر عن هذه الآصرة بين المعلم والطلاب بالآصرة الجدلية أو العلاقة التفاعلية التبادلية، حين يأتي الأستاذ إلى طلابه فهو يعلم بشكل إجمالي بالنقاط والموضوعات التي يعتزم طرحها على الطلبة ويمكن للأستاذ أن يحدد هذه المرحلة من القضية ويقدرها ويعد لها.. يتابع الأستاذ الماهر (وهنا المقصود النبي) درسه دون أن يسلم زمام العملية التدريسية إلى الصدفة أو احتمالات التشويه والتحريف من خلال إشرافه على التلاميذ وسيطرته الكاملة على الدرس فيولي اهتماما لما يطرأ على مسيرة التلاميذ من أخطاء ويطالبهم بان لا يظلوا مجرد مستمعين متفرجين، ليس هذا وحسب بل هو يدفعهم ويقحمهم كي يتولى الطرفان معا مواصلة الدورة التدريسية. إن هذا المثال التبسيطي والمدرسي يحمل صبغة تربوية وأخلاقية لاعلاقة لها بفحص وتحليل الظاهرة الدينية أو النبوية، وإذا كان من الممكن تطبيق مثل هذه الآلية الضيقة على العلاقة بين المعلم والطلاب فانه لايمكن تطبيقها على مسائل كبيرة مثل الدين والنبوة في علاقتهما التاريخية والمعقدة بالواقع والمجتمع من حيث بُناه الاقتصادية وإطاراته الثقافية والسياسية ولكن لو سلمنا بانطباق مثل هذه العلاقة على مسألة النبوة فان أسئلة ومداخلات كثيرة ستقفز أمامنا، نترك توضيحها للدكتور سروش نفسه لعله يفيدنا فيها فيما إذا واصل بضعة تلاميذ درسهم ونالوا درجات تعليمية راقية وتفوقوا على أستاذهم وخرجوا من نطاق تلك "الدورة التدريسية" أي إن تلك الدورة التدريسية أصبحت بالنسبة للتلاميذ مجرد مرحلة تعليمية تاريخية قد انقضت، أليس الدكتور سروش نفسه يعتبر أستاذه في التعليم الابتدائي أو الثانوي مجرد تراث يتذكره أحيانا أو لا يتذكره؟ وهنا نسأل كم من الأساتذة شاخوا وأصبحت دروسهم بالية وعائقا في تطور التلاميذ وتطلعهم إلى المستقبل؟ لم يكن نبي الإسلام العظيم على هذه الشاكلة من العلاقة الميكانيكية بينه وبين أمته انه "نبي" وفق مرتكزات الخطاب الديني التقليدي و المعاصر له خصوصيته الرسالية المتعالية، فهو حامل وحي الهي لا تجوز مناقشته أو مجادلته فيما يبلغ أو يأمر، وتعتبر سلوكياته "أسوة حسنة" تستبعد الخطأ والاعوجاج ولابد أن نلاحظ بان طاعة الله ورسوله تمثل نداء ملحاً ومتكرراً يخترق الخطاب القرآني من أوله لآخره.
قد تساهم ملاحظاتنا تلك حول بحث "بسط التجربة النبوية" من تصعيد حركة اختراقات الخطاب الديني للاسيجة الانغلاقية والتحجرية، إنما يعود كل الفضل بذلك لما أثارته أفكار الدكتور سروش وهو يجتهد لإخراج العقل الديني من حالته النصية التقليدية إلى حالة العقل البحاث المتحرر من المعارف الخاطئة والآليات البائدة، لان الذي لم يخرج من الفضاء العقلي القروسطي ويدخل مناخ الحداثة لايعرف معنى مناهضة حق "امتلاك الحقيقة المطلقة" و "التاريخية" و "التعددية" و "حق الاختلاف"، ولايعترف إلا باليقين الذهني والحسم الفكري "القطعي" ويهدر البعد التاريخي للنصوص والأحداث ويتجاهله، ويتجلى ذلك في البكاء على الماضي الجميل، يستوي عنده العصر الذهبي للخلافة الرشيدة وعصر الخلافة التركية العثمانية، ولكن لكي تكون الخطابات الدينية جديدة وحديثة فعلاً عليها كما يعبر محمد اركون: "أن تكشف عن حقيقة أهداف الأديان وعن وظائفها التاريخية وعن منجزاتها الثقافية ومكانتها التي لم تستطع أي نزعة إنسية حديثة أن تملأ الفراغ الذي خلفته حتى الآن بشكل عام" بمعنى إن الخطابات الدينية لكي تكون معاصرة وتندرج في مسار الحداثة ينبغي أن لا تظل بوعيها التقليدي سابحة هنيئا مريئا في الزمان الأسطوري والجغرافية العجائبية وتخلط بين الواقعي والخيالي بكل سهولة دون أن تشعر بأي حرج أو مشكلة. رغم ملاحظاتنا تلك واختلاف بعض وجهات النظر فان ما لمسناه في بحث الدكتور سروش هو انعتاقه من اسيجة التقليد وخوضه البحث بنمط شجاع من التفكير العقلي يأخذنا فيه إلى وسط ديني نشم به نسمات الحرية والتسامح ويحثنا على عدم تحميل الدين أعباء ثقيلة تؤدي إلى خطر إقصائه. حيث يقول "لن نسدي خدمة إلى الدين لو قلنا بأننا سنعمر الدنيا ونبني العالم من خلال الدين وبواسطته، وأننا سنستخرج من صميم التعاليم الدينية شتى ما يتعلق بالحكم والسياسة والاقتصاد"
لذا فالمثقف الديني (والرأي مازال للدكتور سروش) هو من يمارس قراءة الدين خارج الدائرة الدينية ويتحدث في شؤون الدين لكنه لا يرتزق بالدين، بل يحمل هموم إحيائه وإصلاحه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* سروش، هو مفكر "تنويري شيعي" إيراني إصلاحي، من مواليد طهران (1945م)، درس الصيدلة في جامعة طهران وتخرج منها ليكمل دراسته للكيمياء التحليلية في بريطانيا، لكنه انتقل إلى جامعة لندن فدرس فلسفة العلم وتوفر على معطيات أحدث تياراتها خاصة النقدية المحدثة فضلاً عن تراث المدرسة الوضعية. عاد إلى إيران بعد الثورة عام 1979 ليصبح عضواً في لجنة الثورة الثقافية ثم غادرها مبكراً إثر خلاف في الرأي وانتقل إلى جمعية الحكمة والفلسفة في طهران كباحث متفرغ. عالجت كتاباته الأولى موضوعات في الماركسية وفلسفة العلم، ومن أعماله البارزة تلك الفترة كتاب (ما هو العلم، ما هي الفلسفة)، بعد أن خفت الحدة الثورية في إيران في النصف الثاني من الثمانينات شارك سروش في المساهمات النقدية لمعالجة الأوضاع القائمة في البلاد من خلال مقالات نشرت في مجلة (كيهان فرهنكي)، أصبحت في ما بعد كتاباً مستقلاَ بعنوان "نظرية القبض والبسط في الشريعة". وله كتابان مترجمان هما:
"الصراطات المستقيمة: قراءة جديدة لنظرية التعددية الدينية "،
وكتاب "بسط التجربة النبوية" والذي نحن بصدد مناقشته وتحليله..
وممن ينتقد اعمال سروش ايضا، العلامة سيد حسين نصر، وهو واحد من أشهر وأكبر الباحثين في العلوم الإسلامية في الغرب، ومن كبار الفلاسفة الإيرانيين المعاصرين، تلقى تعليماً مختلِف المشارب في جامعات إيران وحوزاتها ثم في الجامعات الأمريكية، عانى من مضايقات وملاحقات في إيران بعد الثورة بسبب صلته الوثيقة بنظام الشاه المخلوع، مما اضطره للهجرة إلى الولايات المتحدة ليشغل – وما يزال – كراسي تعليمية راقية في أهم جامعاتها.
سيد نصر، يعيب على سروش وينتقد منهجه ويشبهه بـ "مثقفي الدرجة الثانية الغربيين، الذين لا يعرفون الإسلام ولا الغرب، وأن جهود هؤلاء المصلحين الإسلاميين الفكرية التي ترمي إلى التوفيق ما بين الإسلام والحداثة لا تعني شيئاً آخر سوى تفريغ الإسلام من مضمونه الأساسي. بينما المطلوب إيجاد الملائمة والانسجام للحداثة مع الإسلام وليس العكس". نقلاً بتصرف وقليل من الرتوش عن (الصراطات المستقيمة: مخرجا من الصراع الديني مدخلا إلى الليبرالية/ محمد أبو الخير السيد). وللبحث عن سيرة التنويري الايراني عبدالكريم سروش، ودراسة افكاره، يُرجى مراجعة مقال: محمد ابو الخير السيد، المشار اليه.
فهو حريّ بالقراءة وجدير بالاهتمام..
الرابط: