بسم الله الرحمن الرحيم
الحركات الإسلامية المعاصرة رد فعل أم استجابة لتحد ؟
بقلم :د. مخلص الصيادي
توطئة
في العام 1996 وفي إطار فعاليات معرض الشارقة الدولي للكتاب ، قدم هذا البحث الذي يحاول الإجابة على سؤال مركزي حددته الجهات المنظمة للفعاليات : الحركات الإسلامية المعاصرة رد فعل أم استجابة لتحد ؟.
ومنذ ذلك التاريخ وحتى هذا الوقت جرت تغييرات عميقة في حياتنا العربية ، وتعرضت أمتنا إلى ظروف عديدة من احتلال ، واستباحة ، وأظهرت في خضم ذلك كله قدرة فذة على المقاومة ، وشقت طرقا ، وأساليب عمل مبتكرة استطاعت عبرها أن تكسر حدة الهجوم الغربي عليها ، وأن تؤكد قدرتها على المقاومة وأصالتها وإبداعها في وقت ظن فيه الكثيرون أن تدخل مرحلة احتضار وأن قوة الهجمة عليها سوف تأتي عليها من الجذور ،
ففي العام 2000 حصدت المقاومة الإسلامية في الجنوب اللبناني ، نتائج جهاد استمر لسنوات طويلة ، واندحر الاحتلال وخرجت قوات العدو دون أي مفاوضات ، ودون عقد أي اتفاقات ، وظهرت نجاعة المقاومة في تحقيق نصر لا غبار عليه .
وفي العام 2001 تفجرت انتفاضة الأقصى تعبيرا عن إرادة الشعب الفلسطيني في المقاومة ، ورفضه لاتفاق أوسلو وما تولد عنه من ظروف واتفاقات ، وقيم سياسية وفكرية .
وفي العام 2001 شهد العالم الحدث الأبرز المتمثل في هجمات الحادي عشر من سبتمبر على أهداف داخل الولايات المتحدة تمثل رموزا باهرة في الحياة الأمريكية ،
ومع هذا الحدث دخل العالم مرحلة جديدة تحت شعار محاربة الإرهاب ،وأطلقت الإدارة الأمريكية يد قوات الاحتلال الإسرائيلية لارتكاب أبشع المذابح ، وعمليات القتل المنظمة ضد الفلسطينيين ، وقاد الإرهابي أرييل شارون هذه الحملة التي أسفرت عن نهر من الدم الفلسطيني جرف في أتونه قيادات فلسطينية بارزة ، كان في تقدير قوى العدوان أن يثمر تصفيتها إجهاض لحركة المقاومة لفترة طويلة ،
وفي العام 2002 احتلت القوات الأمريكية والأطلسية أفغانستان فيما بدا للوهلة الأولى أنه رد على تلك الهجمات
وفي العام 2003 تحركت القوات الأمريكية البريطانية لاحتلال العراق تحت مزاعم كاذبة من وجود أسلحة نووية لدى نظام صدام حسين ، ومن وجود علاقات بين النظام وبين تنظيم القاعدة الذي أسندت إليه على الفور المسؤولية عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر .
وظن الكثيرون وقد تم للولايات المتحدة ما تم ، أنها أمسكت بزمام المنطقة ووضعت قواها على السكة التي تريد ، جميع قواها الرسمية الممثلة بالنظم العربية ومن يلوذ بها ، والشعبية التي من المفترض أن تكون هذه الضربات قد أرهبتها ، وأجهضت كل قدراتها الكامنة .
لكن في لحظة باهرة ظهر أن كل هذا الظن مجرد وهم ، وقد كشف هذا الوهم عن أفقه مرتين :
** مرة حينما اتخذ طريق العمل الديموقراطي لاختبار طاقات الأمة وخياراتها ، وكانت الانتخابات العامة في فلسطين ميدان الاختبار الأول حيث نجحت قوى المقاومة ، وتسلمت حماس " الإرهابية " السلطة التنفيذية والتشريعية في مناطق الحكم الذاتي الفلسطينية
** ومرة حينما كان الطريق هو المقاومة ، مقاومة المحتل ، في فلسطين، وفي لبنان، وفي أفغانستان ، وفي الصومال ، وظهر أن قادة البيت الأبيض يبنون قصورا على الرمال في هذه البلدان ، وأن ما بنوه من أنظمة ومن مؤسسات ، ومن تحالفات مرتبط أشد الارتباط بوجود الاحتلال نفسه ، وأن قوى المقاومة ، وجماهيرها هي القوة على الأرض وهي الأكثر تأثيرا ، وأكثر قدرة على الصبر وعلى الاستمرار
** وحينما أطلقت الولايات المتحدة يد العدو الصهيوني في التعامل مع المقاومة في لبنان عبر عدوان تموز / يوليو 2006 تكشف بشكل مخزٍ حدود ما يمكن أن تفعله القوة الطاغية ، وحدود ما يمكن أن تفعله قوة المقاومة ، ظهرت واشنطن ، وتل أبيب، والنظم العربية التي كانت تنتظر نتائج هذا العدوان ، ظهر هؤلاء جميعا عراة، لا يستر عجزهم وبشاعة ما يقومون به ساتر .
إن هذه التطورات التي شهدتها المنطقة العربية والإسلامية المرتبطة بها ، كان للقوى الإسلامية على اختلاف تجلياتها الفعل الأبرز، واستعاد السؤال الأول جديته وأهميته، وظهر أنه السؤال ، أو الموضوعة الأجدر بالبحث، وبالمتابعة ، وبالفهم العميق .
وأعتقد أن العناصر التي بنيت عليها المحاضرة قبل أكثر من أحد عشر عاما ما زالت تملك الأهمية نفسها، وتثير الجدل نفسه، وتغطي ساحة الاهتمام نفسها بل إن كل التطورات المشار إليها عززت ما ذهبت إليه المحاضرة في ذلك الوقت،
لذا فإن العناصر الرئيسة في هذا البحث هي ما قدم في تلك المحاضرة مع إضافات جزئية تتناول أهم المتغيرات الجديدة التي أتيت عليها من الزاوية التي تهم هذا البحث فقط .
1 / 12 / 2008
د. مخلص الصيادي
مقدمة البحث
هذه الورقة التي أتقدم بها لا تطمح إلى الإجابة على التساؤل الذي جعلته الجهة المنظمة محددا لمجال عمل الباحث، و رغم اهتمامي العلمي و العملي بمكونات هذا التساؤل فإن طموحي اقل من التطلع إلى تقديم الإجابة المنتظرة، إن جلّ ما تتطلع إليه هذه الورقة أن تقدم إضاءات مفيدة على مكونات هذا التساؤل، و تساعد على تصحيح أو تعزيز الرؤية لهذه الإشكالية الاجتماعية – السياسية.
و قد يكون من المفيد أن نبدأ رحلتنا في هذه المساهمة بفك الاشتباك في التساؤل المطروح " الحركات الإسلامية المعاصرة – ردة فعل ؟ أم استجابة لتحدٍ ".
أن المسافة بين حدي السؤال، رد الفعل و الاستجابة مسافة افتراضية، وتحمل معنى قيميا ً و تقويمياً، و ليس مسافة حقيقية أو موضوعية، فالاستجابة في حقيقتها وصف آخر لرد الفعل، و إتباع طرفي التساؤل بعبارات الوعي، أو الوضوح كأن نقول أن الاستجابة تتميز عن رد الفعل بالوعي، أو الوضوح، فيما يتميز رد الفعل بالأنانية، والتسرع، أحكام قيمة، و ليست أحكام موضوع، حكم يستند إلى معايير ذاتية يضعها الباحث، و ليس إلى دلالات موضوعية يعززها الواقع و تعززها حركة عناصره.
و في إطار تحرير هذا التساؤل و التدقيق فيه لا بد من الإشارة إلى أن الحديث عن رد الفعل الناضج، و غير الناضج، حكم نسبي، وأحد وجوه نسبيته انه يتشكل بالقياس إلى ردود فعل القوى الأخرى في المرحلة نفسها، وفي الواقع نفسه .إن هذا يستدعي أن نقف أمام مجمل الحركة السياسية لنقيم حركتها أي أن لنبين ما إذا كانت ردود فعل القوى القومية، أو الشيوعية أو الليبرالية في الفترة المعينة ناجحة أم لا، وأخيرا فان سؤالا واقعيا لا بد أن يتسلل إلى دائرة اهتمامنا: من يملك أن يحكم على وجود وفعل قوة معينة ؟! إن الخارج و الداخل بعموم المعنى أو خصوصه لا يملكان القدرة على التوصل إلى حكم موضوعي يتصف بالشمول و الحيدة إلا بعد مرور الوقت الكافي، و القضية هنا لا تتصل بتوفر النية الحسنة عند الباحثين و الدارسين وإنما تتصل بإمكانية الرؤية عند هؤلاء ، الرؤية المتحررة من ضغوط الواقع و من انتماءاتهم فيه.
إطلالة على عوامل تشكل التيار السياسي الإسلامي
هذه الملاحظات أردتها مقدمة لمساهمتي ، مقدمة وضعتها لهدف محدد هو التحرج في تكوين السؤال، والتواضع العلمي و العملي في صياغة الجواب.
-1-
في مارس من عام 1928 أسس الشيخ حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين، وهي باتفاق الباحثين منبع كل الحركات السياسية الإسلامية في الوطن العربي و ذات امتدادات مؤثرة في العالم الإسلامي، و في مطلع الثمانينات رصد بحث مقدم إلى احد مراكز الأبحاث الأمريكية وجود 84 تنظيما للجماعات الإسلامية في ثماني عشرة دولة عربية تضم في عضويتها عدة ملايين من العرب، و في تفصيل مدقق ذكر أن في مصر 26 تنظيما، و في العراق 12 تنظيما، و في سوريا عشرة (1)في مصر، أو حالة الحركات الإسلامية المسلحة في سوريا ما بين 75 – 85 أو في حالة الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر في الثمانينات أو في الحالة الراهنة لحركة حماس و الجهاد الإسلامي في فلسطين المحتلة، أو حزب الله في لبنان، ثم إنها مرت بمراحل خفوت أخرى دفع بها إلى حدود الهامشية في حركة المجتمع، و مع ذلك فإن[1]هذا الوجود لم ينته في أي مرحلة مرت بها الأمة منذ ولادة حركة الإخوان المسلمين قبل سبعة عقود.
و قد يستسهل البعض تفسير هذه الظاهرة المزدوجة، الاستمرار و الانتشار فيرجعها إلى التخلف الاجتماعي الذي يسم مجتمعاتنا، حيث الانقسام الطبقي، و النمو الطبقي فيهما الكثير من التشوه، و حيث الإيديولوجيات الاجتماعية فيها الكثير من الغموض، لكن التفسير السهل، تفسير عاجز عن كشف حيوية الحركة الاجتماعية، و أصولها، وهو تفسير مستعار وفق مناهج غريبة لا تعني شيئا كثيرا في فهم الواقع العربي خصوصا و في فهم الواقع الإسلامي و بلدان العالم الثالث عموما.
إن أحداث التاريخ و دروسه تخبرنا انه ما من قوة، أو فكرة تأخذ مكانتها من حركة الجماهير إلا وتكون قد جاءت لتلبي حاجة جماهيرية، أي جاءت متجاوبة مع شيء أصيل في حياة الناس، و بقدر مكانة هذا الشيء بقدر ما تهتز له مشاعر الناس وتفسح الأمة له في قلبها وعقلها وحركتها (2).
ما قدمت يؤكد أمرين اثنين:
الأول: أن وجود القوى السياسية الإسلامية في الحياة العربية لم يأت تعبيرا عن حاجة مؤقتة، و لا رد فعل أولي لحدث عابر، و إنما جاء لان الواقع أفرز مهاما و مواقع لم تستطع القوى الأخرى أن تقوم بها أو تغطيها.
الثاني: أن هذا التعدد المستند إلى أصل واحد يعني فيما يعنيه أن الحركة السياسية الإسلامية لم تستطع أن تستجيب للتحديات المطروحة بشكل يتوافق مع تطلع كوادر وجهود هذه الحركة.
-2-
في مؤلفه الذي وضعه بتكليف من الأكاديمية الأمريكية للآداب و العلوم يرجع الدكتور عبد العظيم رمضان (3) جذور استجابة الفكر الإسلامي المعاصر لتحديات[2]التغريب في المجتمع المصري إلى كل من الشيخ محمد عبده " زعيم السلفيين المجاهدين " و الشيخ علي عبد الرزاق الذي عمل على " مستوى التجديد العقلي في الإسلام ".
و حينما يأتي ذكر الشيخ حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين فإنه يصف حركته بالحركة المتخلفة عن مستوى و تطلع كل من الشيخ محمد عبده و الشيخ علي عبد الرزاق و يفسر انطلاقة البنا بخوف طبقة أو قوة اجتماعية من الزوال أمام تقدم حركة النهضة و التغريب و يقول " هذا الدور من أدوار الحركة السلفية شكل يختلط فيه الدين بمصالح طبقة تخشى أن تنقرض تحت زحف العلمانية "، و يستجمع الكاتب ثقافته الماركسية ليقدم لنا تفسيرا لمكونات هذه الحركة السلفية بالحديث عن الأصول الاجتماعية لقوى هذه الحركة فيقول: " كان هؤلاء ينحدرون من أصول برجوازية صغيرة، وعمالية، وفلاحية، ممن عجزوا عن تحمل نفقات التعليم الباهظة التي فرضها الاحتلال البريطاني واضطرت إلى الاتجاه إلى نوع التعليم الوحيد المجاني في ذلك الوقت وهو الممثل في مدارس المعلمين و دار العلوم و الأزهر ".
هذا نموذج من التعاطي مع الحركات الإسلامية، قد يقدم لنا كما معتبرا من المعلومات لكنه في النهاية يوظف هذه المعلومات في إطار معارك و مواجهات يومية، و في إطار موقف مسبق من هذه الحركات مما يعطل أو يشوه إمكانية الاستفادة من هذه الدراسات في فهم هذه الحركات.
نموذج آخر نصادفه و نحن نتابع كتابات في تاريخ الحركات الإسلامية، و في تتبع جذورها الفكرية و تطبيقاتها العملية تغاضى متعمدا عن بعض عناصر هذا التاريخ، أو عن بعض جذور و منابع أفكاره . و أصحاب هذا المنهج هم من أولئك المنتمين إلى هذه الحركات و الذين يريدون أن يصوغوا وقائع هذا التاريخ بما يناسب حركاتهم أو يعزز مقولاتها فيقعون في مأزق الانتقائية، فمثلا يتم الحديث عن فكر الإصلاح والتغيير عند جمال الدين الأفغاني، و محمد عبده، و عبد الرحمن الكواكبي، دون أن يسلط الضوء على حركة احمد عرابي باعتبارها التجسيد العملي لهذه الأفكار، و دون تتبع جنبات الفكر القومي، و الاجتماعي و التحرري عند هؤلاء المفكرين الإسلاميين و التي من السهل أن نتلمس أثرها في مشروع النهضة العربية المعاصرة التي قادها جمال عبد الناصر.
كذلك يتم الحديث عن فكر الإصلاح و النهضة عند الشيخ عبد الحميد بن باديس باعتباره الجذر المعاصر للحركة الإسلامية في الجزائر دون التوقف عند الجوانب شديدة الوضوح في فكره القومي العربي، و في فكره التحرري، و في نظرته الإسلامية الثاقبة للحركة الصهيونية و تفريقه بين الحركة الصهيونية و الديانة اليهودية، و الأمر نفسه نجده في الحديث عن دور و مكانة الشيخ عبد العزيز الثعالبي في الحركة الإسلامية التونسية و رؤيته للقضية القومية و دعوته لوحدة هذه الأمة باعتباره " أن الوحدة العربية كيان عظيم ثابت غير قابل للتجزئة و الانفصال"(4).
و على النهج نفسه سمعت من يتحدث على أن الشيخ محمود شلتوت رحمه الله قد تراجع و هو على فراش الموت عن جميع فتاويه و كتاباته التي رافقت ثورة يوليو(5)، و سبق أن قيل الشيء نفسه عن الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله و كتابه "اشتراكية الإسلام ".
أن المغالاة في تقدير الوقائع و في النظر إلى الأحداث و صوغها لتؤكد هذا التفسير أو ذلك، ليس سمة تحيط بجميع الباحثين و المفكرين الملتزمين بهذه التيارات السياسية المختلفة: إسلامية، و قومية، ليبرالية، وإنما هناك دراسات استطاعت أن تقدم قراءات و معالجات، وأبحاث تتسم بقدر عال من الموضوعية و الرقي العلمي، و سوف نلتقي برجال علم و عمل من أمثال الشيخ محمد الغزالي و الدكتور يوسف القرضاوي و الشيخ راشد الغنوشي والمستشار طارق البشري و الدكتور رضوان السيد و الدكتور محمد عمارة والدكتور أحمد صدقي الدجاني و غيرهم كثير أعطوا في هذا الميدان ما يمكّن من تقدير ليس فقط الإجابة الدقيقة على التساؤل الأصيل، و إنما أيضا الانطلاق إلى خطوة أكثر تقدما، خطوة تمهد لإعادة جمع طاقات الأمة و قواها لمواجهة تحديات المرحلة.[3]
إن التحرر من المغالاة والاستقرار عند حقيقة أن الحركة السياسية الإسلامية إنما جاءت استجابة لتحدٍ موضوعي يفسح المجال أمامنا للبحث في مكونات هذا التحدي وطبيعته.
** هل إلغاء الخلافة الإسلامية من قبل كمال أتاتورك عام 1924م وفشل المؤتمر الإسلامي الذي دعا إليه علماء مصر للنظر في قضية الخلافة ـ وقيل وقتها أن انعقاده جاء خلال طموح الملك فؤاد ليكون خليفة المسلمين !ـ هو السبب في ولادة جمعية الإخوان المسلمين، قد يكون لهذا الحدث دور ما، لكن لنتنبه إلى أن فشل المؤتمر الإسلامي في القاهرة مؤشر على أن نظر السلطات الرسمية و الدينية لهذه القضية لم يكن جاداً، ثم أن مصر بعلمائها و مثقفيها تعلم أكثر من غيرها أن قضية الخلافة الإسلامية العثمانية كانت وهماً على الأقل منذ مطلع هذا القرن، و أن الشريف حسين بن علي كان آخر المنتفضين على الخلافة بعد أن فعلها المصريون زمن محمد علي والوهابيون والسنوسيون والمهديون ؟! و بعد أن طعن فيها أئمة الإصلاح "الأفغاني، الكواكبي، محمد عبده".
لقد أدرك الشيخ حسن البنا رحمه الله هذه الحقيقة لذلك نراه في أحاديثه يتعرض إلى وحدة العرب وإلى الإخوة الإسلامية , وحينما يأتي الحديث عن الخلافة فإنه يرجعها إلى أساسها " الإسلامي العربي "، بل أن الشيخ البنا رحمه الله يقدم نفسه باعتباره "إمام المسلمين، وإمام الناس "(6).
** هل وقوع البلاد العربية تحت نير الاستعمار الغربي، وانكشاف هشاشة الرابطة العثمانية و بروز حركات التحرر الوطني على المستوى الدولي، كانت هي الدافع لظهور الحركات السياسية الإسلامية في العصر الحديث، لا نستبعد أن يكون لها دور ما، لكن مما لا شك فيه أن نقطة البدء في ظهور هذا النوع من الحركات ( حركات التحرر) لم يكن إقامة حركة سياسية منفصلة السمات و الطبائع عن إطارات و مظاهر العمل السياسي الوطني، و إنما جاءت هذه الحركات كجزء أصيل من حركة مقاومة الغزو الغربي، ومن هذا المفهوم نستطيع أن ندرك مكانة ثورة عبد الكريم الخطابي في الريف المغربي، وثورة عمر المختار في ليبيا، ودور الشيخ عز الدين القسام في سوريا أولا ثم في فلسطين، ونشاط جمعية العلماء المسلمين في الجزائر ودور الإمام عبد الحميد بن باديس فيها، ونضالات و حركة الشيخ عبد العزيز الثعالبي في تونس.[4]
إن أيا من هذه الحركة و الظواهر حينما انطلقت لم تكن تستهدف إنشاء حركة حزبية تضاف إلى ما هو موجود، و إنما كانت تهدف خلق تحرك سياسي أو فكري أو عسكري يستطيع أن يجمع الأمة كلها، بمختلف أحزابها ومشاربها، وكان الإسلام والعروبة وهدف الاستقلال هي الأهداف التي تسعى إليها، كما أنها لم تكن تستهدف أن تكون بديلا عن أحزاب وطنية قائمة وإنما روحاً تبث في كل المجتمع و تكويناته.
ـ 3 ـ
كذلك فإن مما يجدر التوقف عنده أنه لم يسجل في العصر الحديث ولادة أي حزب سياسي إسلامي ردا على الغزو الغربي للعالم العربي أو لهذا الشطر أو ذاك من السلطةديني كانت تغمر الجميع بردائها و كان علماء الدين الإسلامي منبثون في كل هذه الحركات و المظاهر شأنهم في ذلك شأن القادة العسكريين و أصحاب القلم من الشعراء و الخطباء و الكتاب، الملاحظة نفسها تصدق حينما نتحدث عن الغزو الصهيوني لفلسطين و مشروع إقامة الكيان الإسرائيلي.
إن الحياة العربية شهدت أشكالا عديدة من المقاومة المادية والفكرية و المسلحة، وعلى مدى هذه المقاومة لم تتشكل أحزاب إسلامية كرد على هذه الغزوة، و حينما اندفعت حركة الإخوان المسلمين لإرسال متطوعين لمحاربة الإسرائيليين، فإن ذلك كان جزءا من نشاطها العام، ويرصد زياد عمرو علاقة جماعة الإخوان المسلمين بفلسطين فيقول " إنها بدأت منذ عام 1935 حينما زار عبد الرحمن البنا، شقيق حسن البنا فلسطين، والتقى بالحاج أمين الحسيني مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى في ذلك الوقت " (7)، ولم نسمع بأحزاب إسلامية أنشئت للرد على الغزوة الصهيونية إلا في مرحلة متأخرة جدا وبالتحديد في عام 1980، التاريخ الرسمي لتأسيس حركة الجهاد الإسلامي على يد الشهيد فتحي الشقاقي وعبد العزيز عودة.
إذا صح ما ذهبنا إليه من تقليل أثر تلك العوامل في ولادة الحركة السياسية الإسلامية الحديثة ممثلة بالإخوان المسلمين فإن ما يجب أن نلاحه أن هذه الحركة ما إن ولدت حتى انتشرت وامتدت بسرعة ، وغطت مصر ثم بدأ تأثيرها يمتد إلى خارج مصر، ولم تكن في بداية انطلاقها تقدم نفسها باعتبارها حزباً من أحزاب الأمة، وإنما باعتبارها روحا لهذه الأمة، تبث فيها عوامل الخير، وتدفع عنها الأوبئة الفكرية والاجتماعية، واستطاعت بهذا المعنى أن تستعيد وصل العلاقة بين المدن باعتبارها مراكز للثقافة والتفكير وبين الريف بمختلف مكوناته.
إن هذه السمات تدل دلالة واضحة على أن هذه الحركة استطاعت أن تجمع لنفسها عناصر النجاح الثلاثة:[5]
العنصر الأول:
إنها جاءت لتلبي حاجة فعلية عند عموم الأمة، وقد يرى البعض أن هذه الحاجة كانت الرد على هزيمة مشروع ثورة 1919، وعجز الوفد عن تحقيق ما أُمل منه، لكني أعتقد أن الأمر كان أبعد من ذلك، وأنه يمس مباشرة مسألة البحث عن هوية المجتمع الذي بدأ يصحو على طبول الإيديولوجيات المختلفة، والآراء والأفكار المتصارعة، والتي كان كل منها يجسد مصالح وقوى اقتصادية واجتماعية يقوى عودها، وتتميز ملامحها ببطء لكن بوضوح و ثبات.
إن الاتجاهات: الليبرالية، والشيوعية، الفاشية، والإقليمية، كانت تنمو في هذا المجتمع، وكان لها كتابها و مفكريها، ومنابرها، وكانت ترفع أو تجسد مطامح معينة، ورغم أن هذه جميعها كانت حركة على السطح، حركة مدن ليس لها امتدادات فعلية في عمق المجتمع المصري، إلا إنها بحكم آلية الدولة الحديثة كانت تمسك بزمام التوجيه السياسي، والثقافي، والاقتصادي.
لقد جاء الإخوان المسلمون عند هذه النقطة ليكونوا المعادل لهذه الحركات و التوجهات التي كان لكل منها طموح و تطلع تصطدم بشكل أو بآخر مع السلطة العليا الحاكمة، وعند هذه الزاوية نفهم لماذا رأى فيهم القصر ولفترة طويلة عنصر قوة له، ولماذا كانت حكومات الأقلية تقوى بهم في مواجهة حزب الأغلبية " الوفد"(8).
العنصر الثاني:
أنها استخدمت في توسلها لهذا الغرض اللغة، والمفاهيم، والأفكار التي يتكون منها المخزون الثقافي الشعبي، إنها استخدمت المعرفة الشعبية المتأصلة والبسيطة وعملت وهي تستخدم هذا المخزون على تحريره من كل المعوقات المذهبية والطائفية، وجعلت من نفسها نقطة اللقاء لكافة هذه المذاهب والطرق، وصاغت من هذا كله مشروع توحيد إسلامي.
العنصر الثالث:
أنه توفر لها قيادة فذة استطاعت أن تنطلق فيها مرحلة إثر مرحلة، وأن تعبر بأمان مخاطر، وانقسامات، وضغوط مراحل النمو الأولى، والدارس لتاريخ هذه الحركة في ربع القرن الأول من عمرها سوف يقف على محطات تثير الحيرة، أو الريبة، أو[6]الدهشة، و لن نجد تفسيراً لهذا كله إلا من خلال فهم طبيعة هذه القيادة: البسيطة، الآسرة، والصلبة، وإلا من خلال فهم تحليلها ورؤيتها لهذه المرحلة.
ـ 4 ـ
هذه العناصر الثلاثة كان من شأنها تحويل هذه الحركة إلى حركة ينتمي إليها، وتتقوى بها جميع عناصر ومكونات الأمة، وعند نقطة ما في تاريخها تغلبت الطبيعية الحزبية العقائدية للمرحلة على طبيعتها الشعبية الإسلامية الجامعة ، و تحولت الحركة إلى مجرد قوة سياسية حزبية تتصارع مع القوى الأخرى، وتحول الإسلام إلى أيديولوجيا مواجهة للأيديولوجيات الأخرى، من فاشية، وليبرالية، وماركسية، وبهذا المعنى صار مفروضا على مفكري هذه الحركة أن يلاحقوا أفكار هذه التيارات ليفندوها و يقدموا البدائل لها.
إن هذا التيار الإسلامي لم يستطع أن يجري التعديل، التقويم، والترشيد، اللازم لهذه القوى والتيارات ليتحول لقاءها بالأفكار الوافدة من لقاء استعارة و تبعية إلى لقاء تمثل واستيعاب لحقائق إنسانية، ومعرفية، وأدى هذا القصور في عمل هذا التيار إلى تحوله لحزب و تيار مقابل الأحزاب والتيارات الأخرى ، وأصبح الإسلام بهذا المعنى أو عند هذه المجموعة حزبا سياسيا له عضويته، وهياكله، وقيادته، وقسمه، وصار التعامل معه يأخذ هذا المعنى ، وهذه هي الخسارة الكبرى في الحياة العربية، ومن المفارقات أن الخسارة تولدت من حاجة موضوعية، ومن وظيفة كان على الفكر الإسلامي، والحركة الإسلامية أن يقوم بها ، وإضافة إلى هذه المفارقة فإن هذا التيار السياسي الإسلامي، و قد صار حزبا، صار مطالبا بأن يواجه ويرد على مختلف القضايا والإشكالات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والمعرفية، ولأن عموم الفكر الإسلامي كان في حالة جمود، ظهر هذا الحزب، وكأنه الجناح السياسي للقوى الرجعية والملكية والديكتاتورية في هذا الوطن، وسقط أمام شعارات الديمقراطية، والحرية، وتعدد الأحزاب، والإصلاح الزراعي، والتأميم، والعدالة الاجتماعية، الوحدة القومية.
لقد كان بإمكان هذا التيار السياسي – الفكري، أن يتحول إلى قوة عظيمة تصحح وتغذي وتوحد أحزاب الأمة وقواها ليكون اختلاف هذه وتصارعها يجري تحت مظلة الوحدة، والقيم الجامعة الدينية والقومية والوطنية ، لكن ذلك لم يحدث، وفي مرحلة لاحقة حينما جرى الصدام بين هذا التيار وثورة يوليو، أمكن لقوى عربية، وإقليمية، ودولية أن تستثمر هذا الصدام، وأن تضع قوة هذا التيار وحركته في إطار أهدافها و أنشطتها.
إن الذين يصنعون التسوية مع العدو الصهيوني منذ مطلع السبعينات، وحتى الآن، والذين يتسابقون لتهيئة المجتمع العربي أخلاقيا، وسياسيا، واقتصاديا، لموجبات هذه التسوية كانوا هم أنفسهم الذين استخدموا قوة هذا التيار وحركته لمواجهة حركة الثورة.
إن فرصة عظيمة ضاعت على الأمة، حينما اصطدم هذا التيار بثورة يوليو، وكان من نتائج هذا الصدام أن الثورة نفسها التي خاضت أعظم و أبهى المعارك لم تستطع أن تستكمل إطاراتها الفكرية، وأن تعيد بناء هياكلها القانونية على أساس التحرر من البناء القانوني الغربي، واستعادة البناء القانوني الإسلامي، وكان هذا واحدا من عوامل النقص فيها أو ثغرة من الثغرات التي أحاطت بعطاءاتها.
لقد كاد صوت هذا التيار السياسي الإسلامي أن يغيب عن مختلف مواقع الفعل الايجابي العربي مع وهج ثورة يوليو، وما استطاعت أن تحركه في جموع الأمة، وظهر واضحا أن المشروع النهضوي لهذه الثورة والسلوك اليومي والقيادة المشخصنة استطاعت جميعها أن تصل إلى عمق خزانات الوعي الشعبي لهذه الأمة وأن تحركها، ولم تكن الثورة في حركتها هذه بعيدة عن الإسلام ـ وطبعا لم تكن مناهضة له ـ وإنما لم تكن متأطرة فيه، لاعتقادها بأن الإسلام دين المجتمع، الذي لا يحتاج إلى سلطة تفرضه، وإنما يكفيها أن ترعاه، وكان الأزهر الشريف هو الجهة المؤتمنة على هذه المهمة (9).وقد سعت الثورة لتجعل الأزهر قادرا على حمل عبء هذه المهمة في المرحلة الجديدة .
إن هذه النظرة التي اعتمدتها الثورة للمسألة الإسلامية كانت هي السائدة عبر قرون طويلة وكانت كافية، ولم تكن تثير أي إشكالية ، لكن في قرن الإيديولوجيات وصراع الأفكار، كان مطلوبا من الثورة أن تؤصل إسلاميا جميع أفكارها، وهذا ما لم يتم إلا جزئيا، ويبدو[7]أن الصراع الذي أشرت إليه بين الثورة و التيار السياسي الإسلامي، وما رافقه وأحاط به من تحالفات أعاق إتمام هذه المهمة.
-5-
تجمع قيادات أمريكية، و أطلسية، و إسرائيلية على أن الإسلام السياسي هو الخطر الراهن على استقرار العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة (10)، و حينما انعقد مؤتمر شرم الشيخ في مارس من عام 1996 أرادت له هذه الأطراف أن يكون مؤتمرا لمكافحة هذا الإسلام السياسي تحت اسم " محاربة الإرهاب "، ولا يخفى أن أهم محرك لهؤلاء هو الجانب الإسرائيلي، وأن العمليات الاستشهادية التي قامت بها قوى الجهاد الإسلامي في فلسطين المحتلة كانت هي الدافع المباشر لعقد هذا المؤتمر.
و لم يقتصر حضور هذا المؤتمر على هذه الأطراف وإنما كانت مجموعة من القيادات العربية في مقدمة الحضور، وهي في هذا لا تعبر عن استجابتها لرغبة أمريكية فحسب، و إنما تعبر عن اقتناعها بان صورا من الإسلام السياسي تشكل تهديدا فعليا لسلامتها، و أمنها واستقرارها، ومن هذا المنطلق حضرت مصر بفاعلية، و كذلك السلطة الفلسطينية، و الجزائر، و المملكة العربية السعودية، و دول أخرى عديدة،
إن الإشكالية الحقيقية و المستفزة لا تتولد عن مجرد انعقاد هذا المؤتمر ولا عن حضوره و إنما عن انعقاده تلبية لحاجة إسرائيلية أمريكية في المقام الأول، وأيضا عن انعقاد و انفضاضه دون تحديد لمعنى الإرهاب ـ ولا بد من الإشارة هنا إلا أن العالم لم يتفق على معنى الإرهاب و كذلك الدول العربية ووزراء الداخلية فيها ـ لقد ظهر واضحا أن هذا المؤتمر إنما كان بقصد بكلمة الإرهاب قوى المقاومة المسلحة للاحتلال الصهيوني ، وقوى مقاومة الهيمنة الأمريكية .
إننا نتابع يوميا مظاهر للصراع المسلح بين سلطات عربية و تنظيمات مسلحة إسلامية في مصر، وفي الجزائر، وفي تونس، وفي المغرب وموريتانيا ، وبلدان عربية أخرى، وتبدو ساحة الصراع ممتدة عالميا من الولايات المتحدة إلى باكستان، و تظهر أمامنا أسماء، ورايات تتحدث عن الأفغان العرب ـ الذين أطرت حركتهم لاحقا تحت اسم تنظيم القاعدة ـ و الجهاد الإسلامي، و الجماعة الإسلامية، والتحرير الإسلامي، وغير ذلك من أسماء قد لا نستطيع إحصاءها، و ترتفع أصوات تتحدث عن إرهاب الفكر وعن الردة وعن قوى الظلام، و حينما نحصي أرقام قتلى وصرعى هذا الصراع فإن الناتج مخيف.
لم تعد هناك حربا باردة حتى نقول أن ما نشهده على أرضنا أثر من آثار تلك الحرب، وأجزم انه من قبيل التهويل إرجاع هذا الصراع إلى دعم من هذه القوة الإقليمية أو تلك، فلا إيران، ولا سوريا ، ولا ليبيا في مرحلة سابقة ، ولا السودان، و لا العراق قبل الاحتلال ، و هي الدول المتهمة أمريكيا بالإرهاب، تملك القدرة على تحريك كل هذه العواصف، وعلى خلق حالة من التوتر تستدعي اجتماعا دوليا لمحاربة ما يدعونه بالإرهاب،ثم حركة دولية لمواجهة ما اعتبروه إرهابا ، فمن أين ينبع هذا الفيض من القوى، و الوقائع، و الأفكار ؟!.
أن منطق العلم يدعونا للنظر إلى الداخل بحثا عن إجابة شافية، وعند هذه النقطة بالذات نستعيد التساؤل الأول، حول الحركات الإسلامية هل هي رد فعل، أو استجابة لتحدٍ؟!، و قبل أن أخوض في الإجابة المباشرة فأني أوطئ لحديثي بثلاث ملاحظات:
الملاحظة الأولى:
أن ظاهرة القوى السياسية الإسلامية ما كانت لتلفت الانتباه أو تستدعي البحث لولا أن لها قوة وشأنا وأنها تلقى تجاوبا جماهيريا، فالنظم والأجهزة الحاكمة، ومراكز الأبحاث، وأصحاب الشأن و القرار لا يلتقون، ويجتمعون للترف ،وإنما لمواجهة الأخطار، والأحداث الجارية أو المتوقعة، و لرسم السياسات الواقعية.
الملاحظة الثانية:
أن القوى السياسية الإسلامية تقسم من حيث الممارسة، و الأفكار إلى تيارين اثنين أحدهما يعتمد التكفير، والكفاح المسلح، و"الإرهاب"، في مواجهة السلطات القائمة، وفي مواجهة معارضيه حتى من أصحاب الرأي والفكر، وثانيهما يعتمد العمل السياسي السلمي و الدعوة و المجاهدة من خلال الأطر القانونية والدستورية، وإذا كنا نجد الآثار الاجتماعية شديدة السلبية التي تخلفها أفعال وممارسات التيار الأول فإن ما يجب أن نسجله هنا أن التيار الثاني يرى رؤيتنا هذه نفسها.
إننا ندرك أن التيار الأول يتغذى من التيار الثاني، وليس هذا من قبيل التواطؤ بين التيارين و إنما هو تعبير عن طبيعة الأشياء، ومن جهة أخرى مؤشر عن فشل السياسات الرسمية المتبعة في التعامل مع هذه الظاهرة.
ثم إن هناك تيارا إسلاميا ثالثا جمع بين المنهجين معا ، وخص الكفاح المسلح والجهاد بالتعامل مع المحتل ، والحوار والعمل السياسي في مواجهة تناقضات العمل الوطني الداخلي ، وهذا شطر نجده بوضوح وبحسم في فلسطين ولبنان وهذا التيار الثالث يحتاج إلى وقفة خاصة ، وتقدير خاص
الملاحظة الثالثة:
إننا في حديثنا عن هذه القوى، نقدم وصفا ولا نقدم تقييما، نتحدث عن المحرك والمولد، وليس عن المشروعية، نحاول أن نقدم جرعة وعي سياسي، وليس موقف إدانة أو تأييد، ومن هنا فإذا كنا نتابع الأعمال الدامية، والمناقضة لما نعتقده الحق والعدل الذي يأمر به الإسلام مما تقوم به جماعات إسلامية، فإننا مدعوون أن نتذكر أن هذا لم يتم في الغالب إلا بعد تحولات حادة و خطرة أقدمت عليها السلطات الرسمية في هذا البلد أو ذاك، وإلا بعد أن قطعت مسيرة التحول الديمقراطي، أو حجرت أو عطلت.
عوامل نهوض التيار السياسي الإسلامي
بعد الإطلالة التي قمنا بها على عوامل تشكل التيار السياسي الإسلامي، والملاحظات الثلاث التي وطأت بها قبلا، فإنني أزعم أن ظاهرة نمو وانتشار الأحزاب والحركات الإسلامية التي تشهدها أمتنا في هذه المرحلة جاءت نتاج تفاعل سبعة من العوامل هي:
1- هزيمة مشروع النهضة الناصري.
2- افتقاد النظام العربي الوريث للمشروعية.
3- انتشار فلسفة العلمانية و مظاهرها.
4- حرب المجاهدين في أفغانستان.
5- ظاهرة الثورة الإسلامية الإيرانية.
6- هجمات الحادي عشر من سبتمبر .
7- احتلال أفغانستان ثم احتلال العراق.
و في كل هذه العوامل السبعة ـ كما سنرى ـ تفاصيل، ومكونات دعمت وعززت اتجاهات العنف لدى التيار السياسي الإسلامي، ولسوف نقف وقفات قصيرة عند كل عامل من هذه العوامل:
أولا: هزيمة مشروع النهضة الناصري:
و هو المشروع الذي مثلته ثورة يوليو والمسيرة التي قادها جمال عبد الناصر، وقد يحلوا للبعض أن يشير إلى أن هذه الهزيمة قد تمت حينما وقع عدوان 67، وقد سبق هذه الضربة، ضربة أخرى عميقة الأثر تمثلت في جريمة انفصال سوريا عن مصر في 28 أيلول عام ، و 1961لكن هذه و تلك كان يمكن أن تكون نكسات في مسيرة الثورة و بدت في هذه الحدود فقط حينما استعادت الأمة روح المقاومة بعد أيام قليلة من عدوان 67، و بدأت عملية إعادة بناء القوات المسلحة، و دخلت مصر السنوات الثلاث من حرب الاستنزاف، و تغير الوضع العربي كله، و كانت معركة التحرير قاب قوسين أو أدنى، و تقول الوثائق المؤكدة أن حرب التحرير كانت مقررة في النصف الأول من عام 71 (11).
لقد هزم مشروع النهوض العربي فقط حينما ألقت القيادة المصرية و هي آنذاك قيادة الرئيس الراحل أنور السادات بمصر في أحضان الخيارات الأمريكية، و أجهضت نتائج حرب أكتوبر و أقامت الصلح مع العدو الصهيوني، و جعلت معاهدات الصلح هذه معاهدات ممتازة أعلى مما سواها، و ضابطة لما سواها.
هذه الحقيقة استتبعت مباشرة عمليات هدم منظمة لكل أسس، وقواعد البناء في عهد جمال عبد الناصر، وخلال خمس سنوات من عام 73 وحتى عام 1978، صار للحياة في مصر وجه آخر، الصحيح صار خطأ ، والخطأ صار صحيحا، الحركات الشعبية صارت انتفاضة حرامية، والعدو الصهيوني صار صديقا، ولم تكن هذه مجرد تغييرات في المواقف السياسية أو التحالفات الخارجية، وإنما كانت أحد وجوه عملية التغيير الشاملة.[8]
في 18، 19 يناير عام 1977 خرجت عموم الجماهير تنادي بالعودة إلى ذلك المشروع النهضوي، وكانت هذه آخر مرة تخرج بها الجماهيرعلى هذا الشكل، وقد غيبت هذه الجماهير لاحقا بفعل السياسات الاقتصادية، والإعلامية، والسياسية المبرمجة، التي لجأ اليها النظام المصري بدعم النظام النفطي العربي ، وكان طبيعيا أن الجماهير تلجأ إلى دينها تستمد منه العون على مواجهة هذا الزلزال.
لقد ادخل زلزال الاتجاه نحو أمريكا وإسرائيل الأمة، وأجيالها الصاعدة في حالة من انعدام الوزن، وظهر أن القيم والمفاهيم والعلاقات التي أنشأتها الثورة أودعت إليها قد هزمت بفعل الرجال أنفسهم الذين عملوا أو ظهر أنهم عملوا على تثبيتها في وقت سابق .
ثانيا: افتقاد النظام العربي للمشروعية:
يبدو هذا نتيجة من نتائج هزيمة مشروع النهضة القومي، لكن الأمر أوسع مدى من مجرد الهزيمة، فمجمل النظام العربي ـ وأنا هنا لا أتحدث عن إقليم بعينه ـ لم يستطع بعد أن هزم المشروع القومي أن يقدم مشروعا بديلا.
كان مستحيلا على النظام العربي أن يتبنى مشروعا إسلاميا بديلا، ذلك أن أي مشروع إسلامي لن يكون بديلا ـ حتى لو ظن أصحابه أنهم يقدمون البديل ـ وإنما هو بالضرورة سوف يحمل جوانب من المشروع القومي في مقدمتها الاستقلال عن الغرب، والصراع مع الكيان الصهيوني، و تحرير الاقتصاد الوطني، ذلك أن انقضاض القوى المناهضة لمشروع
النظام الدولي رسم أمكنة محددة للعرب على خارطته، و لم تتعد هذه الأمكنة "صناعة السياحة "، و إخضاع الاقتصاد لشروط صندوق النقد و البنك الدولي، وحشر الجميع في مسارات التعاون الإقليمي و الدولي الذي يفسح المجال لتفاعل الثلاثية المدمرة: مال النفط، و اليد العاملة العربية الرخيصة، و العبقرية الإسرائيلية، المزعومة (12)، وهذه عماد الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، وصار واضحا أن الجانب العربي ممثلا بالنظام العربي ليس فقط يسير في هذا الاتجاه و إنما أيضا فقد أي إمكانية موضوعية لأي خيار آخر، ولا نقول هذا من قبيل توكيد ألفاظ معينة، وإنما لان التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي اعتمدها النظام العربي منذ أواسط السبعينات أعادت جمع وتوزيع ثروة المجتمع على قاعدة الإثراء غير المشروع، وتوسعت مقابل ذلك طبقة الفقراء والمهمشين.
لقد تم تهميش التعليم و إسقاط القيم والمفاهيم التي تعلي شأن العلم، وعادت مرة أخرى القيمة الرئيسية للمال بغض النظر عن مصادره، ووجد جيش من المتعلمين أنفسهم و قد تخلت عنهم دولهم، و تواطأ عليهم مجتمعهم، ومرة أخرى جرى بشكل منظم تحطيم القيمة أو الرافعة التي نهضت بالطبقات الفقرية في المجتمع في الخمسينات و الستينات، وأتاحت أمامها أفاق من التطور الاجتماعي والاقتصادي لا حدود لها، بدا أن القيم التي تساير هذا التحول و تقيم له قواعده تعزز قيما مناهضة لقيم المعرفة الدينية، و التاريخية التي يتشكل منها المخزون الثقافي الشعبي لهذه الأمة.[9]
إن حالة من التغريب تولدت داخل مجتمعاتنا خلال العقدين الماضيين، وأفسحت هذه الحالة المجال واسعا لبروز ظاهرة الهجرة داخليا، الهجرة إلى الداخل الإسلامي، والقطيعة مع هذا المجتمع الجديد، ومن الخطأ اعتبار هذه الحالة حالة مرضية، أو نتاج ثقافة ضحلة، وإنما يجب النظر إليها باعتبارها رد فعل مباشر وعفوي تلجأ إليه الشعوب في كل مرة تشعر فيه بالخطر وهو يقترب من هويتها الخاصة، وهوية العرب هي مزيج من تفاعل العروبة و الإسلام.
إن الشرق أوسطية كمفهوم و استراتيجية (13) شيء مناقض للعروبة كمفهوم، واستراتيجية، و كان من المفارقات المؤلمة أن يمتنع أصحاب القرار العرب عن الاجتماع تحت مظلة العروبة و يسارعون ركضا للالتقاء تحت مظلة الشرق أوسطية, و قد يبدو أن هذا المفهوم وليد مرحلة متقدمة أعقبت حرب الخليج الثانية، لكن التدقيق في جوهر هذا المفهوم وفي السياسات التي تستند إليه سوف يجده حاضرا في العقل السياسي العربي منذ فتر طويلة وعلى الأقل منذ خيار كامب ديفيد.
والشرق أوسطية كما تصادم العروبة، فإنها تتصادم بعنف مع الإسلام، ولا أتحدث هنا عن الإسلام فلسفيا أو عقائديا، و إنما أتحدث عن الإسلام بالمفهوم البسيط الموروث الذي يشعر به كل عربي مسلم، كما يشعر بوجه من أوجهه كل عربي غير مسلم،
وكان واضحا منذ أن طرح رئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق والرئيس الراهن للكيان شيمون بيريس رؤيته للنظام الشرق أوسطي، أن تمرير هذه الرؤية يحتاج إلى تدمير كل مفهوم إسلامي، وإلى تغيير أو تغييب مفاهيم و أفكار، و نصوص تمثل مقدسات عن المسار العام للإسلام وللأمة العربية والإسلامية .
و بمثل ما أصبح مألوفا أن نتابع على شاشات التلفزيون وفي وسائل الإعلام لقاءات واجتماعات القادة السياسيين العرب بنظرائهم الصهاينة، فإنه صار مألوفا أن نتابع مشاهد حميمة لعلاقات هؤلاء القادة أو زوجاتهم بالمنظمات الاجتماعية الصهيونية أو المتولدة عنهاـ الحركة الماسونية ، نوادي الروتاري ، نوادي الليونزـ إن هذا يصادم الوجدان الشعبي بشدة، و يعطي مصداقية لكل الطروحات التي يتقدم بها قادة التيار الإسلامي، ثم امتد الأمر الى المضي في تنفيذ رغبات أعتى قيادة شهدها البيت الأبيض في مناهج التعليم الديني والقومي في بلداننا بما يعزز توليد فكر ديني مهادن ومستسلم، ولعل ما تابعناه جميعا في إطار مؤتمرات " مهرجانات " حوار الأديان يندرج في هذا المضمار، لقد ظهرت حالة من الموالاة بين النظام العربي و بين مراكز القيادة في الغرب وفي الكيان الصهيوني، ولا شك انه من الصعوبة بمكان أن يقنع المواطن العربي أن هذه الموالاة تتوافق والعقيدة الإسلامية، أو إنها تستهدف أو توفر مصلحة عربية، ومما يثير ضمير المتابع العربي أن هذا التوافق والموالاة تأتي في وقت يشهد فيه الوطن حالة من الغليان الداخلي، والضغط والصدام. وفي مرحلة من العتو الصهيوني والأمريكي لا مثيل لها، وشواهد حصار غزة، ومذابح العراق،وما يحدث في الصومال وأفغانستان لا تحتاج إلى مزيد.
ثالثا: انتشار فلسفة العلمانية و مظاهرها:
بشكل ما قدمت العلمانية باعتبارها البديل القادر على تجنيد النظام العربي بالقوة على مواجهة افتقاده لمشروع النهضة السابق، و أيضا بالقوة القادرة على مواجهة نمو التيار السياسي الإسلامي، و اعتمدت هذه العلمانية كخطط اجتماعية، اقتصادية، وترك لأجهزة الإعلام، و أحزاب السلطة، و الأحزاب المعلنة لعلمانيتها أن تتولى بسط و ترويج الأساس المعرفي لهذه العلمانية.
و نستطيع أن نقرر هنا أن العلمانية أصبحت مصدرا لتفتيت المجتمع، و في الوقت نفسه منبعا لتوليد الأحزاب الدينية، و بذلك عملت العلمانية في واقعنا العربي الإسلامي في الاتجاه المعاكس لما افترضته نظرية العلمانية 77777الذين حين قال بها أصحابها زعموا إنها شرطا لبناء المجتمع الحديث مجتمع المساواة و الحرية والتقدم، و إنها شرط لتخليص هذه المجتمعات من الطائفية، و الانقسامات غير الصحية، والأوهام المعرفية.
و يبدو لي أن المنادين بالعلمانية لم يستطيعوا أن يرصدوا الفارق بين عمل العلمانية وآليتها في المجتمع الغربي المسيحي، و بين فعلها و أثارها في مجتمعاتنا، و بعيدا عن مظاهر تجميل العلمانية التي قد يلجأ إليها بعض الباحثين فإن العلمانية (14) في وصفها النموذجي تعني تنحية الدين عن المجتمع لذلك هي من الناحية المعرفية معنية " بدور الإنسان في العالم، و بتأكيد استقلالية العقل الإنساني في سيرورة توظيف الإنسان للعقل في أي من المجالات التي يوظفه فيها، و الأهم من ذلك إنها معنية بجعل دور الإنسان مشتملا على اكتشافه باستقلال عن الدين ".
و من هذه القاعدة المعرفية فان العلمانية معنية بتأكيد أن العلاقة " بين الدين والسياسة لا يمكن أن تتجاوز كونها علاقة تاريخية، أي علاقة جائزة، لا ضرورية".
إن الباحثين يدركون تراجع دور ومكانة العلمانية في مختلف المجتمعات والمنصفون منهم يقدمون شواهد على تمسك المجتمع الغربي – حيث ولدت العلمانية –بالممارسة الدينية، و المؤسسات الدينية (15) و تأتي هذه الشواهد من فرنسا وبريطانيا و ألمانيا و الولايات المتحدة، و مع ذلك فإن العلمانيين عندما يرون أنهم إذ نجحوا في نفي وجود صلة ضرورية بين الدين و السياسة فإنهم يكونون قد نجحوا في تبيان أن " الذين يصرون على أن العلاقة بين الإسلام و السياسة هي علاقة ضرورية تفرضها ماهية الإسلام لدين إما مخطئون في فهمهم للإسلام أو أن الإسلام متناقض داخليا "(16).
إن العلمانية مدمرة، وقد استطاعت أن تستفز المجتمع العربي الإسلامي إلى أقصى حد، وعلى الأخص و إنها جاءت مترافقة مع سياسات اجتماعية وإعلامية وأخلاقية تصب كلها في هذا الفهم العلماني و لعل ما شهدناه من معارك فكرية و قانونية بشأن استعادة عمل قانون الحسبة في مصر كان تعبيرا عن هذا الاستفزاز بغض النظر عما إذا كان هذا التعبير قد جاء ناضجا أم غير ناضج.[10]
رابعا: حرب المجاهدين في أفغانستان:
و قدمت حرب المجاهدين ضد الحكم الشيوعي في أفغانستان فرصة فريدة للقوى الإسلامية الصاعدة بمثل ما قدمت أوضح الصور وأنقى النماذج عن تداخل المصالح و تشابك الاعتبارات بين أطراف من المفترض أن تكون متناقضة.
و موَّل النظام العربي جزءا وافرا من حركة المجاهدين وعملت أجهزة الإعلام الرسمية العربية على الترويج لهذه الحرب، وعلى تأجيج الحماس الشعبي معها كما عملت أجهزة الأمن العربية على تسهيل تحرك المتطوعين العرب للاشتراك فيها.
و لم يأت هذا التحرك اندفاعا ذاتيا من النظام العربي، و إنما جاء كجزء من اشتراك هذا النظام في استراتيجية أمريكية لجعل أفغانستان السقطة العظمى للاتحاد السوفياتي، كما كانت فيتنام كذلك بالنسبة للولايات المتحدة، و لم يقتصر الأمر بين النظام العربي وواشنطن على التعاون في أفغانستان، و إنما امتد من القارة الإفريقية إلى أمريكا اللاتينية، و تحرك خبراء التدريب و التسليح في المخابرات المركزية الأمريكية للقيام بمهماتهم في صفوف المجاهدين، و لم يكن هذا خافيا على أحد وفي مقدمة من كان يعرف ذلك بدقة قادة المجاهدين الأفغان والعرب و قيادات الأحزاب السياسية الإسلامية في الوطن العربي.
لقد لعب النظام العربي بالنار وهو يسخر مفاهيم الجهاد الإسلامي، والشباب المسلم المتدفق حيوية واندفاع في أغراض تكتيكية مؤقتة، وفي مرحلة كان هذا النظام العربي فيها يسير بسرعة في اتجاه إعلان الانخراط الكامل ضمن مناطق النفوذ والهيمنة الأمريكية، والدخول علنا وبوضوح في إطار أنماط الاستهلاك و القيم التي تصدرها الولايات المتحدة.
و يبدو لي أن تكثيف و تعزيز الحديث عن الجهاد الإسلامي في أفغانستان لم يكن يستهدف فقط زيادة فاعلية هذا الجهاد، وإنما كان يستهدف في المقام الأول – بالنسبة لأركان النظام العربي – تغطية الجانب المظلم من علاقة هذا النظام مع أمريكا من طرف، و مع الكيان الصهيوني من طرف آخر.
أن أحدا من رجال الفكر و القرار السياسي في أي مكان من العالم لم يكن يتوقع أن ينتهي الاتحاد السوفيتي مع نهاية الحرب الأفغانية (17)، و أن تقفل صفحة الحرب الباردة و تخرج روسيا من استراتيجية المواجهة عند واشنطن، و أن يتغير[11]بين ليلة و ضحاها وجه العالم، و بدأت واشنطن على الفور تعيد ترتيب البيت العالمي الذي وجدت نفسها تتربع على قمته، و كانت قضية المجاهدين من مخلفات مرحلة الحرب الباردة التي اندثرت، وظن للوهلة الأولى أن بإمكان النظم الإقليمية من باكستان إلى مصر و الجزائر أن تنهي هذه الظاهرة بأيسر الطرق، ولكن هذا الظن خاب سريعا، وظهرت آثار هؤلاء المجاهدين في العديد من البلاد العربية والغربية ووصلت هذه الآثار إلى قلب الولايات المتحدة، وكانت آخر هذه الآثار هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001
حرب المجاهدين من وجهة نظر التيارات الإسلامية كانت ميدان التدريب، و قد ظن قادة هذه التيارات أن بإمكانهم أن يتخذوا من باكستان وأفغانستان ميدانا للتدريب والتجربة، والتجنيد، تحت سمع و بصر أجهزة الأمن العربية والأمريكية متدثرين بالأهداف المرحلية المشتركة، و بالرغبة الذاتية لدى النظام العربي في التستر، وقد يرى بعضنا أن هذا الظن فيه الكثير من الاستهانة بقدرات الآخرين، وفيه الكثير من الوهم في إمكانية الاستقلال عن الممولين والمدربين من التحالف الأمريكي العربي، إننا هنا لا نحكم ونقيم ، وإنما نصف ونحدد، ونقول هكذا جرت الأمور ووفق ما حدث و يحدث في مصر والجزائر والمغرب وأوروبا والولايات المتحدة، فإن هؤلاء الذين تخرجوا من مدارس الجهاد في أفغانستان استطاعوا أن يتسللوا من بين أصابع مدربيهم ومموليهم ومراقبيهم وأن يبدأوا تحركهم الخاص.
خامسا: انتصار الثورة الإيرانية:
و الثورة الإيرانية واحدة من لهم أحداث النصف الثاني من القرن العشرين، وانتصارها جاء في وقت كانت فيه السياسة الأمريكية تسجل النصر تلو النصر، وتعيد بسط هيمنتها على المنطقة المدعوة باسم الشرق الأوسط.
و دون التوقف عند التحولات التي أصابت الثورة في مرحلة لاحقة من انتصارها، فإن الشعارات التي رفعتها ووجهت حركتها و إيقاع الحركة الجماهيرية الباهرة التي كتبت النصر، و توتر و اضطراب مراكز القرار الغربي في التعامل مع الثورة، وفي مقدمة هذه المراكز " واشنطن "، كل ذلك أعطى الحركة السياسية الإسلامية دفعة من الحيوية والأمل ليس لها مثيل، و كانت إيذانا لكل مكونات العمل السياسي الإسلامي بضرورة تغيير أساليبها في العمل، و تطوير طموحاتها.
إن هذا الذي تحقق بانتصار الثورة الإيرانية على النظام البائد، و بانتصارها على التحدي الأمريكي هو أهم ما قدمته هذه الثورة، لقد قدمت " النموذج القادر "، وما يشير إليه رجال السياسة أو الباحثون من تولي إيران عمليات الدعم المادي بمختلف أشكاله للحركات الإسلامية العربية شيء اقل أهمية بكثير.
إن صلة الثورة الإيرانية بالحياة العربية لم تقتصر على تأثيرها في الحركات السياسية الإسلامية و إنما تحولت منذ بشائرها الأولى إلى عنصر فاعل في المنطقة العربية و أحداثها، وإذا كانت حرب الخليج الأولى قد أعاقت كثيرا أن يمضي هذا التفاعل إلى نهاياته الطبيعية، فان الثورة الإسلامية في إيران صارت جزءا من مكونات الصراع العربي الصهيوني، و أبرزت فعالية البعد الإسلامي في هذا الصراع، وكان التحالف الفلسطيني الإيراني لفترة، و التحالف السوري الإيراني المستمر مؤشرا على مدى ما يمكن أن يقدمه البعد الإسلامي من قدرة على مقاومة سياسات الهيمنة الأمريكية.ولقد جاء أثر هذا التحالف على الساحة اللبنانية ، سواء في تحقيق الانتصار بتحرير الجنوب في العام 2000 ، أو في هزيمة الكيان في حربه على لبنان في تموز من عام 2006ليعطي الدليل على آفاق يمكن الاعتماد عليها في التحالف مع إيران أو الاستناد إليها .
يجب أن ننتبه هنا إلى أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران تزامن مع انطلاق حرب المجاهدين الأفغان، و لا نكون مبالغين إذا قلنا أن انتصار الثورة الإسلامية شجع الإسلاميون أن ينطلقوا إلى أفغانستان، وأن ينخرطوا في مواجهة تمولها و تغذيتها وتستغلها قوى عربية ودولية يعارضها هؤلاء دون أن يخشوا في أن يؤدي ذلك إلى ضياعهم في خضم قوة وعنف هذا التحالف العربي الدولي.
لقد تعاضد الحدثان، الثورة الإسلامية الإيرانية و حرب المجاهدين الأفغان في تأمين مستلزمات العنف الإسلامي في المجتمعات العربية بعد أن توفرت أرضية ذلك العنف بهزيمة مشروع النهضة الذي أطلقه جمال عبد الناصر، و بافتقاد النظام العربي العلماني القائم الذي هزم ذلك المشروع لأي مشروعية اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية.
سادسا :هجمات الحادي عشر من سبتمبر
يجب الإقرار أن هذه الهجمات مرت من تحت سمع وبصر أجهزة الأمن الأمريكية والغربية ، وما هو ثابت بدقة أنها لم تكن كحدث مفاجئة ، قد يكون المفاجئ حجمها أو طبيعة الأهداف التي استهدفتها لكن توقع توجيه ضربة من قوى إسلامية داخل الولايات المتحدة ، وأن تكون هذه الضربة مؤثرة، كان أمرا منتظرا هكذا أكدت تقارير لجان التحقيق التي أقامها الكونغرس الأمريكي، أو التي صدرت عن أجهزة الأمن الأمريكية المختلفة ، ولقد كان واضحا للمتابع العادي أن الإسلاميين يعدون لمثل هذه الضربة وقد استهدفوا قبل أعوام قليلة مبنى التجارة العالمي نفسه عن طريق تفجير سيارة مفخخة محملة بكميات ضخمة من المتفجرات، وهي القضية التي حوكم وسجن على ضوئها الشيخ عمر عبد الرحمن، بل إن التحقيقات أظهرت أن معظم منفذي هذه الهجمات كانوا تحت المراقبة، واستهدف بالتفجيرات قبل ذلك سفارات ومصالح أمريكية، وتم توجيه الاتهام الأمريكي للشيخ أسامة بن لادن، وقصف السودان لهذا السبب.
إننا هنا لا نريد أن نبحث في هذه الهجمات ولا أن نصدر حكما حول طبيعتها، ولكنا نريد أن نشير إلى أنها قدمت دليلا واضحا ومباشرا على قدرة الحركات الإسلامية العنفية على توجيه ضربة بالغة القوة والخطورة إلى القوة العظمى وفي عقر دارها، وهو أمر ما استطاعت أن تفعله قوة ما أو جهة ما في العالم قبل ذلك.
إن هذا الفعل " الإنجاز " سلط الضوء على قدرات وساحات للمواجهة والفعل اختص بها التيار الإسلامي ، بل كاد أن يفرده بالقدرة على الفعل المؤثر المواجه لقوى الطغيان العالمي وأثبت فيها فاعلية بغض النظر عن حكمنا عليها وعلى مشروعيتها الأخلاقية والدينية ، بل إن العديد من القوى الإسلامية اعتبرت آثارها ـ رغم فداحتها ـ بمثابة نشر للإسلام، ودفع للقوى المختلفة للتعرف عليه، وتوكيد وتعزيز لقدرة المسلمين على مواجهة أعتى القوى والتحالفات العالمية ,
سابعا: احتلال أفغانستان والعراق :
وإذا كان احتلال أفغانستان قد أزاح سلطة حركة طالبان التي كانت معتبرة سلطة إسلامية مجاهدة، هيأت إقليما للقوى الإسلامية المجاهدة يمكن الركون إليه، وإذا كان احتلال العراق قد قدم دليلا إضافيا صارخا وصادقا على عتو القوى العظمى تتصدرها الولايات المتحدة، وعلى تواطؤ المجتمع الدولي معها، ورضوخه لمنطقها، فإن احتلال هذين البلدين، ويستتبعهما دخول القوات الأثيوبية إلى الصومال قدم للقوى الإسلامية المجاهدة عنصرين رئيسيين فاعلين :
**عنصر فكري عقدي: يؤكد عدم جدوى الركون إلى المجتمع الدولي وتوازناته في مواجهة أي ظلم يقع على القوى المستضعفة، وبالتالي ليس أمام هذه القوى غير المقاومة وانتزاع حقها بيدها، وهذه فكرة جوهرية لدى التيار الإسلامي المقاتل، فكرة تبنى عقديا على أساس عقيدة الولاء والبراء، وهنا يكون المجتمع الكافر ملة واحدة، ويكون استهداف هذا المجتمع وكل مكونات القوة فيه الأمة الإسلامية وعناصر ومظاهر النهوض فيها ،
** وعنصر مادي حركي: حيث فتح احتلال هذين البلدين جغرافيا سياسية واسعة ومؤثرة تستطيع هذه القوى أن تمارس فيها جهادها، وتقدم عبرها نموذجها في الجهاد، وتصوغ فيها نظريتها في مواجهة العدو، ولابد من الاعتراف بأن هذه القوى أثبتت فاعلية كبيرة في العراق وأفغانستان بل صارت هي القوة الكبرى المؤثرة في أفغانستان، وقوة كبرى بين القوى المقاومة في العراق.
قد يجد المتابع فروقا حقيقية وجوهرية بين ممارسة هذه القوى في أفغانستان عنها في العراق، لكن بحث هذه الفروق، ودواعيها، والإشكالات التي خلفتها ميدانيا ليس من مهمة هذا البحث ولا من انشغالاته.
إن منطق القوى الإسلامية المقاتلة، وطروحاتها، وفكرها، تَعَزز نتيجة المسلك الأمريكي الغربي في أفغانستان والعراق، بمثل ما عززت ممارسة هذه القوى وقدرتها على الفعل هذا المنطق النظري، بل نستطيع أن نقول بشيء من الاطمئنان ، أن المنطق الأمريكي الغربي والمسلك الأمريكي الغربي هزما في أفغانستان والعراق بفعل المقاومة المسلحة كما هزم العدو الصهيوني تجاه لبنان وثبت عجزه تجاه فلسطين ، وهذا كله جاء لصالح الطرف الآخر ن وقد كانت القوة الإسلامية المقاتلة تمثل القسم الأوفر من الجانب الآخر
خاتمة:
من السهل أن يحشد أصحاب القرار في الحياة العربية ما هو ممكن من أجهزة الإعلام، ومن قوى مادية وأمنية لمواجهة تحرك التيار السياسي الإسلامي بشقيه السلمي و العنيف، لكن قد أصبح واضحا أن هذه المواجهة لا تستطيع أن تحسم الأمر، وأن نتائجها دامية، و مدمرة لإمكانات الوطن والأمة، وأن النتيجة الوحيدة لها الدفع بأوطاننا أكثر فأكثر في أحضان نظام دولي لا يرحم.
و قد يبدو أن خيار مواجهة قوى التيار الإسلامي للنظام العربي هو أحد الخيارات الرئيسية لها لكن لم تحصد أي قوة من قوى هذا التيار محصولا ايجابيا من هذه المواجهة بل أن ملابسات هذا الصراع خلقت المزيد من الانقسام في هذا التيار.
و لسنا هنا في معرض توجيه النصائح لهذا الجانب أو ذلك، لكن استمرار هذه المواجهة مدمر لمجتمعاتنا، وإذا كنا قد سمعنا يوما ما عن أهمية وضرورة تجفيف منابع العنف في حياتنا فإن ما يجب إدراكه أن هذا التجفيف الذي سيؤدي إلى إعادة الصحة إلى هذه الحياة لا يمكن أن يفلح إلا إذا تم على قاعدة مراجعة فعلية من قبل النظام العربي لأسباب هذا العنف، ومن هنا تبرز أهمية أن يستعيد النظام العربي روحه الإسلامية والعربية، وأن يقطع منافذ التمدد الغربي الصهيوني في جسده وأن يوقف مظاهر الفساد و الخلل الاجتماعي لمؤسساته، وأن يطلق طاقات الأمة العربية الإسلامية مستندا في ذلك إلى تأصيل حقيقي لقضايا الحرية و الديمقراطية، وأظن أن هذا هو السبيل الأجدى لمواجهة الحالة الراهنة التي نعيشها.
لكن السؤال الملح هنا : هل هذا ممكن ؟!.
هل يحمل النظام العربي الرسمي أي إمكانية أو احتمال لمثل هذه المراجعة؟! .
من أسف أن نقول إن كل ما هو متوفر من شواهد ومؤشرات في حياتنا القومية العامة، وفي حياة أي قطر أو إقليم عربي لا توفر ردا إيجابيا، فالنظام العربي ذهب بعيدا جدا في طريق الخضوع والخنوع للخارج، وقطع مع كل تطلع أو فرصة للإصلاح الداخلي في اتجاه الديموقراطية أو مواجهة الفساد، لذلك فإن توقع أي تطور ايجابي في سلوك النظام العربي تجاه هذه القضية كما تجاه غيرها من القضايا والظواهر التي تتحدى حياتنا العامة مما لا يجوز أن يغامر به أي فكر جاد ولا أي تنظيم وقوة سياسة تتطلع إلى تغيير حقيقي في حياتنا ومستقبلنا
د. مخلص الصيادي
المراجع:
** لمزيد من سبر الأفكار التي تعالجها أو تقدمها هذه الورقة يمكن العودة إلى الكتب التالية:
** أبو عمرو – د. زياد أبو عمرو الحركة الإسلامية في الضفة الغربية و قطاع غزة : الإخوان المسلمون و حركة الجهاد – جامعة بير زيت 1989 .
**أتالي – جاك أتالي أفاق المستقبل ، ترجمة : محمد زكريا إسماعيل ، تقديم : عبد الله عبد الدائم ، دار العلم للملايين – لبنان 1991 .
** بيريس – شيمون بيريس الشرق الوسط الجديد ، الأهلية للنشر – بيروت 1994 .
** الجراح وعز الدين – الأحزاب و القوى السياسية في سوريا ( 1961
أكرم الجراح و طلال عز الدين – 1985 )، القاهرة 1985.
** مسعود، مسعود الخضرة الشيخ عبد العزيز الثعالبي، بيروت 1995.
** رمضان، د.عبد العزيز رمضان جماعات التكفير في مصر ( الأصول التاريخية و الفكرية )، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1995.
** الصيادي، مخلص الصيادي الأزهر و تاريخ تطوره ، بيروت 1992 .
** ضاهر، عادل ضاهر الأسس الفلسفية للعلمانية ، دار الساقي – بيروت 1993 .
** عبد الحليم، محمود عبد الحليم الإخوان المسلمون ( رؤية من الداخل )، القاهرة 1980 .
** العظمة، د. عزيز العظمة العلمانية من منظور مختلف ، مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت 1992 .
** النمر، عبد المنعم النمر الاجتهاد ، القاهرة 1981 .
** نيكسون، ريتشارد نيكسون أمريكا و الفرصة التاريخية ، ترجمة : محمد زكريا إسماعيل ، دار بيسان – لبنان 1993.
** مركز الأبحاث و التنمية مستقبل الأصولية في العالم العربي
في، بينجهاتن – نيويورك الثمانينات (غير مطبوع ).
** مركز دراسات الوحدة العربية ندوة العرب و تحديات النظام الشرق الوسطي، - بيروت. مجلة المستقبل، العدد 179، يناير 1994.
(1) مستقبل الأصولية في العالم العربي في الثمانينات – مركز الأبحاث والتنمية، بينجهامتن، نيويورك (غير مطبوع ).
(2) أكرم الجراح – طلال عز الدين، الأحزاب و القوى السياسية في سوريا 1961 – 1985، ص481، القاهرة 1985.
(3) د. عبد العظيم رمضان: جماعات التكفير في مصر – الأصول التاريخية و الفكرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1995.
(4) مسعود الخضره: الشيخ عبد العزيز الثعالبي – بيروت، 1995م.
(5) د. عبد المنعم النمر: الاجتهاد – القاهرة 1981م.
(6) محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون – رؤية من الدخل، القاهرة.
(7) د. زياد أبو عمرو: الحركة الإسلامية في الضفة الغربية و قطاع غزة – جامعة بيرزيت 1989.
(8) عبد الحليم محمود: الإخوان المسلمون – رؤية من الداخل، ج1، القاهرة: 1982م.
(9) مخلص الصيادي: الأزهر و تاريخ تطوره – رسالة ماجستير، بيروت 1985.
(10) ريتشارد نيكسون: أمريكا و الفرصة التاريخية، ترجمة: محمد زكريا إسماعيل – دار بيسان، بيروت، 1992.
(11) الفريق أول محمد فوزي: حرب الثلاث سنوات، دار الوحدة – لبنان، 1981م.
(12) شيمون بيريس: الشرق الأوسط الجديد، ترجمة: محمد حلمي عبد الحافظ، الأهلية للنشر و التوزيع – عمان ط1، 1994.
(13) د. احمد يوسف احمد، العرب و تحديات النظام الشرق أوسطي ( أعمال ندوة ) – مناقشة لبعض الأبعاد السياسية، مجلة المستقبل العربي، العدد 179، يناير 1994، بيروت.
(14) عادل ضاهر: الأسس الفلسفية للعلمانية، دار الساقي، لبنان 1993.
(15) د. عزيز العظمة: العلمانية من منظور مختلف، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان 1992.
(16) عادل ضاهر: المصدر السابق.
(17) جاك أتالي: أفاق المستقبل، ترجمة: محمد زكريا إسماعيل، تقديم عبد الله عبد الدايم، دار العلم للملايين، لبنان 1991.